وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والأعناب منافع للعباد ، ومصالح من أنواع الرزق الحسن الذي يأكله العباد طريًّا ونضيجا وحاضرا ومدخرا وطعاما ، وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها ، ومن السكر الذي كان حلالا قبل ذلك ، ثم إن الله نسخ حلَّ المسكرات ، وأعاض عنها بالطيبات من الأنبذة ، وأنواع الأشربة اللذيذة المباحة .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، عن الله كمال اقتداره ، حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب ، فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة ، وعلى شمول رحمته حيث عم{[462]} بها عباده ويسرها لهم ، وأنه الإله المعبود وحده ، حيث إنه المنفرد بذلك .
( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) .
هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء . تتخذون منه سكرا [ والسكر الخمر ولم تكن حرمت بعد ] ورزقا حسنا . والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقا حسنا ، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها ، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب ، وليس فيه نص بحلها ، بل فيه توطئة لتحريمها ( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) . . فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق العبودية له وهو الله . .
{ ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، متعلق بمحذوف ، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرهما ، وقوله : { تتخذون منه سكراً } ، استئناف لبيان الإسقاء أو ب { تتخذون } ، ومنه تكرير للظرف تأكيدا ، أو خبر لمحذوف ، صفته { تتخذون } ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ، وتذكير الضمير على الوجهين الأولين ؛ لأنه للمضاف المحذوف ، الذي هو : العصير ، أو لأن ال { ثمرات } ، بمعنى : الثمر ، وال { سكر } ، مصدر ، سمي به الخمر . { ورزقا حسنا } ، كالتمر ، والزبيب ، والدبس ، والخل . والآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر ، فدالة على كراهتها ، وإلا فجامعة بين العتاب والمنة . وقيل ال { سكر } ، النبيذ . وقيل : الطعم . قال :
جعلتُ أعراض الكرام سُكرا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : تنقلت بأعراضهم . وقيل ما يسد الجوع من السكر ، فيكون الرزق ما يحصل من أثمانه .
قال الطبري : التقدير : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، ما { تتخذون } ، وقالت فرقة : التقدير : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ، شيء { تتخذون منه } ، ويجوز أن يكون قوله : { ومن ثمرات } ، عطفاً على { الأنعام } [ النحل : 66 ] ، أي : ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة ، ويجوز أن يكون عطفاً على { مما } [ النحل : 66 ] ، أي : ونسقيكم أيضاً مشروبات من ثمرات ، والسكر ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة ، فقال ابن عباس : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، وأراد بالسكر : الخمر ، وبالرزق الحسن : جميع ما يشرب ويؤكل حلالاً من هاتين الشجرتين ، وقال بهذا القول ابن جبير ، وإبراهيم ، والشعبي ، وأبو زيد ، وقال الحسن بن أبي الحسن : ذكر الله نعمته في السكر ، قبل تحريم الخمر ، وقال الشعبي ومجاهد : السكر السائغ من هاتين الشجرتين ، كالخل والرب والنبيذ ، و «الرزق الحسن » : العنب والتمر ، قال الطبري : والسكر أيضاً في كلام العرب ، ما يطعم ، ورجح الطبري هذا القول ، ولا مدخل للخمر فيه ، ولا نسخ من الآية شيء ، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر : إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر ، وفي هذه المقالة درك ؛ لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «حُرمت الخمر بعينها ، والسَّكَر من غيرها »{[7360]} ، هكذا في الرواية الصحيحة بفتح السين والكاف ، أي : جميع ما يسكر منه حرم ، على حد تحريم الخمر قليله وكثيره ، ورواه العراقيون ، و «السُّكْر » : بضم السين وسكون الكاف ، وهذا مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره -من غير خمر العنب- ، فقليله حلال ، وباقي الآية بين .
عطف على جملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } [ سورة النحل : 66 ] .
ووجود { من } في صدر الكلام يدلّ على تقدير فعل يدلّ عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو { نسقيكم } [ النحل : 66 ] . فالتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب . وليس متعلقاً ب { تتخذون } ، كما دلّ على ذلك وجود ( من ) الثانية في قوله : { تتخذون منه سكراً } المانع من اعتبار تعلّق { من ثمرات النخيل } ب { تتخذون } ، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصحّ جعله متعلقاً ب { تتخذون } مقدماً عليه ، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس .
وهذا عطف منّة على منّة ، لأن { نسقيكم } وقع بياناً لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } .
ومفاد فعل { نسقيكم } مفاد الامتنان لأن السقي مزية . وكلتا العِبرتين في السقي . والمناسبةُ أن كلتيهما ماء وأن كلتيهما يضغط باليد ، وقد أطلق العرب الحَلْب على عصير الخمر والنبيذ ، قال حسّان يذكر الخمر الممزوجة والخالصة :
كلتاهما حَلَب العصير فعاطني *** بِزُجاجة أرخاهما للمفصل
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جَعْل التذييل بقوله تعالى : { إن في ذلك لآية } عقب ذكر السقيين دون أن يُذيّل سقي الألبان بكونه آية ، فالعبرة في خلق تلك الثمار صالحة للعصر والاختمار ، ومشتملة على منافع للناس ولذّات . وقد دلّ على ذلك قوله تعالى : { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } . فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل } [ سورة النحل : 11 ] الآية .
وجملة { تتخذون منه سكراً } الخ في موضع الحال .
و ( من ) في الموضعين ابتدائية ، فالأولى متعلّقة بفعل { نسقيكم } المقدر ، والثانية متعلقة بفعل { تتخذون } . وليست الثانية تبعيضية ، لأن السكر ليس بعض الثمرات ، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين .
والسكر بفتحتين : الشراب المُسْكِر .
وهذا امتنان بما فيه لذّتهم المرغوبة لديهم والمتفشّية فيهم ( وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكّية وتحريم الخمر نزل بالمدينة ) فالامتنان حينئذٍ بمباح .
والرزق : الطعام ، ووصف ب { حسناً } لما فيه من المنافع ، وذلك التمر والعنب لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار ، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلاً ورُبّاً .
وجملة { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة .
والقول في جملة { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } مثل قوله آنفاً : { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [ سورة النحل : 65 ] . والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر .
واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبّر فيما وصفته الآية هنا ، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم .