ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض الأعمال الإسلامية وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم { وما تخفي صدورهم أكبر } مما يسمع منهم فلهذا { لا يألونكم خبالا } أي : لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين { قد بينا لكم الآيات } أي : التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية { لعلكم تعقلون } فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو ، فليس كل أحد يجعل بطانة ، وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه .
وفي نهاية الدرس الذي ابتدأ بيانا لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف ، وكشفا لما في جدالهم من مغالطة ، وفضحا لما يريدونه بالمسلمين من سوء ، وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها ، دون أن تلقي بالا إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين . . في نهاية هذا الدرس ، ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة ، وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها ، وهم للذين آمنوا عدو . . يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة ، ما نزال نرى مصداقها في كل وقت ، وفي كل أرض . صورة رسمها هذا القرآن الحي ، فغفل عنها أهل هذا القرآن . فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم . قد بدت البغضاء من أفواههم ، وما تخفي صدورهم أكبر . قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله ، وإذا لقوكم قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . قل : موتوا بغيظكم ، إن الله عليم بذات الصدور . أن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط ) . .
إنها صورة كاملة السمات ، ناطقة بدخائل النفوس ، وشواهد الملامح ، تسجل المشاعر الباطنة ، والانفعالات الظاهرة ، والحركة الذاهبة الآيبة . وتسجل بذلك كله نموذجا بشريا مكرورا في كل زمان وفي كل مكان . ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء . يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة . فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة . وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة ، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال ، ولا يقصرون في اعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم ، والكيد لهم والدس ، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار .
وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب ، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة ؛ وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين ، وللشر المبيت ، وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم ؛ في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعا في أعداء الله هؤلاء ، وما يزال يفضي إليهم بالمودة ، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة ؛ ويتخذ منهم بطانة وأصحابا وأصدقاء ، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار . . فجاء هذا التنوير وهذا التحذير ، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر ، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين ، الذين لا يخلصون لها أبدا ، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة . ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورا على فترة تاريخية معينة ، فهو حقيقة دائمة ، تواجه واقعا دائما . . كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود . .
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم : ألا يتخذوا بطانة من دونهم . بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة . وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة . . المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعا في كل أمر ، وكل شأن ، وكل موضع ، وكل نظام ، وكل تصور ، وكل منهج ، وكل طريق !
والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم ، يوادون من حاد الله ورسوله ؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم . والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل :
( ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) . .
يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة ، أي : يُطْلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم ، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالا أي : يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن ، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة ، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم .
وقوله : { لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } أي : من غيركم من أهل الأديان ، وبطانة الرجل : هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخل أمره .
وقد روى البخاري ، والنسائي ، وغيرهما ، من حديث جماعة ، منهم : يونس ، ويحيى بن سعيد ، وموسى بن عقبة ، وابن أبي عتيق - عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ " {[5587]} .
وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام ، عن الزهري ، عن أبي سلمة [ عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه{[5588]} فيحتمل أنه عند الزهري عن أبي سلمة ]{[5589]} عنهما . وأخرجه النسائي عن الزهري
أيضا{[5590]} وعلقه البخاري في صحيحه فقال : وقال عبيد الله بن أبي جعفر ، عن صَفْوان بن سليم ، عن أبي سلمة ، عن أبي أيوب الأنصاري ، فذكره . فيحتمل أنه عند أبي سلمة عن ثلاثة من الصحابة{[5591]} والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو أيوب محمد{[5592]} بن الوَزَّان ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن أبي حَيّان التيمي عن أبي الزِّنْباع ، عن ابن أبي الدِّهْقانة قال : قيل لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة ، حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتبا ؟ فقال : قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين{[5593]} .
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة ، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ؛ ولهذا قال تعالى : { لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } .
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق بن إسرائيل ، حدثنا هُشَيم ، حدثنا العَوَّام ، عن الأزهر بن راشد قال : كانوا يأتون أنَسًا ، فإذا حَدَّثهم بحديث لا يدرون ما هو ، أتَوا الحسن - يعني البصري - فيفسره{[5594]} لهم . قال : فحدَّث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا{[5595]} فلم يدروا ما هو ، فأتوا الحسن فقالوا له : إن أنسا حَدّثنا أن رسول الله{[5596]} صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ{[5597]} ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا{[5598]} فقال الحسن : أما قوله : " ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا{[5599]} : محمد صلى الله عليه وسلم . وأما قوله : " لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ " يقول : لا تستشيروا المشركين في أموركم . ثم قال الحسن : تصديق ذلك في كتاب الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } .
هكذا رواه الحافظ أبو يعلى ، رحمه الله ، وقد{[5600]} رواه النسائي عن مجاهد بن موسى ، عن هشيم . ورواه الإمام أحمد ، عن هُشَيم بإسناده مثله ، من غير ذكر تفسير الحسن البصري{[5601]} .
وهذا التفسير فيه نظر ، ومعناه ظاهر : " لا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيّا{[5602]} أي : بخط عربي ، لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان نَقْشُه محمد رسول الله ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن يَنْقُشَ أحد على نقشه . وأما الاستضاءة بنار المشركين ، فمعناه : لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون{[5603]} معهم في بلادهم ، بل تَبَاعَدُوا منهم وهَاجروا من بلادهم ؛ ولهذا روى أبو داود [ رحمه الله ]{[5604]} لا تَتَرَاءَى نَاراهُمَا " وفي الحديث الآخر : " مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ أَوْ سَكَنَ مَعَهُ ، فَهُوَ مِثْلُهُ " ؛ فحَمْلُ الحديث على ما قاله الحسن ، رحمه الله ، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي : قد لاح على صَفَحات وجوههم ، وفلتات ألسنتهم من العداوة ، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل ؛ ولهذا قال : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .
الآن إذ كشف الله دخائل مَنْ حولَ المسلمين من أهل الكتاب ، أتمّ كشف ، جاء موقع التحذير من فريق منهم ، والتحذير من الاغترار بهم ، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة ، وهؤلاء هم المنافقون ، للإخبار عنهم بقوله : { وإذا لقوكم قالوا آمنا } [ آل عمران : 119 ] الخ . . . وأكثرهم من اليهود ، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج . وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقناعات . وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا .
والبطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثَّوب ، وجمعها بطائن ، وفي القرآن { بطائنها من استبرق } [ الرحمن : 54 ] وظاهر الثوب يسمّى الظِهارة بكسر الظاء . والبطانة أيضاً الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر ، ويسمّى الشِعار ، وما فوقه الدثار ، وفي الحديث : « الأنصارُ شعار والنَّاس دِثار » ثمّ أطلقت الثِّياب في شدة القرب من صاحبها .
ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يحالفونهم ويودّونهم من قبل الإسلام فلمَّا أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود ، ثُمّ كان من اليهود من أظهروا الإسلام ، ومنهم من بَقي على دينه .
وقوله : { من دونكم } يجوز أن تكون ( من ) فيه زائدة و ( دون ) اسم مكان بمعنى حولكم ، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره { ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } [ التوبة : 16 ] ويجوز أن تكون ( من ) للتبعيض و ( دون ) بمعنى غير كقوله تعالى { ومنَّا دون ذلك } [ الفتح : 27 ] من غير أهل ملّتكم ، وقد علم السامعون أنّ المنهي عن اتِّخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموّهون على المؤمنين بأنَّهم منهم ، ودخائلهم تقتضي التَّحذير من استبطانهم .
وجملة : { لا يألونكم خبالاً } صفة لبطانة على الوجه الأول ، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عمّا شاركها ، لكنّه يظهر بظهور آثاره للمتوسّمين . فنهى الله المسلمين عن اتّخاذ بطانة هذا شأنها وسمَتها ، ووكلهم إلى توسّم الأحوال والأعمال ، ويكون قوله { ودّوا مَا عنتُّم } وقوله { قد بدت البغضاء } جملتين في محلّ الوصف أيضاً على طريقة ترك عطف الصفات ، ويومىء إلى ذلك قوله : { قد بينّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } أي : قد بيّنا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسّمون تلك الصّفات ، كما قال تعالى : { إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين } وعلى الاحتمال الثاني يجعل { من دونكم } وصفاً ، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنَّهي عن اتِّخاذ بطانة من غير أهل ملّتنا ، وهذ الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف ، ولتعليل النَّهي ، ذلك لأنّ العداوة النَّاشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصّلة لا سيما عداوة قوم يرون هذا الدّين قد أبطَلَ دينهم ، وأزال حظوظهم . كما سنبينه .
ومعنى { لا يألونكم خبالاً } لا يقصّرون في حبالكم ، والألْوُ التقصير والترك ، وفعله ألاَ يَألو ، وقد يتوسّعون في هذا الفعل فيعدّى إلى مفعولين ، لأنَّهم ضمّنوه معنى المنع فيما يرغَب فيه المفعول ، فقالوا لا آلوك جُهداً ، كما قالوا لا أدّخرك نصحاً ، فالظاهر أنَّه شاع ذلك الاستعمال حتَّى صار التضمين منسياً ، فلذلك تعدّى إلى ما يدلّ على الشرّ كما يعدّى إلى ما يدلّ على الخير ، فقال هنا : { لا يألونكم خبالا } أي لا يقصّرون في خبالكم ، وليس المراد لا يمنعونكم ، لأن الخبال لا يُرْغب فيه ولا يسأل .
ويحتمل أنَّه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكّم بالبطانة ، لأنّ شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم ، فلمّا كان هؤلاء بضدّ ذلك عبّر عن سعيهم بالضرّ ، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير .
والخبال اختلال الأمر وفساده ، ومنه سمّي فساد العقل خبالاً ، وفساد الأعْضَاء .
وقوله { ودّوا ما عنتم } الود : المحبّة ، والعنَت : التعب الشَّديد ، أي رغبوا فيما يعنتكم و ( ما ) هنا مصدرية ، غير زمانية ، ففعل { عنتم } لمّا صار بمعنى المصدر زالت دلالته على المضي .
ومعنى { قد بدت البغضاء من أفواههم } ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول } فعبّر بالبغضاء عن دلائلها .
وجملة { وما تخفي صدورهم أكبر } حالية .
( والآيات ) في قوله : { قد بينا لكم الآيات } بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } [ الحجر : 75 ] ولم يزل القرآن يربّي هذه الأمّة على إعمال الفكر ، والاستدلال ، وتعرّف المسبَّبات من أسبابها في سائر أحوالها : في التَّشريع ، والمعاملة ليُنشئها أمَّة علم وفطنة .
ولكون هذه الآيات آياتِ فراسةٍ وتوسّم ، قال : { إن كنتم تعقلون } ولم يقل : إن كنتم تعلمون أو تفقهون ، لأنّ العقل أعمّ من العلم والفقه .