تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا }

يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه ، من قبيح الصفات وشنائع السمات ، وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى ، أي : بما أظهروه من الإيمان وأبطنوه من الكفران ، ظنوا أنه يروج على الله ولا يعلمه ولا يبديه لعباده ، والحال أن الله خادعهم ، فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها ، خداع لأنفسهم . وأي : خداع أعظم ممن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذل والحرمان ؟ "

ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه ، حيث جمع بين المعصية ، ورآها حسنة ، وظنها من العقل والمكر ، فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه "

ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } إلى آخر الآيات .

" وَ " من صفاتهم أنهم { إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ } -إن قاموا- التي هي أكبر الطاعات العملية { قَامُوا كُسَالَى } متثاقلين لها متبرمين من فعلها ، والكسل لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم ، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده ، عادمة للإيمان ، لم يصدر منهم الكسل ، { يُرَاءُونَ النَّاسَ } أي : هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر أعمالهم ، مراءاة الناس ، يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ولا يخلصون لله ، فلهذا { لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } لامتلاء قلوبهم من الرياء ، فإن ذكر الله تعالى وملازمته لا يكون إلا من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله وعظمته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

135

ثم يمضي السياق بعد هذا الوعد القاطع المطمئن للمؤمنين ، المخذل للمنافقين الذين يتولون الكافرين يبتغون عندهم العزة . . يمضي فيرسم صورة زرية أخرى للمنافقين ، مصحوبة بالتهوين من شأنهم ، وبوعيد الله لهم :

( إن المنافقين يخادعون الله - وهو خادعهم - وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس . ولا يذكرون الله إلا قليلا . مذبذبين بين ذلك . لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا ) .

وهذه لمسة أخرى من لمسات المنهج للقلوب المؤمنة . فإن هذه القلوب لا بد أن تشمئز من قوم يخادعون الله . فإن هذه القلوب تعرف أن الله سبحانه - لا يخدع - وهو يعلم السر وأخفى وهي تدرك أن الذي يحاول أن يخدع الله لا بد أن تكون نفسه محتوية على قدر من السوء ومن الجهل ومن الغفلة كبير . ومن ثم تشمئز وتحتقر وتستصغر كذلك هؤلاء المخادعين !

ويقرر عقب هذه اللمسة أنهم يخادعون الله ( وهو خادعهم ) . . أي مستدرجهم وتاركهم في غيهم ؛ لا يقرعهم بمصيبة تنبههم ؛ ولا يوقظهم بقارعة تفتح عيونهم . . تاركهم يمضون في طريق الهاوية حتى يسقطوا . . وذلك هو خداع الله - سبحانه - لهم . . فالقوارع والمحن كثيرا ما تكون رحمة من الله ، حين تصيب العباد ، فتردهم سريعا عن الخطأ ؛ أو تعلمهم ما لم يكونوا يعلمون . . وكثيرا ما تكون العافية والنعمة استدراجا من الله للمذنبين الغاوين ؛ لأنهم بلغوا من الإثم والغواية ما يستحقون معه أن يتركوا بلا قارعة ولا نذير ؛ حتى ينتهوا إلى شر مصير .

ثم يستمر السياق يرسم لهم صورا زرية شائنة ؛ لا تثير في قلوب المؤمنين إلا الاشمئزاز والاحتقار :

( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس . ولا يذكرون الله إلا قليلًا ) فهم لا يقومون إلى الصلاة بحرارة الشوق إلى لقاء الله ، والوقوف بين يديه ، والاتصال به ، والاستمداد منه . . إنما هم يقومون يراءون الناس . ومن ثم يقومون كسالى ، كالذي يؤدي عملا ثقيلا ؛ أو يسخر سخرة شاقة ! وكذلك هم لا يذكرون الله إلا قليلا . فهم لا يتذكرون الله إنما يتذكرون الناس ! وهم لا يتوجهون إلى الله إنما هم يراءون الناس .

وهي صورة كريهة - ولا شك - في حس المؤمنين . تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز ، ومن شأن هذا الشعور أن يباعد بينهم وبين المنافقين ؛ وأن يوهن العلائق الشخصية والمصلحية . . وهي مراحل في المنهج التربوي الحكيم ؛ للبت بين المؤمنين والمنافقين !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [ البقرة : 9 ] وقال هاهنا : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } ولا شك أن الله تعالى لا يخادع ، فإنه العالم بالسرائر والضمائر ، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجَرَت عليهم أحكامُ الشريعة ظاهرا ، فكذلك{[8492]} يكون حكمهم يوم القيامة عند الله ، وأن أمرهم يروج عنده ، كما أخبر عنهم تعالى أنهم يوم القيامة يحلفون له : أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده ، فقال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]{[8493]} } [ المجادلة : 18 ] .

وقوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي : هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا وكذلك في يوم القيامة كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ . يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ . فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ]{[8494]} وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . [ الحديد : 13 - 15 ] وقد ورد في الحديث : " من سَمَّع سَمَّع الله به ، ومن راءي راءي الله به " {[8495]} وفي حديث آخر : " إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ، ويعدل به إلى النار " عياذًا بالله من ذلك .

وقوله : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إَلا قَلِيلا ]{[8496]} } هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها ، وهي الصلاة . إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها ؛ لأنهم لا نية لهم فيها ، ولا إيمانَ لهم بها ولا خشية ، ولا يعقلون معناها كما روى{[8497]} ابن مردويه ، من طريق عُبَيد الله بن زَحْر ، عن خالد بن أبي عِمْران ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : يكرَه أن يقوم الرجلُ إلى الصلاة وهو كسلان ، ولكن يقوم إليها طلق الوجه ، عظيم الرغبة ، شديد الفرح ، فإنه يناجي الله [ تعالى ]{[8498]} وإن الله أمامه يغفر له ويجيبه إذا دعاه ، ثم يتلو ابن عباس هذه الآية : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى }

وروي من غير هذا الوجه ، عن ابن عباس ، نحوه .

فقوله تعالى : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى } هذه صفة ظواهرهم ، كما قال : { وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى } [ التوبة : 54 ] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة ، فقال : { يُرَاءُونَ النَّاسَ } أي : لا إخلاص لهم [ ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية من الناس ومصانعة لهم ]{[8499]} ؛ ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يُرَون غالبًا فيها كصلاة العشاء وقت العَتَمَة ، وصلاة الصبح في وقت الغَلَس ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال ، معهم حُزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار{[8500]} " {[8501]} .

وفي رواية : " والذي نفسي بيده ، لو علم أحدهم{[8502]} أنه يجد عَرْقًا سمينًا أو مَرْمَاتين حسنتين ، لشهد الصلاة ، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار " {[8503]} .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد - هو بن أبي بكر المقدمي{[8504]} - حدثنا محمد بن دينار ، عن إبراهيم الهَجَري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحْسَنَ الصلاة حيث يراه الناس ، وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة ، استهان بها ربه عز وجل " {[8505]} .

وقوله : { وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } أي : في صلاتهم لا يخشعُون [ فيها ]{[8506]} ولا يدرون{[8507]} ما يقولون ، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون ، وعما يراد بهم من الخير معرضون .

وقد روى الإمام مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق : يجلس يَرْقُب الشمس ، حتى إذا كانت بين قَرْنَي الشيطان ، قام فَنَقَر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " .

وكذا رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسماعيل بن جعفر المدني ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح{[8508]} .


[8492]:في ر: "فلذلك".
[8493]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8494]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
[8495]:صحيح البخاري برقم (6499) وصحيح مسلم برقم (2787).
[8496]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8497]:في أ: "رواه".
[8498]:زيادة من أ.
[8499]:زيادة من ر، أ.
[8500]:في ر: "في النار".
[8501]:صحيح البخاري برقم (657) وصحيح مسلم برقم (651).
[8502]:في أ: "لو يعلم أحدكم".
[8503]:رواه البخاري في صحيحه برقم (644).
[8504]:في أ: "محمد بن أبي بكر المقدسي".
[8505]:مسند أبو يعلى (9/54) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/290) من طريق زائدة عن إبراهيم الهجري به. قال الهيثمي في المجمع (10/221): "فيه إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف".
[8506]:زيادة من د.
[8507]:في د، ر، أ: "ولا يتدبرون".
[8508]:الموطأ (1/220) وصحيح مسلم برقم (622) وسنن أبي داود برقم (412) وسنن الترمذي برقم (160) وسنن النسائي (1/254).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

ومخادعة المنافقين هي لأولياء الله تعالى ، إذ يظنونهم غير أولياء ، ففي الكلام حذف مضاف ، وإلزام ذنب اقتضته أفعالهم ، وإن كانت نياتهم لم تقتضه ، لأنه لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى وقوله { وهو خادعهم } أي منزل الخداع بهم وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب ، فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم وغم قلوبهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم ، وقال السدي وابن جريج والحسن وغيرهم من المفسرين : إن هذا الخدع هو أن الله تعالى يعطي لهذه الأمة يوم القيامة نوراً لكل إنسان مؤمن أو منافق ، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق ، ونهض المؤمنون بذاك ، فذلك قول المنافقين «انظرونا نقتبس من نوركم »{[4341]} وذلك هو الخدع الذي يجري على المنافقين ، وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي «وهو خادعْهم » بإسكان العين وذلك على التخفيف ثم ذكر تعالى كسلهم في القيام إلى الصلاة ، وتلك حال كل من يعمل العمل كارهاً غير معتقد فيه الصواب تقية أو مصانعة ، وقرأ ابن هرمز الأعرج «كَسالى » بفتح الكاف ، وقرأ جمهور الناس «يرءّون » بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو دون ألف ، وهي تعدية رأى بالتضعيف وهي أقوى في المعنى من { يراءون } لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ، ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق ، وتقليله ذكرهم يحتمل وجهين ، قال الحسن : قل لأنه كان لغير الله ، فهذا وجه ، والآخر أنه قليل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر .


[4341]:- من الآية (13) من سورة (الحديد).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

استئناف ابتدائي ، فيه زيادة بيان لمساويهم . والمناسبةُ ظاهرة . وتأكيد الجملة بحرف ( إنّ ) لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله : { وهو خادعهم } .

وتقدّم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة ( 9 ) عند قوله : { يخادعون الله والذين آمنوا } وزادت هذه الآية بقوله : { وهو خادعهم } أي فقابلهم بمثل صنيعهم ، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعاً لله تعالى ، كان إمْهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجَا على المسلمين وأنّ الله ليس ناصرهم ، وإنذارهُ المؤمنين بكيدهم حتّى لا تنطلي عليهم حيلهم ، وتقديرُ أخذه إيّاهم بأخَرَة ، شبيهاً بفعل المخادع جزءاً وفاقاً . فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم أستعارة تمثيلية ، وحسنَّتَهْا المشاكلة ؛ لأنّ المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار . فالمشاكلة ترجع إلى التلميح ، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقةٌ بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلاّ محاكاة اللفظ ، سميّت مشاكلة كقول أبي الرقَعْمَق .

قالوا :

اقترحْ شيئاً نجد لك طبخه *** قلتُ : أطبخوا لي جُبَّةً وقَميصاً

و« كُسالى » جمع كسلان على وزن فُعالى ، والكَسلان المتّصف بالكسل ، وهو الفتور في الأفعال لسآمةٍ أو كراهية . والكسل في الصلاة مؤذن بقلّة اكتراث المصلّي بها وزهده في فعلها ، فلذلك كان من شيم المنافقين . ومن أجل ذلك حذّرت الشريعة من تجاوز حدّ النشاط في العبادة خشية السآمة ، ففي الحديث " عليكم من الأعمال بما تطيقون فإنّ الله لا يَمَلُّ حتّى تَمَلّوا " . ونهى على الصلاة والإنسان يريد حاجته ، وعن الصلاة عند حضور الطعام ، كلّ ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بِشَرهٍ وعزم ، لأنّ النفس إذا تطرّقتها السآمة من الشيء دبّت إليها كراهيته دبيباً حتّى تتمكّن منها الكراهِية ، ولا خطَر على النفس مثلُ أن تكره الخير .

و« كسالى » حال لازمة من ضمير { قاموا } ، لأنّ قاموا لا يصلح أن يقع وحده جواباً ل« إذا » التي شرطها « قاموا » ، لأنّه لو وقع مجرّداً لكان الجواب عين الشرط ، فلزم ذكر الحال ، كقوله تعالى : { وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً } [ الفرقان : 72 ] وقول الأحوص الأنصاري :

فإذا تَزُولُ تَزُولُ عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوادره على الأقران

وجملة { يراءَون الناس } حال ثانية ، أو صفة ل ( كسالى ) ، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل : ماذا قَصْدُهم بهذا القيام للصلاة وهلاّ تركوا هذا القيام من أصله ، فوقع البيان بأنّهم يُراءون بصلاتهم الناس . { ويُراءون } فعل يقتضي أنّهم يُرون الناس صلاتهم ويُريهم الناس . وليس الأمر كذلك ، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة ، وهذا كثير في باب المفاعلة .

وقوله : { ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً } معطوف على { يُراءُون } إن كان { يراءون } حالاً أو صفة ، وإن كان { يراءون } استئناف فجملة { ولا يذكرون } حال ، والواو واو الحال ، أي : ولا يذكرون الله بالصلاة ألاّ قليلاً .

فالاستثناء إمّا من أزمنة الذكر ، أي إلاّ وقتاً قليلاً ، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذٍ فيذكرون الله بالتكبير وغيره ، وإمّا من مصدر { يذكرون } ، أي إلاّ ذكراً قليلاً في تلك الصلاة التي يُراءون بها ، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل : التأمين ، وقول ربنا لك الحمد ، والتكبير ، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسْبيحِ الركوع ، وقراءةِ ركعات السرّ . ولك أن تجعل جملة { ولا يذكرون } معطوفة على جملة { وإذا قاموا } ، فهي خبر عن خصالهم ، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلاّ حالا قليلاً أو زمناً قليلاً وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربّه في المنشط والمكره ، أي أنّهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كلّ حال ، ويكثرون من ذكره ، وعلى كلّ تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرَهم بنعمة ربّهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه .