{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
أي : إذا توفي الزوج ، مكثت زوجته ، متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام وجوبا ، والحكمة في ذلك ، ليتبين الحمل في مدة الأربعة ، ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس ، وهذا العام مخصوص بالحوامل ، فإن عدتهن بوضع الحمل ، وكذلك الأمة ، عدتها على النصف من عدة الحرة ، شهران وخمسة أيام .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : انقضت عدتهن { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } أي : من مراجعتها للزينة والطيب ، { بِالْمَعْرُوفِ } أي : على وجه غير محرم ولا مكروه .
وفي هذا وجوب الإحداد مدة العدة ، على المتوفى عنها زوجها ، دون غيرها من المطلقات والمفارقات ، وهو مجمع عليه بين العلماء .
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : عالم بأعمالكم ، ظاهرها وباطنها ، جليلها وخفيها ، فمجازيكم عليها .
وفي خطابه للأولياء بقوله : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } دليل على أن الولي ينظر على المرأة ، ويمنعها مما لا يجوز فعله ويجبرها على ما يجب ، وأنه مخاطب بذلك ، واجب عليه .
وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها . . عدتها . وخطبتها بعد انقضاء العدة . والتعريض بالخطبة في أثنائها :
( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف . والله بما تعملون خبير ) .
( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم . علم الله أنكم ستذكرونهن . ولكن لا تواعدوهن سرا ، إلا أن تقولوا قولا معروفا . ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله . واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه . واعلموا أن الله غفور حليم ) . .
والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله . . وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة ، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية ، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة : حمار أو شاة . . . إلخ . . فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت ، بل رفعه كله عن كاهلها ؛ ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده . . وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة ، وحياة عائلية مطمئنة . جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال - ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل - وهي أطول قليلا من عدة المطلقة . تستبريء فيها رحمها ، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها . وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب . فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها . سواء من أهلها أو من أهل الزوج . ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته ، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات ، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب ، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي . لا تقف في سبيلها عادة بالية ، ولا كبرياء زائفة . وليس عليها من رقيب إلا الله :
هذا أمر من الله{[4014]} للنساء اللاتي يُتَوفّى عنهن أزواجهن : أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال{[4015]} وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ، ومستنده في غير
المدخول بها عُمُوم الآية الكريمة ، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي : أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها ، ولم يفرض لها ؟ فترددوا إليه مرارًا{[4016]} في ذلك فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابًا فمن الله ، وإن يكُن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : [ أرى ]{[4017]} لها الصداق كاملا . وفي لفظ : لها صداق مثلها ، لا وكس ، ولا شَطَط ، وعليها العدّة ، ولها الميراث . فقام معقل بن سنان{[4018]} الأشجعي فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضى به في بَرْوَع بنت واشق . ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديدًا . وفي رواية : فقام رجال من أشجع ، فقالوا : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بَرْوَع بنت وَاشِق{[4019]} .
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها ، وهي حامل ، فإن عدّتها بوضع الحمل ، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة ؛ لعموم قوله : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] . وكان ابن عباس يرى : أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع ، أو أربعة أشهر وعشر ، للجمع بين الآيتين ، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي ، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية ، المخرج في الصحيحين من غير وجه : أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة ، وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، وفي رواية : فوضعت حملها بعده بليال ، فلما تَعَلَّتْ من نفاسها تجملت للخُطَّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك ، فقال لها : ما لي أراك مُتَجَمِّلة ؟ لعلك ترجين النكاح . والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعَشْر . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حلَلَتُ حين وضعتُ ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي{[4020]} .
قال أبو عمر بن عبد البر : وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سُبَيعة ، يعني لما احتج عليه به . قال : ويصحح ذلك عنه : أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة ، كما هو{[4021]} قول أهل العلم قاطبة .
وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة ، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة ، شهران وخمس ليال ، على قول الجمهور ؛ لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحَدّ ، فكذلك{[4022]} فلتكن على النصف منها في العدة . ومن العلماء - كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية - من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام ؛ لعموم الآية ، ولأن العدة من باب الأمور الجبلية{[4023]} التي تستوي فيها الخليقة . وقد ذكر سعيدُ بن المسيب ، وأبو العالية وغيرهما : أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا ؛ لاحتمال اشتمال الرحم على حمل ، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا ، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما : " إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح " {[4024]} . فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ، والله أعلم .
قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشرة ؟ قال : فيه ينفخ الروح . وقال الربيع بن أنس : قلت لأبي العالية : لِمَ صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيها الروح . رواهما ابن جرير . ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد ، في رواية عنه ، إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا ؛ لأنها صارت فراشا كالحرائر ، وللحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن عمرو بن العاص أنه قال : لا تُلْبِسوا علينا سنة نبينا ، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر{[4025]} ورواه أبو داود ، عن قتيبة ، عن غُنْدَر - وعن ابن المثنى ، عن عبد الأعلى . وابن ماجة ، عن علي بن محمد ، عن وَكِيع - ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن مَطَر الوراق ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة ، عن عمرو بن العاص ، فذكره{[4026]} .
وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث ، وقيل : إن قبيصة لم يسمع عَمْرًا ، وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف ، منهم : سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبو عياض{[4027]} ، والزهري ، وعمر بن عبد العزيز . وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وهو أمير المؤمنين . وبه يقول الأوزاعي ، وإسحاق بن رَاهْوَيه ، وأحمد بن حنبل ، في رواية عنه . وقال طاوس وقتادة : عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصفُ عدة الحرة : شهران وخمس ليال . وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن صالح بن حَيّ : تعتد بثلاث حيض . وهو قول علي ، وابن مسعود ، وعطاء ، وإبراهيم النخَعي . وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد في المشهور عنه : عدتها حيضة . وبه يقول ابن عمر ، والشعبي ، ومكحول ، والليث ، وأبو عبيد ، وأبو ثَور ، والجمهور .
قال الليث : ولو مات وهي حائض أجزأتها . وقال مالك : فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر . وقال الشافعي والجمهور : شهر ، وثلاثة أحب إلي . والله أعلم .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها ، لما ثبت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا " {[4028]} . وفي الصحيحين أيضا ، عن أم سلمة : أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن ابنتي تُوفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينُها ، أفنكْحُلُها ؟ فقال : " لا " . كل ذلك يقول : " لا " مرتين أو ثلاثًا . ثم قال : " إنما هي أربعة أشهر وعشر{[4029]} وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة " . قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفْشًا ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا ، حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بَعْرة فترمي بها ، ثم تؤتى بدابة - حمار أو شاة أو طير - فَتَفْتَضَّ به فقلما تفتض بشيء إلا مات{[4030]} .
ومن هاهنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها ، وهي قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [ البقرة : 240 ] ، كما قاله ابن عباس وغيره ، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره .
والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحُلِيٍّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدًا ، ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدًا ، وهل يجب في عدة البائن ؟ فيه قولان .
ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ، سواء في ذلك الصغيرة والآيسة{[4031]} والحرة والأمة ، والمسلمة والكافرة ، لعموم الآية . وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : لا إحداد على الكافرة . وبه يقول أشهبُ ، وابنُ نافع من أصحاب مالك . وحجة قائل هذه المقالة قولهُ صلى الله عليه وسلم{[4032]} : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا " : قالوا : فجعله تعبدًا{[4033]} . وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها ، لعدم التكليف . وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها{[4034]} . ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع ، والله الموفق للصواب .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : انقضت عدتهن{[4035]} . قاله الضحاك والربيع بن أنس ، { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قال الزهري : أي : على أوليائها { فِيمَا فَعَلْنَ } يعني : النساء اللاتي انقضت عدتهن . قال العوفي{[4036]} عن ابن عباس : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنَّع وتتعرض للتزويج ، فذلك المعروف . روي عن مقاتل بن حيان نحوه ، وقال ابن جريج عن مجاهد : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قال : هو النكاح الحلال الطيب . وروي عن الحسن ، والزهري ، والسدي نحو ذلك .
{ وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيَ أَنْفُسِهِنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
يعني تعالى ذكره بذلك : والذين يتوفون منكم من الرجال أيها الناس ، فيموتون ويذرون أزواجا يتربص أزواجهن بأنفسهن .
فإن قال قائل : فأين الخبر عن الذين يتوفون ؟ قيل : متروك لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم ، وإنما قصد قصد الخبر عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهنّ ، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة ، إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد بالكلام ، وهو نظير قول القائل في الكلام : بعض جبّتك متخرقة ، في ترك الخبر عما ابتدىء به الكلام إلى الخبر عن بعض أسبابه . وكذلك الأزواج اللواتي عليهنّ التربص لما كان إنما ألزمهنّ التبرص بأسباب أزواجهن صرف الكلام عن خبر من ابتدىء بذكره إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه ، كما قال الشاعر :
لَعلّيَ إنْ مالَتْ بِيَ الرّيحُ مَيْلَةً ***على ابْنِ أبي ذِبّانَ أنْ يَتَنَدّمَا
فقال «لعلّي » ، ثم قال «أن يتندما » ، لأن معنى الكلام : لعلّ ابن أبي ذبّان أن يتندم إن مالت بي الريح ميلة عليه . فرجع بالخبر إلى الذي أراد به ، وإن كان قد ابتدأ بذكر غيره . ومنه قول الشاعر :
ألمْ تَعْلَمُوا أنّ ابْنَ قَيْسٍ وقَتْلَهُ *** بغيرِ دَمٍ دَارُ المَذَلّةِ حُلّتِ
فألغى «ابن قيس » وقد ابتدأ بذكره ، وأخبر عن قتله أنه ذُلّ .
وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر الذين يتوفون متروك ، وأن معنى الكلام : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ينبغي لهنّ أن يتربصن بعد موتهم وزعم أنه لم يذكر موتهم كما يحذف بعض الكلام ، وأنّ «يتربصن » رفع إذ وقع موقع ينبغي ، وينبغي رفع . وقد دللنا على فساد قول من قال في رفع يتربصن بوقوعه موقع ينبغي فيما مضى ، فأغنى عن إعادته .
وقال آخرون منهم : إنما لم يذكر «الذين » بشيء ، لأنه صار الذين في خبرهم مثل تأويل الجزاء : مَنْ يلقك منا تُصِبْ خيرا ، الذي يلقاك منا تصيب خيرا . قال : ولا يجوز هذا إلا على معنى الجزاء ، وفي البيتين اللذين ذكرناهما الدلالة الواضحة على القول في ذلك بخلاف ما قالا .
وأما قوله : يَتَرَبصْنَ بأنْفُسِهِنّ فإنه يعني به : يحتبسن بأنفسهن معتدّات عن الإزواج والطيب والزينة والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن أربعة أشهر وعشرا إلا أن يكن حوامل ، فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين وضع حملهن ، فإذا وضعن حملهن انقضت عددهن حينئذٍ .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم مثل ما قلنا فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : وَالّذينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَترَبّصْنَ بأنْفُسَهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرا فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملاً ، فعدتها أن تضع ما في بطنها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، في قول الله : وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذرُونَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا قال ابن شهاب : جعل الله هذه العدة للمتوفى عنها زوجها ، فإن كانت حاملاً فيحلها من عدتها أن تضع حملها ، وإن استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشر فما استأخر ، لا يحلها إلا أن تضع حملها .
وإنما قلنا : عنى بالتربص ما وصفنا لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وأبو أسامة ، عن شعبة ، وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن حميد بن نافع ، قال : سمعت زينب ابنة أم سلمة تحدّث قال أبو كريب : قال أبو أسامة ، عن أم سلمة أن امرأة توفي عنها زوجها ، واشتكت عينها ، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل ، فقال : «لَقَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَكُونَ فِي الجاهِلِيّةِ فِي شَرّ أحْلاسِها ، فَتَمْكُثُ فِي بَيْتِها حَوْلاً إذَا تُوُفي عَنْها زَوْجُها ، فَيَمُرّ عَلَيْها الكَلبُ فَترْمِيهِ بالبَعْرَةِ أفَلا أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، قال : سمعت نافعا ، عن صفية ابنة أبي عبيد أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم تحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لاَ يَحِلّ لامْرأةٍ تُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ أنْ تُحِدّ فَوْقَ ثَلاثٍ إلاّ على زَوْجٍ فإنها تُحِدّ عَلَيْهِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا » .
قال يحيى : والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران ، ولا تكتحل ولا تزّيّن .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى ، عن نافع ، عن صفية ابنة أبي عبيد ، عن حفصة بنة عمر ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لا يَحِلّ لاِمْرأةٍ تُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْم الاَخِر أنْ تُحِدّ على مَيتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلا على زَوْج » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني حميد بن نافع أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته عن أم سلمة ، أو أم حبيبة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم : أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكرت أن ابنتها توفي عنها زوجها ، وأنها قد خافت على عينها . فزعم حميد عن زينب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَرْمي بالبَعْرَةِ على رأسِ الحَوْلِ ، وإنّمَا هِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن حميد بن نافع : أنه سمع زينب ابنة أم سلمة تحدّث عن أم حبيبة أو أمّ سلمة أنها ذكرت أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم قد توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها وهي تريد أن تكحل عينها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَرْمي بالبَعْرَةِ بَعْدَ الحَوْلِ ، وإنّمَا هِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ » قال ابن بشار : قال يزيد ، قال يحيى : فسألت حميدا عن رميها بالبعرة ، قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها عمدت إلى شرّ بيتها ، فقعدت فيه حولاً ، فإذا مرّت بها سنة ألقت بعرة وراءها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا شعبة ، عن يحيى ، عن حميد بن نافع بهذا الإسناد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد ، عن حميد بن نافع ، عن زينب ابنة أم سلمة ، عن أم سلمة : أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابنتي مات زوجها فاشتكت عينها ، أفتكتحل ؟ فقال : «قَدْ كانَتْ إحْداكُنّ تَرْمي بالبَعْرَةِ على رأسِ الحَوْلِ ، وإنمَا هِيَ الاَنَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ » . قال : قلت : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ قال : كان نساء الجاهلية إذا مات زوج إحداهنّ لبست أطمار ثيابها ، وجلست في أخسّ بيوتها ، فإذا حال عليها الحول أخذت بعرة فدحرجتها على ظهر حمار ، وقالت : قد حللت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن حميد بن نافع عن زينب ابنة أم سلمة ، عن أمها أم سلمة ، وأم حبيبة زوجي النبيّ صلى الله عليه وسلم : أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد خفت على عينها ، وهي تريد الكحل . قال : «قَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَرْمي بالبَعْرَةِ على رأسِ الحَوْلِ وإنّمَا هِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ » ، قال حميد : فقلت لزينب : وما رأس الحول ؟ قالت زينب : كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها عمدت إلى أشرّ بيت لها فجلست فيه ، حتى إذا مرّت بها سنة خرجت ، ثم رمت ببعرة وراءها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ، ولا معصفرا ، ولا تكتحل بالإثمد ، ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها ، ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب ، ولا تلبس حليا وتلبس البياض ولا تلبس السواد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر في المتوفى عنها زوجها : لا تكتحل ، ولا تطّيّب ، ولا تبيت عن بيتها ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب تَجلبَبُ به .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : بلغني عن ابن عباس ، قال : تنهى المتوفى عنها زوجها أن تزيّن وتطيب .
4حدثنا نصر بن علي ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس ثوبا مصبوغا ، ولا تمسّ طيبا ، ولا تكتحل ، ولا تمتشط . وكان لا يرى بأسا أن تلبس البرد .
وقال آخرون : إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة ، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل فلم تنه عن ذلك ، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن : أنه كان يرخص في التزين والتصنع ، ولا يرى الإحداد شيئا .
4حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا لم يقل تعتدّ في بيتها ، تعتدّ حيث شاءت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسماعيل ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قال ابن عباس : إنما قال الله : وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُم وَيَذْرَوُنَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرا ولم يقل تعتدّ في بيتها ، فلتعتد حيث شاءت .
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره إنما أمر المتوفى عنها بالتربص عن النكاح ، وجعلوا حكم الآية على الخصوص . وبما :
4حدثني به محمد بن إبراهيم السلمي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، وحدثني محمد بن معمر البحراني ، قال : حدثنا أبو عامر ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن طلحة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، عن أسماء بنت عميس ، قالت : لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «تَسَلّبِي ثَلاثا ثُم اصْنَعِي ما شِئْتِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو نعيم وابن الصلت ، عن محمد بن طلحة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الله بن شداد ، عن أسماء ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله .
قالوا : فقد بين هذا الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا إحداد على المتوفى عنها زوجها ، وأن القول في تأويل قوله : يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا إنما هو يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره .
وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها زوجها ، فانهم اعتلوا بظاهر التنزيل وقالوا : أمر الله المتوفى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا ، فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنزيل بعينه ، بل عمّ بذلك معاني التربص . قالوا : فالواجب عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء ، إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها . قالوا : فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة مما هو داخل في عموم الآية كما التربص عن الأزواج داخل فيها . قالوا : وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في الزينة والطيب . أما في النقلة ، فإن :
4أبا كريب حدثنا ، قال : حدثنا يونس بن محمد ، عن فليح بن سليمان ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته الفريعة ابنة مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت : قتل زوجي وأنا في دار ، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النقلة ، فأذن لي . ثم ناداني بعد أن توليت ، فرجعت إليه ، فقال : «يا فُرَيْعَةُ حتى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ » .
قالوا : فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صحة ما قلنا في معنى تربص المتوفى عنها زوجها ما خالفه .
قالوا : وأما ما روى عن ابن عباس فإنه لا معنى له بخروجه عن ظاهر التنزيل والثابت من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
قالوا : وأما الخبر الذي روى عن أسماء ابنة عميس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلّب ثلاثا ، ثم أن تصنع ما بدا لها ، فإنه غير دالّ على أن لا إحداد على المرأة ، بل إنما دلّ على أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا ، ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة لبسه مما لم يكن زينة ولا تطيبا لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب . وذلك كالذي أذن صلى الله عليه وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العَصْب وبرود اليمن ، فإن ذلك لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلّب ، وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه ، فإن لها لبسه ، لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ولم يقل وعشرة ؟ وإذ كان التنزيل كذلك ، أفبالليالي تعتدّ المتوفى عنها العشر أم بالأيام ؟ قيل : بل تعتدّ بالأيام بلياليها . فإن قال : فإذ كان ذلك كذلك فكيف قيل وعشرا ولم يقل وعشرة ، والعشر بغير الهاء من عدد الليالي دون الأيام ؟ فإن أجاز ذلك المعنى فيه ما قلت ، فهل تجيز عندي عشر وأنت تريد عشرة من رجال ونساء ؟ قلت : ذلك جائز في عدد الليالي والأيام ، وغير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال النساء وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة إذا أبهمت العدد غلبت فيه الليالي ، حتى إنهم فيما رُوي لنا عنهم ليقولون : صمنا عشرا من شهر رمضان ، لتغليبهم الليالي على الأيام وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون الأيام ، فإذا أظهروا مع العدد مفسره أسقطوا من عدد المؤنث الهاء ، وأثبتوها في عدد المذكر ، كما قال تعالى ذكره : سَخّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثمانِيَةَ أيَامٍ حُسُوما فأسقط الهاء من سبع ، وأثبتها في الثمانية . وأما بنو آدم ، فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء ثم أبهمت عددها أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث ، وذلك أن الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم ، وليس كذلك سائر الأشياء غيرهم ، وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم بسمة الأنثى ، كما قيل للذكر والأثنى شاة ، وقيل للذكور والإناث من البقر بقر ، وليس كذلك في بني آدم .
فإن قال : فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر ؟ قيل : قد قيل في ذلك فيما :
4حدثنا به ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجَا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرا قال : قلت : لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيه الروح في العشر .
4حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو عاصم ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشر ؟ قال : فيه ينفخ الروح .
القول في تأويل قوله تعالى : فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنّ بالمَعْرُوفِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : فإذا بلغن الأجل الذي أبيح لهنّ فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهنّ ، وذلك بعد انقضاء عددهن ، ومضيّ الأشهر الأربعة والأيام العشرة ، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف . يقول : فلا حرج عليكم أيها الأولياء أولياء المرأة فيما فعل المتوفي عنهنّ حينئذٍ في أنفسهن من تطيب وتزين ونقلة من المسكن الذي كنّ يعتددن فيه ونكاح من يجوز لهن نكاحه بالمعروف يعني بذلك : على ما أذن الله لهنّ فيه وأباحه لهن . وقد قيل : إنما عنى بذلك النكاح خاصة . وقيل : إن معنى قوله بالمَعْرُوفِ إنما هو النكاح الحلال . ذكر من قال ذلك :
4حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنّ بالمَعْرُوفِ قال : الحلال الطيب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنّ بالمَعْرُوفِ قال : المعروف : النكاح الحلال الطيب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : قوله : فِيما فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهنّ بالمَعْرُوفِ قال : هو النكاح الحلال الطيب .
4حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هو النكاح .
4حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب : فِيما فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنّ بالمَعْرُوفِ قال : في نكاح من هوينه إذا كان معروفا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .
يعني تعالى ذكره بذلك : والله بما تعملون أيها الأولياء في أمر من أنتم وليه من نسائكم من عضلهن وإنكاحهنّ ممن أردن نكاحه بالمعروف ، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم ، خبير يعني ذو خبرة وعلم ، لا يخفى عليه منه شيء .
قوله عز وجل : { وَالذَّيِنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجاً يَتَرَبَّصْنَ بأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }
قال بعض نحاه الكوفيين : الخبر عن { الذين } متروك( {[2222]} ) والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن ، ومذهب نحاة البصرة أن خبر { الذين } مترتب بالمعنى( {[2223]} ) ، وذلك أن الكلام إنما تقديره يتربص أزواجهم ، وإن شئت قدرته . وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز ، وإعرابها مترتب على هذا المعنى المالك لها المتقرر فيها ، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون ، ولا أعرف هذا الذي حكاه لأن ذلك إنما يتجه إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد . مثل قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] ، وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظة( {[2224]} ) . فيحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر ، وحسن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله : { فلا جناح عليكم } ، إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها الرجال الذين منهم الحكام والنظار ، وعبارة المبرد والأخفش ما ذكرناه ، وهذه الآية هي في عدة المتوفى عنها زوجها ، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها( {[2225]} ) ، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله : { وأولات الأحمال }( {[2226]} ) [ الطلاق : 4 ] ، وعدة الحامل وضع حملها عند جمهور العلماء ، وروي عن علي بن ابي طالب وابن عباس وغيرهما أن تمام عدتها آخر الأجلين( {[2227]} ) ، والتربص الصبر والتأني بالشخص في مكان أو حال ، وقد بين تعالى ذلك بقوله : { بأنفسهن } ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : متظاهرة أن التربص بإحداد وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه ، والتزام المبيت مسكنها حيث كانت وقت وفاة الزوج . وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك وأصحابه . وقال ابن عباس وأبو حنيفة فيما روت عنه وغيرهما : ليس المبيت بمراعى ، تبيت حيث شاءت . وقال الحسن بن أبي الحسن : «ليس الإحداد بشيء ، إنما تتربص عن الزواج ، ولها أن تتزين وتتطيب » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( {[2228]} ) . وقرأ جمهور الناس «يُتوفون » بضم الياء ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «يَتوفون » بفتح الياء ، وكذلك روى المفضل عن عاصم ، ومعناه يستوفون آجالهم( {[2229]} ) ، وجعل الله الأربعة الأشهر والعشر عبادة في العدة فيها استبراء للحمل ، إذ فيها تكمل الأربعون والأربعون والأربعون ، حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره( {[2230]} ) ثم ينفخ الروح ، وجعل الله تعالى العشر تكملة إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين وذلك لنقص الشهور أو كمالها ولسرعة حركة الجنين أو إبطائها ، قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما ، وقال تعالى : { عشراً } ، ولم يقل عشرة تغليباً لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها ، وعشر أخف في اللفظ( {[2231]} ) ، قال جمهور أهل العلم : ويدخل في ذلك اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي ، وحكى منذر بن سعيد - وروي أيضاً عن الأوزاعي - : أن اليوم العاشر ليس من العدة بل انقضت بتمام عشر ليالٍ ، قال المهدوي : «وقيل المعنى وعشر مدد كل مدة من يوم وليلة » ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أربعة أشهر وعشر ليال » .
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن ، والمخاطبة بقوله { فلا جناح عليكم } عامة لجميع الناس ، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء اللاصقين( {[2232]} ) والنساء المعتدات ، وقوله عز وجل { فيما فعلن } يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد . قال مجاهد وابن شهاب وغيرهما : أراد بما فعلن النكاح لمن أحببن إذا كان معروفاً غير منكر( {[2233]} ) .
قال القاضي أبو محمد : ووجوه المنكر في هذا كثيرة ، وقال بعض المفسرين : { بالمعروف } معناه بالإشهاد ، وقوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } وعيد يتضمن التحذير ، و { خبير } اسم فاعل من خبر إذا تقصى علم الشيء .