تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

{ 49 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }

يخبر تعالى المؤمنين ، أنهم إذا نكحوا المؤمنات ، ثم طلقوهن من قبل أن يمسوهن ، فليس عليهن في ذلك ، عدة يعتدها{[711]}  أزواجهن عليهن ، وأمرهم بتمتيعهن{[712]}  بهذه الحالة ، بشيء من متاع الدنيا ، الذي يكون فيه جبر لخواطرهن ، لأجل فراقهن ، وأن يفارقوهن فراقًا جميلاً ، من غير مخاصمة ، ولا مشاتمة ، ولا مطالبة ، ولا غير ذلك .

ويستدل بهذه الآية ، على أن الطلاق ، لا يكون إلا بعد النكاح . فلو طلقها قبل أن ينكحها ، أو علق طلاقها على نكاحها ، لم يقع ، لقوله : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فجعل الطلاق بعد النكاح ، فدل على أنه قبل ذلك ، لا محل له .

وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة ، وتحريم تام ، لا يقع قبل النكاح ، فالتحريم الناقص ، لظهار ، أو إيلاء ونحوه ، من باب أولى وأحرى ، أن لا يقع قبل النكاح ، كما هو أصح قَوْلي العلماء .

ويدل على جواز الطلاق ، لأن اللّه أخبر به عن المؤمنين ، على وجه لم يلمهم عليه ، ولم يؤنبهم ، مع تصدير الآية بخطاب المؤمنين .

وعلى جوازه قبل المسيس ، كما قال في الآية الأخرى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ }

وعلى أن المطلقة قبل الدخول ، لا عدة عليها ، بل بمجرد طلاقها ، يجوز لها التزوج ، حيث لا مانع ، وعلى أن عليها العدة ، بعد الدخول .

وهل المراد بالدخول والمسيس ، الوطء كما هو مجمع عليه ؟ أو وكذلك الخلوة ، ولو لم يحصل معها وطء ، كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون ، وهو الصحيح . فمن دخل عليها ، وطئها ، أم لا ، إذا خلا بها ، وجب عليها العدة .

وعلى أن المطلقة قبل المسيس ، تمتع على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره ، ولكن هذا ، إذا لم يفرض لها مهر ، فإن كان لها مهر مفروض ، فإنه إذا طلق قبل الدخول ، تَنَصَّف المهر ، وكفى عن المتعة ، وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده ، أن يكون الفراق جميلاً ، يحمد فيه كل منهما الآخر .

ولا يكون غير جميل ، فإن في ذلك ، من الشر المرتب عليه ، من قدح كل منهما بالآخر ، شيء كثير .

وعلى أن العدة حق للزوج ، لقوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } دل مفهومه ، أنه لو طلقها بعد المسيس ، كان له عليها عدة [ وعلى أن المفارقة بالوفاة ، تعتد مطلقًا ، لقوله : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية ]{[713]}

وعلى أن من عدا غير المدخول بها ، من المفارقات من الزوجات ، بموت أو حياة ، عليهن العدة .


[711]:- كذا في النسختين ولعل الصواب تعتدها.
[712]:- كذا في ب، وفي أ: بتمتعهن.
[713]:- زيادة من: ب.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

49

( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ، فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) . .

ولقد سبق في سورة البقرة بيان حكم المطلقات قبل الدخول في قوله تعالى :

( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، ومتعوهن على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره ، متاعا بالمعروف حقا على المحسنين . وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح . وأن تعفوا أقرب للتقوى ، ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير ) . .

فالمطلقة قبل الدخول إن كان قد فرض لها مهر ، فلها نصف ذلك المهر المسمى . وإن لم يذكر لها مهر فلها متاع يتبع قدرة المطلق سعة وضيقا . . وقد زاد هنا في آية الأحزاب بيان حكم العدة لهذه المطلقة وهو ما لم يذكر في آيتي البقرة . فقرر أن لا عدة عليها . إذ أنه لم يكن دخول بها . والعدة إنما هي استبراء للرحم من الحمل ، وتأكد من أنها خالية من آثار الزواج السابق ، كي لا تختلط الأنساب ، ولا ينسب إلى رجل ما ليس منه ، ويسلب رجل ما هو منه في رحم المطلقة . فأما في حالة عدم الدخول فالرحم بريئة ، ولا عدة إذن ولا انتظار : ( فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) . . ( فمتعوهن )إن كان هناك مهر مسمى فبنصف هذا المهر ، وإن لم يكن فمتاع مطلق يتبع حالة الزوج المالية . ( وسرحوهن سراحا جميلا ) . . لا عضل فيه ولا أذى . ولا تعنت ولا رغبة في تعويقهن عن استئناف حياة أخرى جديدة .

وهذا حكم عام جاء في سياق السورة في صدد تنظيم الحياة العامة للجماعة المسلمة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

هذه الآية الكريمة فيها أحكام{[23647]} كثيرة . منها : إطلاق النكاح على العقد وحده ، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها ، وقد اختلفوا في النكاح : هل هو حقيقة في العقد وحده ، أو في الوطء ، أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال ، واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده ، إلا في هذه الآية فإنه استعمل في العقد وحده ؛ لقوله : { إِذَا نَكَحْتُمُ{[23648]} الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } . وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها .

وقوله : { الْمُؤْمِنَاتِ } خرج مخرج الغالب ؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق . وقد استدل ابن عباس ، وسعيد بن المسَيَّب ، والحسن البصري ، وعلي بن الحسين ، زين العابدين ، وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح ؛ لأن الله تعالى قال : { إِذَا نَكَحْتُمُ{[23649]} الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ، فعقب النكاح بالطلاق ، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله . وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وطائفة كثيرة من السلف والخلف ، رحمهم الله تعالى .

وذهب مالك وأبو حنيفة ، رحمهما الله ، إلى صحة الطلاق قبل النكاح ؛ فيما إذا قال : " إن تزوجت فلانة فهي طالق " . فعندهما متى تزوجها طلقت منه . واختلفا فيما إذا قال : " كل امرأة أتزوجها فهي طالق " . فقال مالك : لا تطلق حتى يعين المرأة . وقال أبو حنيفة ، رحمه الله : كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه ، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، حدثنا النضر بن شُمَيْل ، حدثنا يونس - يعني : ابن أبي إسحاق - سمعت آدم مولى خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : [ إذا قال ]{[23650]} : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، قال : ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية .

وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسِي ، حدثنا وَكِيع ، عن مطر ، عن الحسن بن مسلم بن يَنّاق{[23651]} ، عن ابن عباس قال : إنما قال الله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ، ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح ؟ !

وهكذا روى محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال الله : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فلا طلاق [ قبل النكاح ]{[23652]} .

وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك " . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه{[23653]} . وقال الترمذي : " هذا حديث حسن " . وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهكذا روى ابن ماجه عن علي ، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا طلاق قبل نكاح " {[23654]} .

[ وفي الآية دليل على أن المسيس مطلق ، ويراد به الوطء ]{[23655]} .

وقوله{[23656]} : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } : هذا أمر مجمع عليه بين العلماء : أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها مَنْ{[23657]} شاءت ، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها ، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا ، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا .

وقوله : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } : المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى ، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها ، قال الله تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، وقال { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] .

وفي صحيح البخاري ، عن سهل بن سعد وأبي أسيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شَرَاحيل ، فلما أدخلت{[23658]} عليه بسط يده إليها ، فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيَّين{[23659]} .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : إن كان سمى لها صداقا ، فليس لها إلا النصف ، وإن لم يكن سمى لها صداقا فأمتعها على قدر عسره ويسره ، وهو السراح الجميل .


[23647]:- في ت "اشتملت على أحكام".
[23648]:- في ت: "نكحتموا".
[23649]:- في ت: "نكحتموا".
[23650]:- زيادة من ت.
[23651]:- في ت: "وروى أيضا بإسناده".
[23652]:- زيادة من ف ، أ.
[23653]:- المسند (2/189) وسنن الترمذي برقم (1181) وسنن أبي داود برقم (2191) وسنن ابن ماجه برقم (2047).
[23654]:- سنن ابن ماجه برقم (2048) من طريق علي بن الحسين ، عن هشام بن سعد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ، به. وقال البوصيري في الزوائد (2/132): "هذا إسناد حسن ، علي بن الحسين وهشام بن سعد مختلف فيهما". وبرقم (2049) من طريق جويبر ، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة ، عن علي ، به. وقال البوصيري في الزوائد (2/132): "هذا إسناد ضعيف لاتفاقهم على ضعف جويبر بن سعيد البجلي ، لكن لم ينفرد به جويبر ، فقد رواه البيهقي في الكبرى (7/320) من طريق معاذ العنبري ، عن حميد الطويل ، عن الحسن عن علي به ، ثم رواه من طريق سعيد عن جويبر به موقوفا من الطريقين معا".
[23655]:- زيادة من ت.
[23656]:- في هـ: "قال".
[23657]:- في ت: "في فورها متى" وفي أ: "في قرئها من".
[23658]:- في ت: "فلما دخلت" وفي ف ، أ: "فلما أن دخلت".
[23659]:- صحيح البخاري برقم (5256 ، 5257).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً } .

يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسّوهُنّ يعني من قبل أن تجامعوهنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّوَنها يعني : من إحصاء أقراء ، ولا أشهر تحصونها عليهنّ ، فمتعوهنّ يقول : أعطوهنّ ما يستمتعن به من عرض أو عين مال . وقوله : وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحا جَمِيلاً يقول : وخلوا سبيلهنّ تخلية بالمعروف ، وهو التسريح الجميل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْل أنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّوَنها فهذا في الرجل يتزوّج المرأة ، ثم يطلقها من قبل أن يمسها ، فإذا طلقها واحدة بانت منه ، ولا عدّة عليها تتزوّج من شاءت ، ثم قرأ : فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحا جَمِيلاً يقول : إن كان سمى لها صداقا ، فليس لها إلا النصف ، فإن لم يكن سمى لها صداقا ، متّعها على قدر عسره ويُسره ، وهو السراح الجميل .

وقال بعضهم : المتعة في هذا الموضع منسوخة بقوله : فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنات . . . إلى قوله : سَرَاحا جَمِيلاً قال : قال سعيد بن المسيب : ثم نسخ هذا الحرف المتعة وَإنْ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْل أنَ تَمَسّوهُنّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنّ فَريضَةً فنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث عن سعيد بن المسيب ، قال : نسخت هذه الاَية يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْل أنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّوَنها فَمَتّعُوهُنّ قال : نسخت هذه الاَية التي في البقرة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (49)

ثم خاطب تعالى المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء{[9536]} ، واستدل بعض الناس بقوله { ثم طلقتموهن } وبمهلة ثم على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح ، وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها فإن ذلك لا يلزمه ، وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام ، سمى البخاري منهم اثنين وعشرين{[9537]} ، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم : إن طلاق المعينة الشخص أو القبيل أو البلد لازم قبل النكاح ، فمنهم مالك وجميع أصحابه وجمع عظيم من علماء الأمة ، وقرأ جمهور القراء «تمسوهن » ، وقرأ حمزة والكسائي وطلحة وابن وثاب «تماسوهن » والمعنى فيهما الجماع وهذه العدة إنما هي لاستبراء الرحم وحفظ النسب في الحمل ، فمن لم تمس فلا يلزم ذلك فيها ، وقرأ جمهور الناس «تعتدّونها » بشد الدال على وزن تفتعلونها من العدد ، وروى ابن أبي بزة عن أبي بكر «تعتدُونها » بتخفيف ضمة الدال من العدوان ، كأنه قال فما لكم عدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهن{[9538]} ، والقراءة الأولى أشهر عن أبي بكر ، وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة{[9539]} .

ثم أمر تعالى بتمتيع المطلقة قبل البناء ، واختلف الناس في المتعة ، فقال فرقة هي واجبة ، وقالت فرقة هي مندوب إليها منهم مالك وأصحابه ، وقالت فرقة المتعة للتي لم يفرض لها ونصف المهر للتي فرض لها ، وقال سعيد بن المسيب : بل المتعة كانت لجميعهن بهذه الآية ، ثم نسخت آية البقرة بالنصف لمن فرض لها ما تضمنته هذه الآية من المتعة .

وهذه الآية خصصت آيتين إحداهما ، والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء{[9540]} ، فخصصت هذه الآية من لم يدخل بها ، وكذلك خصصت من ذوات الثلاثة الأشهر ، وهن من قعدن عن المحيض{[9541]} ، ومن لم يحضن من صغر المطلقات قبل البناء ، و «السراح الجميل » هو الطلاق تتبعه عشرة حسنة وكلمة طيبة دون مشادة ولا أذى .


[9536]:يقال: بنى بزوجته وعليها: دخل بها.(المعجم الوسيط).
[9537]:سماهم البخاري في باب(لا طلاق قبل النكاح)، لكنه ذكر أربعة وعشرين اسما.
[9538]:في بعض النسخ:"فما لكم من عدة تلزمونها عدوانا وظلما وظلما لهن".
[9539]:قال أبو حيان تعقيبا على كلام ابن عطية بعد أن ذكره:"وليس بوهم؛ إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه، وأبو الفضل الرازي في كتاب"اللوامح" في شواذ القراءات، ونقلها الرازي المذكور عن أهل مكة، وقال: هو من الاعتداد لا محالة، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه، فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف؛ لأن الاعتداء يتعدى بعلى"، ثم أكمل أبو حيان كلامه فقال:"وإذا كان يتعدى بعلى فيجوز أن يحذف(على) ويصل الفعل على الضمير، نحو قوله: تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني أي: لقضى علي".وقال الزمخشري:"وقرئ(تعتدونها) مخففا، أي: تعتدون فيها، كقوله: ويوما شهدناه، والمراد بالاعتداء ما في قوله:{ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}، ومعنى كلامه أنه لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة، وذلك قول الشاعر:د ويوما شهدناه سليما وعامرا أي:شهدنا فيه سليما وعامرا، أما على تقدير(على) فيكون المعنى: تعتدون عليهن فيها.
[9540]:من الآية(228) من سورة(البقرة).
[9541]:وهن اللائي ذكرهن الله سبحانه وتعالى في قوله:{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}-من الآية(4) من سورة(الطلاق).