تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

{ 37 } { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

النسيء : هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم ، وكان من جملة بدعهم الباطلة ، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال ، في بعض أوقات الأشهر الحرم ، رأوا -بآرائهم الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم ، التي حرم اللّه القتال فيها ، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم ، أو يقدموه ، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا ، فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه ، وجعلوا الشهر الحلال حراما ، فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم ، لما فيه من المحاذير .

منها : أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه ، واللّه ورسوله بريئان منه .

ومنها : أنهم قلبوا الدين ، فجعلوا الحلال حراما ، والحرام حلالا .

ومنها : أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده ، ولبسوا عليهم دينهم ، واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه .

ومنها : أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها ، يزول قبحها عن النفوس ، وربما ظن أنها عوائد حسنة ، فحصل من الغلط والضلال ما حصل ، ولهذا قال : { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } أي : ليوافقوها في العدد ، فيحلوا ما حرم اللّه .

{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } أي : زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة ، فرأوها حسنة ، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم .

{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي : الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم ، فلو جاءتهم كل آية ، لم يؤمنوا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

36

( إنما النسيء زيادة في الكفر . يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم اللّه ، فيحلوا ما حرم اللّه . زين لهم سوء أعمالهم . واللّه لا يهدي القوم الكافرين ) .

قال مجاهد - رضي اللّه عنه - : كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس . إني لا أعاب ولا أخاب ، ولا مرد لما أقول . أنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله : ( ليواطئوا عدة ما حرم اللّه ) قال : يعني الأربعة . فيحلوا ما حرم اللّه تأخير هذا الشهر الحرام .

وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس ، وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده ؛ فلما كان هو قال : اخرجوا بنا . قالوا له : هذا المحرم . قال : ننسئه العام . هما العام صفران . فإذا كان العام القابل قضينا . . جعلناهما محرمين . . قال ففعل ذلك . فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر . حرموه مع المحرم . هما محرمان . .

فهذان قولان في الآية ، وصورتان من صور النسيء . في الصورة الأولى يحرم صفر بدل المحرم فالشهور المحرمة أربعة في العدد ، ولكنها ليست هي التي نص عليها اللّه ، بسبب إحلال شهر المحرم . وفي الصورة الثانية يحرم في عام ثلاثة أشهر وفي عام آخر خمسة أشهر فالمجموع ثمانية في عامين بمتوسط أربعة في العام ولكن حرمة المحرم ضاعت في أحدهما ، وحل صفر ضاع في ثانيهما !

وهذه كتلك في إحلال ما حرم اللّه ؛ والمخالفة عن شرع اللّه . .

( زيادة في الكفر ) . .

ذلك أنه - كما أسلفنا - كفر مزاولة التشريع إلى جانب كفر الاعتقاد .

( يضل به الذين كفروا ) . .

ويخدعون بما فيه من تلاعب وتحريف وتأويل . .

( زين لهم سوء أعمالهم ) . .

فإذا هم يرون السوء حسناً ، ويرون قبح الانحراف جمالاً ، ولا يدركون ما هم فيه من ضلال ولجاج في الكفر بهذه الأعمال .

( واللّه لا يهدي القوم الكافرين ) . .

الذين ستروا قلوبهم عن الهدى وستروا دلائل الهدى عن قلوبهم . فاستحقوا بذلك أن يتركهم اللّه لما هم فيه من ظلام وضلال .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة ، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله ، فإنهم كان فيهم من القوة الغضَبِية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم ، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر ، فيحلون الشهر الحرام ، ويحرمون الشهر الحلال ، ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة{[13487]} كما قال شاعرهم - وهو عمير بن قيس المعروف - بجذل الطعان :

لَقَدْ عَلمت مَعد أنَّ قَومِي . . . كرَامُ النَّاس أنَّ لَهُمْ كِراما . . .

ألسْنا الناسئينَ على مَعد . . . شُهُورَ الحِل نَجْعلُهَا حَرَاما . . .

فأيّ النَّاسِ لَم تُدْرَك بوتْر? . . . وأيّ النَّاس لم نُعْلك لجاما?{[13488]}

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } قال : النسيء أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني ، كان يوافي الموسم في كل عام ، وكان يكنى " أبا ثُمَامة " ، فينادي : ألا إن أبا ثمامة لا يُحاب ولا يُعاب ، ألا وإن صفر العام الأول حلال . فيحله للناس ، فيحرم صفرا عاما ، ويحرم المحرم عاما ، فذلك قول الله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [ إلى قوله : { الكافرين } وقوله { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } ] {[13489]} يقول : يتركون المحرم عاما ، وعاما يحرمونه .

وروى العوفي عن ابن عباس نحوه .

وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له ، فيقول : يا أيها الناس ، إني لا أعاب ولا أجاب ، ولا مَرَدّ لما أقول ، إنا قد حَرَّمنا المحرم ، وأخرنا صفر . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر ، وأخرنا المحرم . فهو قوله : { لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } قال : يعني الأربعة { فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } لتأخير هذا الشهر الحرام .

وروي عن أبي وائل ، والضحاك ، وقتادة نحو هذا .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } الآية ، قال : هذا رجل من بني كنانة يقال له : " القَلَمَّس " ، وكان في الجاهلية ، وكانوا في الجاهلية لا يغيرُ بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يَمُدُّ إليه يده ، فلما كان هو ، قال : اخرجوا بنا . قالوا له : هذا المحرم ! قال : ننسئه العام ، هما العام صفران ، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما مُحرَّمين . قال : ففعل ذلك ، فلما كان عام قابل قال : لا تغزُوا في صفر ، حرموه مع المحرم ، هما محرمان .

فهذه صفة غريبة في النسيء ، وفيها نظر ؛ لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط ، وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر ، فأين هذا من قوله تعالى : { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } .

وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا ، فقال عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } الآية ، قال : فرض الله ، عز وجل ، الحج في ذي الحجة . قال : وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع ، وربيع ، وجمادى ، وجمادى ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوالا{[13490]} وذا القعدة . وذا الحجة يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ، ثم يعودون فيسمون صفر صفر ، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ثم يسمون شوالا رمضان ، ثم يسمون ذا القعدة شوالا

ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ، فيحجون فيه ، واسمه عندهم ذو{[13491]} الحجة ، ثم عادوا بمثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عامين ، حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في القعدة{[13492]} ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج ، فوافق ذا الحجة ، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " .

وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا ، وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة ، وأنى هذا ؟ وقد قال الله تعالى : { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } الآية[ التوبة : 3 ] ، وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر ، فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى : { يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ } ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره ، من دوران السنة عليهم ، وحجهم في كل شهر عامين ؛ فإن النسيء حاصل بدون هذا ، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا ، وبعده ربيع وربيع إلى آخر [ السنة والسنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في العام القابل يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه ، وبعده صفر ، وربيع وربيع إلى آخرها ]{[13493]} فيحلونه عاما ويحرمونه عاما ؛ ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ، أي : في تحريم أربعة أشهر من السنة ، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم ، وتارة ينسئونه إلى صفر ، أي : يؤخرونه . وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر " ، أي : أن الأمر في عدة{[13494]} الشهور وتحريم ما هو محرم منها ، على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي ، لا كما يعتمده جهلة العرب ، من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض ، والله أعلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة ، فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل{[13495]} ثم قال : " وإنما النسيء من الشيطان ، زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ويحرمونه عاما " . فكانوا يحرمون المحرم عاما ، ويستحلون صفر{[13496]} ويستحلون المحرم ، وهو النسيء{[13497]} وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب " السيرة " كلامًا جيدًا ومفيدًا حسنًا ، فقال : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله ، عز وجل ، " القَلمَّس " ، وهو : حذيفة بن عبد مُدْرِكة فُقَيم{[13498]} بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعدَّ بن عدنان ، ثم قام بعده على ذلك ابنه عَبَّاد ثم من بعد عباد ابنه قَلَع بن عباد ، ثم ابنه أمية بن قلع ، ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام . فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيبًا ، فحرم رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم عاما ، ويجعل مكانه صفر ، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله ، يعني : ويحرم ما أحل الله .


[13487]:- في ك ، أ : "ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة".
[13488]:- انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/45).
[13489]:- زيادة من ت ، ك ، أ ، والطبري.
[13490]:- في أ : "وشوال".
[13491]:- في ك : "ذا".
[13492]:- في ك ، أ : "ذي القعدة".
[13493]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13494]:- في ت : "هذه".
[13495]:- في ت ، أ : "بما هو أهله".
[13496]:- في ت ، ك ، أ : "صفر منه".
[13497]:- ورواه أبو الشيخ الأصبهاني كما في الدر المنثور (5/188).
[13498]:- في ت ، ك ، أ : "عبد بن فقيم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا النّسِيَءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلّونَهُ عَاماً وَيُحَرّمُونَهُ عَاماً لّيُوَاطِئُواْ عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّواْ مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوَءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .

يقول تعالى ذكره : ما النسيء إلا زيادة في الكفر ، والنسيء مصدر من قول القائل : نسأت في أيامك ونسأ الله في أجلك : أي زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك حتى تبقى فيها حيّا . وكل زيادة حدثت في شيء ، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء ولذلك قيل للبن إذا كثر بالماء نسيء ، وقيل للمرأة الحبلى نسوء ، ونُسئت المرأة ، لزيادة الولد فيها وقيل : نسأت الناقة وأنسأتها : إذا زجرتها ليزداد سيرها . وقد يحتمل أن النسيء فعيل صرف إليه من مفعول ، كما قيل : لعين وقتيل ، بمعنى : ملعون ومقتول ، ويكون معناه : إنما الشهر المؤخر زيادة في الكفر . وكأنّ القول الأول أشبه بمعنى الكلام ، وهو أن يكون معناه : إنما التأخير الذي يؤخره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة وتصييرهم الحرام منهن حلالاً والحلال منهنّ حراما ، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكام الله وآياته . وقد كان بعض القرّاء يقرأ ذلك : «إنّمَا النّسي » بترك الهمز وترك مده : يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا .

واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة الكوفيين : يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى : يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه الذين كفروا . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : يَضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى : يزول عن حجة الله التي جعلها لعباده طريقا يسلكونه إلى مرضاته الذين كفروا . وقد حُكي عن الحسن البصري : يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى : يضلّ بالنسيء الذي سنة الذين كفروا ، الناس .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : هما قراءتان مشهورتان ، قد قرأت بكلّ واحدة القرّاء أهل العلم بالقرآن والمعرفة به ، وهما متقاربتا المعنى ، لأن من أضله الله فهو ضالّ ومن ضلّ فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو للصواب في ذلك مصيب . وأما الصواب من القراء في النسيء ، فالهمز ، وقراءته على تقدير فعيل ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه .

وأما قوله : يُحِلّونَهُ عاما فإن معناه : يحلّ الذين كفروا النسيء ، والهاء في قوله : يُحِلّونَهُ عائدة عليه .

ومعنى الكلام : يحلون الذين أخروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم عاما ويحرّمونه عاما ، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ يقول : ليوافقوا بتحليلهم ما حللوا من الشهور وتحريمهم ما حرّموا منها ، عدّة ما حرّم الله فَيْحِلّوا ما حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالِهِمُ يقول : حسن لهم وحبّب إليهم سيىء أعمالهم وقبيحها وما خولف به أمر الله وطاعته . وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينِ يقول : والله لا يوفّق لمحاسن الأفعال وحلها وما لله فيه رضا ، القوم الجاحدين توحيده والمنكرين نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه يخذلهم عن الهدى كما خذل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : النسيء : هو أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام ، وكان يكنى أبا ثمامة ، فينادي : ألا إن أبا ثمامة لا يْحَابُ ولا يعاب ، ألا وإن صفر العام الأوّل حلال فيحلّه الناس ، فيحرّم صفر عاما ، ويحرّم المحرّم عاما ، فذلك قوله تعالى : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ . . . إلى قوله : الكَافِرينَ . وقوله : إنّمَا النّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يقول : يتركون المحرّم عاما ، وعاما يحرّمُونه .

قال أبو جعفر : وهذا التأويل من تأويل ابن عباس يدلّ على صحة قراءة من قرأ «النسي » بترك الهمزة وترك المدّ ، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه فعل من قول القائل : نسيت الشيء أنساه ، ومن قول الله : نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ بمعنى : تركوا الله فتركهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : فهو المحرّم كان يحرّم عاما وصفر عاما ، وزيد صفر آخر في الأشهر الحرم ، وكانوا يحرّمون صفرا مرّة ويحلونه مرّة ، فعاب الله ذلك ، وكانت هوزان وغطفان وبنو سليم تفعله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي وائل : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : كان النسيء رجلاً من بني كنانة ، وكان ذا رأي فيهم ، وكان يجعل سنة المحرّم صفرا ، فيغزون فيه فيغتنمون فيه ويصيبون ، ويحرّمه سنة .

قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي وائل : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ . . . الآية ، وكان رجل من بني كنانة يسمى النسيء ، فكان يجعل المحرّم صفر ويستحل فيه الغنائم ، فنزلت هذه الآية .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام في الموسم على حمار له ، فيقول : أيها الناس إني لا أُعاب ولا أُحاب ، ولا مردّ لما أقول إنا قد حرّمنا المحرّم ، وأخرنا صفر ثم يجيء العام المقبل بعده ، فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر ، وأخرنا المحرّم فهو قوله : لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ قال : يعني الأربعة ، فيحلوا ما حرّم الله لتأخير هذا الشهر الحرام .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ النسيء : المحرّم ، وكان يحرّم المحرّم عاما ويحرّم صفرا عاما ، فالزيادة صفر ، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرّم ، فيحلوا ما حرّم الله ، وكانت هوزان وغطفان وبنو سليم يعظمونه ، هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ . . . إلى قوله : الكافِرِينَ عمد أناس من أهل الضلالة ، فزادوا صفرا في الأشهر الحرم ، فكان يقوم قائمهم في الموسم ، فيقول : ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرّم فيحرّمونه ذلك العام . ثم يقول في العام المقبل فيقول : ألا إن آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرّمونه ذلك العام . وكان يقال لهما : الصفران . قال : فكان أوّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة ، وكانوا ثلاثة : أبو ثمامة صفوان بن أمية أحد بني فقيم بن الحرث ، ثم أحد بني كنانة .

حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : فرض الله الحجّ في ذي الحجة . قال : وكان المشركون يسمون الأشهر : ذو الحجة ، والمحرّم ، وصفر ، وربيع ، وربيع ، وجمادى ، وجمادى ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، يحجون فيه مرّة ثم يسكتون عن المحرّم فلا يذكرونه ، ثم يعودون فيسمون صفر صفر ، ثم يسمون رجب جمادى الاَخرة ، ثم يسمون شعبان ورمضان ، ثم يسمون رمضان شوالاً ، ثم يسمون ذا القعدة شوّالاً ، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرّم ذا الحجة فيحجون فيه ، واسمه عندهم ذو الحجة . ثم عادوا بمثل هذه القصة ، فكانوا يحجون في كل شهر عامين ، حتى وافق حجة أبي بكر رضي الله عنه الاَخر من العامين في ذي القعدة . ثم حجّ النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حجّ ، فوافق ذا الحجة ، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : حجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرّم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين ، حتى وافقت حجة أبي بكر الاَخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة . ثم حجّ النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة . فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك : إنّمَا النّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشرا شهرا ، فيجعلون المحرّم صفرا ، فيستحلون فيه الحرمات . فأنزل الله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا . . . الآية . قال : هذا رجل من بني كنانة يقال له القَلَمّس ، كان في الجاهلية ، وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمدّ إليه يده . فلما كان هو ، قال : اخرجوا بنا قالوا له : هذا المحرم . فقال : ننسئه العام ، هما العام صفران ، فإذا كان عام قابل قضينا فجعلناهما محرمين قال : ففعل ذلك . فلما كان عام قابل ، قال : لا تغزوا في صفر حرّموه مع المحرّم ، هما محرّمان المحرم أنسأناه عاما أوّل ونقضيه ذلك الإنساء . وقال شاعرهم :

*** وَمِنّا مُنْسِيءُ الشّهْرِ القَلَمّسْ ***

وأنزل الله : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ . . . إلى آخر الآية .

وأما قوله : زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ فإن معناه : زيادة كفر بالنسيء إلى كفرهم بالله . وقيل ابتداعهم النسيء كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يقول : ازدادوا به كفرا إلى كفرهم .

وأما قوله : لِيُوَاطِئُوا فإنه من قول القائل : واطأت فلانا على كذا أواطئه مواطأة : إذا وافقته عليه ، معينا له ، غير مخالف عليه .

ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ يقول : يشبهون .

وذلك قريب المعنى مما بيّنا ، وذلك أن ما شابه الشيء فقد وافقه من الوجه الذي شابهه .

وإنما معنى الكلام : أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرّمونها عدة الأشهر الأربعة التي حرّمها الله ، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها ، وإن قدّموا وأخّروا فذلك مواطأة عدتهم عدّة ما حرّم الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

{ النسيء } على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير ، تقول العرب أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من سره النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه »{[5641]} وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء » كما تقدم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ{[5642]} «النسيّء » بشد الياء ، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء » ، وقرأ أيضاً فيما روي عنه «النسء » على وزن الَّنسع وقرأت فرقة «النسي » . فأما «النسيء » بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي{[5643]} ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر .

قال القاضي أبو محمد : وقال أبو حاتم هو فعيل بمعنى مفعول ، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف كان المعنى إنما إنساء النسيء ، وقاله الطبري هو من معنى الزيادة أي زيادتهم في الأشهر ، وقال أبو وائل كان النسيء رجلاً من بني كنانة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأما «النسي » فهو الأول بعينه خففت الهمزة وقيل قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء ، وأما «النسء » هو مصدر من نسأ إذا أخر ، وأما «النسي » فقيل تخفيف همزة النسيء وذلك على غير قياس ، وقال الطبري هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك .

قال القاضي أبو محمد : والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة ، وقوله { زيادة في الكفر } أي جار في كفرهم بالله وخلاف منهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه{[5644]} .

قال القاضي أبو محمد : ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم : [ الوفر ]

ومنا منسىء الشهر القلمس{[5645]}***

وقال الآخر : [ الكامل ]

نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها*** من قبلكم والعز لم يتحول{[5646]}

ومنه قول جذل الطعان : [ الوافر ]

وقد علمت معدّ أَنَّ قومي*** كرام الناس أن لهم كراما

فأي الناس فاتونا بوتر*** وأي الناس لم تعلك لجاما

ألسنا الناسئين على معد*** شهور الحل نجعلها حراما{[5647]}

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يَضِل » بفتح الياء وكسر الضاد ، وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون «يُضِل » بضم الياء وكسر الضاد فإما على معنى يضل الله وإما على معنى يضل به الذين كفروا أتباعهم ، ف { الذين } في التأويل الأول في موضع نصب ، وفي الثاني في موضع رفع ، وقرأ عاصم أيضاً وحمزة والكسائي وابن مسعود فيما روي عنه «يُضِل » بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { زين } للتناسب في اللفظ ، وقرأ أبو رجاء «يَضل » من ضل يضل على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها وهي لغتان يقال ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما ، وكذلك يروى قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «حتى يضَل الرجل إن يدر كم صلى » بفتح الضاد وكسرها{[5648]} ، وقوله { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } معناه عاماً من الأعوام وليس يريد أن تلك مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام .

قال القاضي أبو محمد : وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلاً منه ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه وأحل صفر ، ومشت الشهور مستقيمة ، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم .

قال القاضي أبو محمد : والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات ، وقد بينه مجاهد وأبو مالك ، وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «إن الزمان قد استدار » مع أن هذا الأمر كله قد تقضى والله أعلم . أي ذلك كان ، وقوله { ليواطئوا } معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه ، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد .

قال القاضي أبو محمد : فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر ، وقوله { زين } يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عز وجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم ، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن ، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم ، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هداية من حيث هم كفار .

قال القاضي أبو محمد : وذكر أبو علي البغدادي في أمر «النسيء » أنه كان إذا صدر الناس من منى قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة فيقول أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهراً أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر .

قال القاضي أبو محمد : واسم نعيم لم يعرف في هذا وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم كانوا يسمون القلامس واحدهم قلمس وكانوا يفتون العرب في الموسم ، يقوم كبيرهم في الحجر ويقوم آخر عند الباب ويقوم آخر عند الركن فيفتون .

قال القاضي أبو محمد : فهم على هذا عدة ، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم .

قال القاضي أبو محمد : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «لا عدوى ولا هامة ولا صفر »{[5649]} ، فقال بعض الناس : إنه يريد بقوله لا صفر هذا النسيء ، وقيل غير ذلك .


[5641]:- أخرجه البخاري في كتاب البيوع بلفظ: (من سرّه أن يبسط له رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه)، وأخرجه مسلم في كتاب البر، وأبو داود في كتاب الزكاة.
[5642]:- هذه القراءة ليست من الشاذ، فقد قرأ بها نافع، قال أبو حيان في "البحر": وقرأ الزهري، وحميد، وأبو جعفر، وورش عن نافع والحلواني: (النسي) بتشديد الياء =من غير همز". ونقل القرطبي عن النحاس قوله: "ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه (إنما النسي) بلا همز إلا ورش وحده". وعلى هذا يكون معنى قول ابن عطية: "وقوم معه في الشاذ" وقوم ممن يعدّون في الشاذ، وليس غرضه أن يجعل هذه القراءة من الشاذ.
[5643]:- العذير: العاذر، يقال: عذيرك من فلان، بالنصب، أي: هات من يعذرك، فعيل بمعنى فاعل، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ينظر إلى ابن مُلجم: *عذيرك من خليلك من مراد* والعاذر والعذير: من يفعل شيئا لقومه فيقبلون عذره فلا يلومونه، فيكون كأنه اعتذر عن التقصير وهم قبلوا عذره، كمن يتخذ طعاما لقومه في ختان أو عرس، وإضافة "عذير" للحي على معنى اللام وليست من إضافة المصدر إلى مفعوله، لأن أعذر المذكور لازم، قال ذو الأصبح العدواني: عذير الحي من عدوا ن كانوا حية الأرض بغى بعض على بعض فلم يرعوا على بعض يقول: هات عذرا فيما فعل بعضهم ببعض من التباعد والتباغض والقتل، ولم يرع بعضهم على بعض بعد ما كانوا حية يحذرها الناس جميعا.
[5644]:- قال بعض العلماء: لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفرا، قال تعالى: {فزادتهم رجسا إلى رجسهم}، كما أن المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيمانا، قال تعالى: {فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون}. ذكر ذلك أبو حيان في "البحر". وقال القرطبي: "لما فعلته العرب من جمعها من أنواع الكفر، فإنها أنكرت وجود الله، وأنكرت البعث، وأنكرت بعثة الرسل". الخ.
[5645]:- القلمّس بفتح القاف واللام وتشديد الميم سبقت الإشارة إليه، واسمه حذيفة ابن عبد من بني فقيم من بني كنانة، وشاعرهم يقول هذا الشعر افتخارا منه لأن الذي يظفر بالنسيء تختاره العرب للرياسة، وروي هذا الشطر من بحر الوافر: "ومنا ناسئ" بدلا من "منسئ".
[5646]:- لم نقف على قائل هذا البيت، والشاعر فيه يفخر بقوم كان لهم النسيء قبل غيرهم ولا يزال العز فيهم لم يتحول عنهم.
[5647]:- هذه الأبيات مختلف في نسبتها، فصاحب اللسان، وصاحب التاج ينسبان البيت الأخير فيها إلى عمير بن قيس بن جذل الطّعان، والألوسي والقرطبي ينسبانه إلى الكميت، وواضح أن ابن عطية ينسبها كلها إلى عمير هذا لكن خطأ النساخ جعله: جذل الطعان.
[5648]:- أخرجه أبو داود في كتاب "الصلاة"ن ورواه في الموطأ في النداء" (عن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) جـ 3 ص 515.
[5649]:- رواه الشيخان، وأبو داود عن أبي هريرة، وعن السائب بن زيد، وكذلك أخرجه الإمام أحمد في مسنده بهذا اللفظ عن أبي هريرة، وعن السائب بن زيد، وأخرجه هو ومسلم في صحيحه عن جابر بلفظ: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا غول).