{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
كان الطلاق في الجاهلية ، واستمر أول الإسلام ، يطلق الرجل زوجته بلا نهاية ، فكان إذا أراد مضارتها ، طلقها ، فإذا شارفت انقضاء عدتها ، راجعها ، ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدا ، فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم ، فأخبر تعالى أن { الطَّلَاقَ } أي : الذي تحصل به الرجعة { مَرَّتَانِ } ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها ، ويراجع رأيه في هذه المدة ، وأما ما فوقها ، فليس محلا لذلك ، لأن من زاد على الثنتين ، فإما متجرئ على المحرم ، أو ليس له رغبة في إمساكها ، بل قصده المضارة ، فلهذا أمر تعالى الزوج ، أن يمسك زوجته { بِمَعْرُوفٍ } أي : عشرة حسنة ، ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم ، وهذا هو الأرجح ، وإلا يسرحها ويفارقها { بِإِحْسَانٍ } ومن الإحسان ، أن لا يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها ، لأنه ظلم ، وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء ، فلهذا قال : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وهي المخالعة بالمعروف ، بأن كرهت الزوجة زوجها ، لخلقه أو خلقه أو نقص دينه ، وخافت أن لا تطيع الله فيه ، { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } لأنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقة ، وفي هذا مشروعية الخلع ، إذا وجدت هذه الحكمة .
{ تِلْكَ } أي ما تقدم من الأحكام الشرعية { حُدُودُ اللَّهِ } أي : أحكامه التي شرعها لكم ، وأمر بالوقوف معها ، { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال ، وتعدى منه إلى الحرام ، فلم يسعه ما أحل الله ؟
ظلم العبد فيما بينه وبين الله ، وظلم العبد الأكبر الذي هو الشرك ، وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق ، فالشرك لا يغفره الله إلا بالتوبة ، وحقوق العباد ، لا يترك الله منها شيئا ، والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك ، تحت المشيئة والحكمة .
والحكم التالي يختص بعدد الطلقات ، وحق المطلقة في تملك الصداق ، وحرمة استرداد شيء منه عند الطلاق ، إلا في حالة واحدة : حالة المرأة الكارهة التي تخشى أن ترتكب معصية لو بقيت مقيدة بهذا الزواج المكروه . وهي حالة الخلع التي تشتري فيها المرأة حريتها بفدية تدفعها :
( الطلاق مرتان . فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا . إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله . فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به . تلك حدود الله فلا تعتدوها . ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) . .
الطلاق الذي يجوز بعده استئناف الحياة مرتان . فإذا تجاوزهما المتجاوز لم يكن إلى العودة من سبيل إلا بشرط تنص عليه الآية التالية في السياق . وهو أن تنكح زوجا غيره ، ثم يطلقها الزوج الآخر طلاقا طبيعيا لسبب من الأسباب ، ولا يراجعها فتبين منه . . وعندئذ فقط يجوز لزوجها الأول أن ينكحها من جديد ، إذا ارتضته زوجا من جديد .
وقد ورد في سبب نزول هذا القيد ، أنه في أول العهد بالإسلام كان الطلاق غير محدد بعدد من المرات . فكان للرجل أن يراجع مطلقته في عدتها ، ثم يطلقها ويراجعها . هكذا ما شاء . . ثم إن رجلا من الأنصار اختلف مع زوجته فوجد عليها في نفسه ، فقال : والله لا آويك ولا أفارقك . قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلقك ، فإذا دنا أجلك راجعتك . فذكرت ذلك للرسول [ ص ] فأنزل الله عز وجل : ( الطلاق مرتان ) . .
وحكمة المنهج الرباني الذي أخذ به الجماعة المسلمة مطردة في تنزيل الأحكام عند بروز الحاجة إليها . . حتى استوفى المنهج أصوله كلها على هذا النحو . ولم يبق إلا التفريعات التي تلاحق الحالات الطارئة ، وتنشىء حلولا مستمدة من تلك الأصول الشاملة .
وهذا التقييد جعل الطلاق محصورا مقيدا ؛ لا سبيل إلى العبث باستخدامه طويلا . فإذا وقعت الطلقة الأولى كان للزوج في فترة العدة أن يراجع زوجه بدون حاجة إلى أي إجراء آخر . فأما إذا ترك العدة تمضي فإنها تبين منه ؛ ولا يملك ردها إلا بعقد ومهر جديدين . فإذا هو راجعها في العدة أو إذا هو أعاد زواجها في حالة البينونة الصغرى كانت له عليها طلقة أخرى كالطلقة الأولى بجميع أحكامها . فأما إذا طلقها الثالثة فقد بانت منه بينونة كبرى بمجرد إيقاعها فلا رجعة فيها في عدة ، ولا عودة بعدها إلا أن ينكحها زوجا آخر . ثميقع لسبب طبيعي أن يطلقها . فتبين منه لأنه لم يراجعها . أو لأنه استوفى عليها عدد مرات الطلاق . فحينئذ فقط يمكن أن تعود إلى زوجها الأول .
إن الطلقة الأولى محك وتجربة كما بينا . فأما الثانية فهي تجربة أخرى وامتحان أخير . فإن صلحت الحياة بعدها فذاك . وإلا فالطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة الزوجية لا تصلح معه حياة .
وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجا أخيرا لعلة لا يجدي فيها سواه . فإذا وقعت الطلقتان : فإما إمساك للزوجة بالمعروف ، واستئناف حياة رضية رخية ؛ وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء . وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد . . وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية ؛ ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار ، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه . ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال !
ولا يحل للرجل أن يسترد شيئا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها . ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية ؛ وتحس أن كراهيتها له ، أو نفورها منه ، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة ، أو العفة ، أو الأدب . فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه ؛ وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه ؛ برد الصداق الذي أمهرها إياه ، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدي حدوده ، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال . وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس ؛ ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها ؛ ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها ؛ وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه .
ولكي نتصور حيوية هذا النص ومداه ، يحسن أن نراجع سابقة واقعية من تطبيقه على عهد رسول الله [ ص ] تكشف عن مدى الجد والتقدير والقصد والعدل في هذا المنهج الرباني القويم .
روى الإمام مالك في كتابه : الموطأ . . أن حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس . وأن رسول الله [ ص ] خرج في الصبح ، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس . فقال رسول الله [ ص ] : " من هذه ؟ " قالت : أنا حبيبة بنت سهل ! فقال : " ما شأنك ؟ " فقالت : لا أنا ولا ثابت بن قيس - لزوجها - فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله [ ص ] : " هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر " . . فقالت حبيبة : يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي . فقال رسول الله [ ص ] : " خذ منها " فأخذ منها وجلست في أهلها .
وروى البخاري - بإسناده - عن ابن عباس رضي الله عنهما - أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي [ ص ] فقالت : يا رسول الله . ما اعيب عليه في خلق ولا دين ، ولكن أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله [ ص ] : " أتردين عليه حديقته ؟ " [ وكان قد أمهرها حديقة ] قالت : نعم . قال رسول الله [ ص ] : " أقبل الحديقة وطلقها تطليقة " . .
وفي رواية أكثر تفصيلا رواها ابن جرير بإسناد - عن أبي جرير أنه سأل عكرمة : هل كان للخلع أصل ؟ قال : كان ابن عباس يقول : إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي . إنها أتت رسول الله [ ص ] فقالت : يا رسول الله ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا . إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها . فقال زوجها : يا رسول اللهإني قد أعطيتها أفضل مالي : حديقة لي . فإن ردت علي حديقتي . قال : ما تقولين ؟ قالت : نعم وإن شاء زدته . قال : ففرق بينهما . .
ومجموعة هذه الروايات تصور الحالة النفسية التي قبلها رسول الله [ ص ] وواجهها مواجهة من يدرك أنها حالة قاهرة لا جدوى من استنكارها وقسر المرأة على العشرة ؛ وأن لا خير في عشرة هذه المشاعر تسودها . فاختار لها الحل من المنهج الرباني الذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية ؛ ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقية .
ولما كان مرد الجد أو العبث ، والصدق أو الاحتيال ، في هذه الأحوال . . هو تقوى الله ، وخوف عقابه . جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله :
( تلك حدود الله فلا تعتدوها . ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) . .
ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد ، حسب اختلاف الملابستين :
في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم . ورد تعقيب : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) . . وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب : ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) . .
في الأولى تحذير من القرب . وفي الثانية تحذير من الاعتداء . . فلماذا كان الاختلاف ؟
في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة :
( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . . هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . . علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ، فتاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم . وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . ثم أتموا الصيام إلى الليل ، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد . . تلك حدود الله فلا تقربوها ) . .
والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية . فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها ، اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها !
أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات . فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف ؛ وتجاوزها وعدم الوقوف عندها . فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة . بسبب اختلاف المناسبة . . وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة !
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته ، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة ، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله عز وجل إلى ثلاث طلقات ، وأباح الرجعة في المرة والثنتين ، وأبانها بالكلية في الثالثة ، فقال : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
قال أبو داود ، رحمه الله ، في سننه : " باب في نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث " : حدثنا أحمد ابن محمد المروزي ، حدثني علي بن الحسين بن واقد ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } الآية : وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثا ، فنسخ ذلك فقال : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } الآية .
ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن علي بن الحسين ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا عبدة - يعني ابن سليمان - عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن رجلا قال لامرأته : لا أطلقك أبدًا ولا آويك أبدًا . قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلقك ، حتى إذا دنا أجلك راجعتك . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فأنزل الله عز وجل : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ }
وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جَرير بن عبد الحميد ، وابن إدريس . ورواه عبد بن حُمَيد في تفسيره ، عن جعفر بن عون ، كلهم عن هشام ، عن أبيه . قال : كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ، ما دامت في العدة ، وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال : والله لا آويك ولا أفارقك . قالت : وكيف ذلك . قال : أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ، ثم أطلقك ، فإذا دنا أجلك راجعتك . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } قال : فاستقبل الناس الطلاق ، من كان طلق ومن لم يكن طلق .
وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من طريق محمد بن سليمان ، عن يعلى بن شبيب - مولى الزبير - عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم . ورواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن يعلى بن شبيب به . ثم رواه عن أبي كريب ، عن ابن إدريس ، عن هشام ، عن أبيه مرسلا . قال : هذا أصح . ورواه الحاكم في مستدركه ، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب ، عن يعلى بن شبيب به ، وقال صحيح الإسناد .
ثم قال ابن مَردُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لم يكن للطلاق وقت ، يطلقُ الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة ، وكان بين رَجل من الأنصار وبين أهله بعضُ ما يكون بين الناس فقال : والله لأتركنك لا أيِّمًا ولا ذات زوج ، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ، ففعل ذلك مرارًا ، فأنزل الله عز وجل فيه : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فوقَّتَ الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة ، حتى تنكح زوجًا غيره . وهكذا رُوي عن قتادة مرسلا . وذكره السدي ، وابن زيد ، وابن جرير كذلك ، واختار أن هذا تفسير هذه الآية .
وقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أي : إذا طلقتها واحدة أو اثنتين ، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية ، بين أن تردها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها ، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها ، فتبين منك ، وتطلق سراحها محسنًا إليها ، لا تظلمها من حقها شيئًا ، ولا تُضارّ بها .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين ، فليتق الله في الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها [ بإحسان ] فلا يظلمها من حقها شيئا .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني سفيان الثوري ، حدثني إسماعيل بن سميع ، قال : سمعت أبا رَزِين يقول : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله عز وجل : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أين الثالثة ؟ قال : " التسريح بإحسان " .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، ولفظه : أخبرنا يزيد بن أبي حكيم ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، أن أبا رزين الأسدي يقول : قال رجل : يا رسول الله ، أرأيت قول الله : " الطلاق مرتان " ، فأين الثالثة ؟ قال : " التسريح بإحسان الثالثة "
ورواه الإمام أحمد أيضًا . وهكذا رواه سعيد بن منصور ، عن خالد بن عبد الله ، عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين ، به . وكذا رواه قيس بن الربيع ، عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلا . ورواه ابن مردويه [ أيضا ] من طريق عبد الواحد بن زياد ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره . ثم قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم ، حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ذكر الله الطلاق مرتين ، فأين الثالثة ؟ قال : " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " .
وقوله : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [ إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ] } أي : لا يحل لكم أن تُضَاجِروهن وتضيّقوا عليهن ، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه ، كما قال تعالى : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } [ النساء : 19 ] فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها . فقد قال تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [ النساء : 4 ] وأما إذا تشاقق الزوجان ، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته ، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ، ولا حرج عليها في بذلها ، ولا عليه في قبول ذلك منها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } الآية .
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه ، فقد قال ابن جرير :
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب - وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية - قالا جميعا : حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابة ، عمن حدثه ، عن ثوبان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن بندار ، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به . وقال حسن : قال : ويروى ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان . ورواه بعضهم ، عن أيوب بهذا الإسناد . ولم يرفعه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة - قال : وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " .
وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجة ، وابن جرير ، من حديث حماد بن زيد ، به .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس ، حَرّم الله عليها رائحة الجنة " . وقال : " المختلعات هن المنافقات " .
ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعًا ، عن أبي كريب ، عن مزاحم بن ذَوّاد بن عُلْبَة ، عن أبيه ، عن ليث ، هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب ، عن أبي زُرْعَة ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المختلعات هن المنافقات " . ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، وليس إسناده بالقوي .
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا حفص بن بشر ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن عن ثابت بن يزيد ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات " غريب من هذا الوجه ضعيف .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا بكر بن خلف أبو بشر ، حدثنا أبو عاصم ، عن جعفر بن يحيى بن ثَوْبان ، عن عمه عمارةَ بن ثوبان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسألُ امرأة زوجها الطلاق في غير كُنْهِه فَتَجِدَ ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب ، عن الحسن عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " .
ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف : إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة ، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية ، واحتجوا بقوله : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [ إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ] } . قالوا : فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة ، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل ، والأصل عَدَمُه ، وممن ذهب إلى هذا ابن عباس ، وطاوس ، وإبراهيم ، وعطاء ، [ والحسن ] والجمهور ، حتى قال مالك والأوزاعي : لو أخذ منها شيئًا وهو مضارّ لها وجب ردّه إليها ، وكان الطلاق رجعيًا . قال مالك : وهو الأمر الذي أدركتُ الناسَ عليه . وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه يجوز الخلع في حالة الشقاق ، وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى ، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة . وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستذكار " له ، عن بكر بن عبد الله المزني ، أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله : { وآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } [ النساء : 20 ] . ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله . وقد ذكر ابن جرير ، رحمه الله ، أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شَمَّاس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول . ولنذكر طرق حديثها ، واختلاف ألفاظه :
قال الإمام مالك في موطئه : عن يحيى بن سعيد ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية ، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغَلَس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من هذه ؟ " قالت : أنا حبيبة بنت سهل . فقال : " ما شأنك ؟ " فقالت : لا أنا ولا ثابت بن قيس - لزوجها - فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر " . فقالت حبيبة : يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذ منها " . فأخذ منها وجلست في أهلها .
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك بإسناده - مثله . ورواه أبو داود ، عن القعنبي ، عن مالك . والنسائي ، عن محمد بن مسلمة ، عن ابن القاسم ، عن مالك به .
حديث آخر : عن عائشة : قال أبو داود وابن جرير : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا أبو عمرو السدوسي ، عن عبد الله - بن أبي بكر - عن عمرة ، عن عائشة ، أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، فضربها فكسر نُغضها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا فقال : " خذ بعض مالها وفارقها " . قال : ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ قال : " نعم " . قال : فإني أصدقتها حديقتين ، فهما بيدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خذهما وفارقها " . ففعل .
وهذا لفظ ابن جرير . وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام .
حديث آخر فيه : عن ابن عباس رضي الله عنه :
قال البخاري : حدثنا أزهر بن جميل ، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكن أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " .
وكذا رواه النسائي ، عن أزهر بن جميل بإسناده ، مثله . ورواه البخاري أيضًا ، عن إسحاق الواسطي ، عن خالد هو ابن عبد الله الطحان ، عن خالد ، هو ابن مهران الحذاء ، عن عكرمة به ،
وهكذا رواه البخاري أيضًا من طرق ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، به . وفي بعضها أنها قالت : لا أطيقه ، تعني : بغضًا . وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه .
ثم قال : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، أن جميلة رضي الله عنها . كذا قال ، والمشهور أن اسمها حبيبة [ كما تقدم ] .
قال الحافظ أبو بكر بن مَردويه في تفسيره : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا أزهر بن مروان الرقاشي ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : والله ما أعتب على ثابت بن قيس بن شماس في دين ولا خلق ، ولكنني أكره الكفر بعد الإسلام ، لا أطيقه بغضًا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد .
وهكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان ، بإسناده مثله سواء ، وهو إسناد جيد مستقيم ورواه أيضا أبو القاسم البغوي ، عن عبيد الله القواريري ، عن عبد الأعلى ، مثله ، لكن قال ابن جرير :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح عن جميلة بنت أبي ابن سلول : أنها كانت تحت ثابت بن قيس ، فنشزت عليه ، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا جميلة ، ما كرهت من ثابت ؟ " قالت : والله ما كرهت منه دينًا ولا خلقًا ، إلا أني كرهت دمامته ! فقال لها : " أتردين الحديقة ؟ " قالت : نعم . فردت الحديقة ، وفرق بينهما .
قال ابن جرير أيضا : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال : قرأت على فضيل ، عن أبي جرير أنه سأل عكرمة : هل كان للخلع أصل ؟ قال : كان ابن عباس يقول : إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي ، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا ، إني رفعتُ جانب الخباء ، فرأيته أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادًا ، وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا . قال زوجها : يا رسول الله ، إني قد أعطيتها أفضل مالي ، حديقة لي ، فإن ردت عليَّ حديقتي ؟ قال : " ما تقولين ؟ " قالت : نعم ، وإن شاء زدته . قال : ففرق بينهما .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكان رجلا دميمًا ، فقالت : يا رسول الله ، والله لولا مخافة الله إذا دخل عليَّ بصقت في وجهه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم . فردت عليه حديقته . قال ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في أنه : هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها ؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك ، لعموم قوله تعالى : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب ، عن كثير مولى سمرة : أن عمر أتي بامرأة ناشز ، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ، ثم دعا بها فقال : كيف وجدت ؟ فقالت : ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي حبستني . فقال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها ورواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن كثير مولى سمرة ، فذكر مثله ، وزاد : فحبسها فيه ثلاثة أيام .
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن حميد بن عبد الرحمن : أن امرأة أتت عمر بن الخطاب ، فشكت زوجها ، فأباتها في بيت الزبل . فلما أصبحت قال لها : كيف وجدت مكانك ؟ قالت : ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة . فقال : خذ ولو عقاصها .
وقال البخاري : وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل : أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته قالت : كان لي زوج يُقِلّ عليَّ الخير إذا حضرني ، ويحرمني إذا غاب عني . قالت : فكانت مني زلة يومًا ، فقلت له : أختلع منك بكل شيء أملكه ؟ قال : نعم . قالت : ففعلت . قالت فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان ، فأجاز الخلع ، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه ، أو قالت : ما دون عقاص الرأس .
ومعنى هذا : أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها . وبه يقول ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعي ، وقبيصة بن ذؤيب ، والحسن بن صالح ، وعثمان البتي . وهذا مذهب مالك ، والليث ، والشافعي ، وأبي ثور ، واختاره ابن جرير .
وقال أصحاب أبي حنيفة ، رحمهم الله : إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ، ولا تجوز الزيادة عليه ، فإن ازداد جاز في القضاء : وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا ، فإن أخذ جاز في القضاء .
وقال الإمام أحمد ، وأبو عبيد ، وإسحاق بن راهويه : لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها . وهذا قول سعيد بن المسيب ، وعطاء ، وعمرو بن شعيب ، والزهري ، وطاوس ، والحسن ، والشعبي ، وحماد بن أبي سليمان ، والربيع بن أنس .
وقال معمر ، والحكم : كان علي يقول : لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها . وقال الأوزاعي : القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها .
قلت : ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قصة ثابت بن قيس : فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد ، وبما روى عبد بن حميد حيث قال : أخبرنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أي : من الذي أعطاها ؛ لتقدم قوله : { وَلا [ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ ] تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أي : من ذلك . وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس : " فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه مِنْهُ " رواه ابن جرير ؛ ولهذا قال بعده : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
قال الشافعي : اختلف أصحابنا في الخلع ، فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد ، يتزوجها إن شاء ؛ لأن الله تعالى يقول : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } قرأ إلى : { أَنْ يَتَرَاجَعَا } قال الشافعي : وأخبرنا سفيان ، عن عمرو [ بن دينار ] عن عكرمة قال : كل شيء أجازه المال فليس بطلاق .
وروى غير الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس : أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال : رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه ، أيتزوجها ؟ قال : نعم ، ليس الخلع بطلاق ، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها ، والخلع فيما بين ذلك ، فليس الخلع بشيء ، ثم قرأ : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقرأ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما - من أن الخلع ليس بطلاق ، وإنما هو فسخ - هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وابن عمر . وهو قول طاوس ، وعكرمة . وبه يقول أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور ، وداود بن علي الظاهري . وهو مذهب الشافعي في القديم ، وهو ظاهر الآية الكريمة .
والقول الثاني في الخلع : إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك . قال مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن جُمْهان مولى الأسلميين عن أم بكر الأسلمية : أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن خالد بن أسيد ، فأتيا عثمان بن عفان في ذلك ، فقال : تطليقة ؛ إلا أن تكون سميت شيئًا فهو ما سميت . قال الشافعي : ولا أعرف جُمْهان . وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر ، والله أعلم .
وقد روي نحوه عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر . وبه يقول سعيد بن المسيب ، والحسن ، وعطاء ، وشريح ، والشعبي ، وإبراهيم ، وجابر بن زيد . وإليه ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، وعثمان التبي ، والشافعي في الجديد . غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة . وإن نوى ثلاثًا فثلاث . وللشافعي قول آخر في الخلع ، وهو : أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق ، وعري عن النية فليس هو بشيء بالكلية .
وذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق في رواية عنهما ، وهي المشهورة ؛ إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء ، إن كانت ممن تحيض . وروي ذلك عن عمر ، وعلي ، وابن عمر . وبه يقول سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعروة ، وسالم ، وأبو سلمة ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن شهاب ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وأبو عياض ، وجُلاس بن عمرو ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبو عبيد . قال الترمذي : وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم . ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق ، فتعتد كسائر المطلقات .
والقول الثاني : أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها . قال ابن أبي شيبة : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع أن الربيع اختلعت من زوجها ، فأتى عمها عثمان ، رضي الله عنه ، فقال : تعتد حيضة . قال : وكان ابن عمر يقول : تعتد ثلاث حيض ، حتى قال هذا عثمان ، فكان ابن عمر يفتي به ويقول : عثمان خيرنا وأعلمنا .
وحدثنا عبدة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : عدة المختلعة حيضة .
وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : عدتها حيضة . وبه يقول عكرمة ، وأبان بن عثمان ، وكل من تقدم ذكره ممن يقول : إن الخلع فسخ - يلزمه
القول بهذا ، واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود ، والترمذي ، حيث قال كل واحد منهما : حدثنا محمد بن عبد الرحيم البغدادي ، حدثنا علي بن بحر ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن عمرو بن مسلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة . ثم قال الترمذي : حسن غريب . وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عمرو بن مسلم ، عن عكرمة مرسلا .
حديث آخر : قال الترمذي : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن وهو مولى آل طلحة ، عن سليمان بن يسار ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء : أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرها النبي - أو أمرت - أن تعتد بحيضة . قال الترمذي : الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة .
طريق أخرى : قال ابن ماجة : حدثنا علي بن سلمة النيسابوري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال : قلت لها : حدثيني حديثك . قالت : اختلعت من زوجي ، ثم جئت عثمان ، فسألت : ماذا علي من العدة ؟ قال : لا عدة عليك ، إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة . قالت : وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية ، وكانت تحت ثابت بن قيس ، فاختلعت منه .
وقد روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن الربيع بنت معوذ قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة .
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ؛ لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء . وروي عن عبد الله بن أبي أوفى ، وماهان الحنفي ، وسعيد بن المسيب ، والزهري أنهم قالوا : إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها ، وهو اختيار أبي ثور ، رحمه الله . وقال سفيان الثوري : إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها . وإن كان سمى طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة . وبه يقول داود بن علي الظاهري : واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة . وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر ، عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك ، كما لا يجوز لغيره ، وهو قول شاذ مردود .
وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء :
أحدهما : ليس له ذلك ؛ لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه . وبه يقول ابن عباس ، وابن الزبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، والحسن البصري ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور .
والثاني : قال مالك : إن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما وقع ، وإن سكت بينهما لم يقع . قال ابن عبد البر : وهذا يشبه ما روي عن عثمان ، رضي الله عنه .
والثالث : أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي . وبه يقول سعيد بن المسيب ، وشريح ، وطاوس ، وإبراهيم ، والزهري ، والحكم وحماد بن أبي سليمان . وروي ذلك عن ابن مسعود ، وأبي الدرداء قال ابن عبد البر : وليس ذلك بثابت عنهما .
وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده ، فلا تتجاوزوها . كما ثبت في الحديث الصحيح : " إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم محارم فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان ، فلا تسألوا عنها " .
وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام ، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم ، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة واحدة ، لقوله : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } ثم قال : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ويُقَوُّون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال : حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه ، عن محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان ، ثم قال : " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ ! " حتى قام رجل فقال يا رسول الله ، ألا أقتله ؟ فيه انقطاع .
{ الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّآ آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلاّ أَن يَخَافَآ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته ، والعدد الذي تبين به زوجته منه .
ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه ، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدا حرم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأته المطلقة إلا بعد زوج ، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه .
ذكر الأخبار الواردة بما قلنا في ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدّتها كانت امرأته ، فغضب رجل من الأنصار على امرأته ، فقال لها : لا أقربك ولا تحلين مني قالت له : كيف ؟ قال : أطلقك ، حتى إذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك ، فإذا دنا أجلك راجعتك . قال : فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى ذكره : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ . . . الآية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن أبيه ، قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : لا آويك ، ولا أدعك تحلين فقالت له : كيف تصنع ؟ قال : أطلقك ، فإذا دنا مضي عدتك راجعتك ، فمتى تحلين ؟ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانِ فاستقبله الناس جديدا من كان طلق ومن لم يكن طلق .
حدثنا محمد بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك ، ثم يراجع ما كانت في العدة ، فجعل الله حدّ الطلاق ثلاث تطليقات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان أهل الجاهلية يطلق أحدهم امرأته ثم يراجعها لا حدّ في ذلك ، هي امرأته ما راجعها في عدتها ، فجعل الله حدّ ذلك يصير إلى ثلاثة قروء ، وجعل حدّ الطلاق ثلاث تطليقات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : الطّلاقُ مَرّتانِ قال كان الطلاق قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاث ليس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة ، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحلّ كان ذلك له ، وطلق رجل امرأته حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها ، ثم استأنف بها طلاقا بعد ذلك ليضارّها بتركها ، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها ، وصنع ذلك مرارا . فلما علم الله ذلك منه ، جعل الطلاق ثلاثا ، مرتين ، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان .
3حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ أما قوله : الطّلاقُ مَرّتانِ فهو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة .
3حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : الطّلاقُ مَرّتانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال : إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها تطليقتين ، فإن أراد أن يراجعها كانت له عليها رجعة ، فإن شاء طلقها أخرى ، فلم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره .
فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كنّ مدخولاً بهنّ : تطليقتان ، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان ، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة .
وقال آخرون إنما أنزلت هذه الآية على نبي الله صلى الله عليه وسلم تعريفا من الله تعالى ذكره عباده سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن ، لا دلالة على القدر الذي تبين به المرأة من زوجها . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال : يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع ، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى ، ثم يطلقها إن شاء ، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها ، ثم إن شاء طلقها ، وإلا تركها حتى تتمّ ثلاث حيض وتبين منه به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : الطّلاقُ مَرّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين ، فليتق الله في التطليقة الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها ، أو يسرّحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، ، عن مجاهد في قوله : الطّلاقُ مَرّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال : يطلق الرجل امرأته طاهرا من غير جماع ، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تمّ القرء ، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى ، إن أحبّ أن يفعل ، فإن طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان ، ثم قال الله تعالى ذكره في الثالثة : فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : فحاضت الحيضة الثانية ، كما طلق الأولى ، فهذان تطليقتان وقرءان ، ثم قال : الثالثة ، وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
وتأويل الآية على قول هؤلاء : سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاق نسائِكم ، أن تطلقوهنّ ثنتين في كل طهر واحدة ، ثم الواجب بعد ذلك عليكم : إما أن تمسكوهنّ بمعروف ، أو تسرّحوهنّ بإحسان .
والذي هو أولى بظاهر التنزيل ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم ، وبُطولُ الرجعة فيه ، والذي يكون فيه الرجعة منه . وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها : فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ فعرّف عباده القدر الذي به تحرم المرأة على زوجها إلا بعد زوج ، ولم يبين فيها الوقت الذي يجوز الطلاق فيه والوقت الذي لا يجوز ذلك فيه ، فيكون موجها تأويل الآية إلى ما رُوي عن ابن مسعود ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه .
وأما قوله : فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ فإن في تأويله وفيما عني به اختلافا بين أهل التأويل ، فقال بعضهم : عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهنّ من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف ، أو فراقهن بطلاق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : الطلاق مرتان ؟ قال : يقول عند الثالثة : إما أن يمسك بمعروف ، وإما أن يسرّح بإحسان . وغيره قالها قال : وقال مجاهد : الرجل أملك بامرأته في تطليقتين من غيره ، فإذا تكلم الثالثة فليست منه بسبيل ، وتعتدّ لغيره .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين ، قال : أتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله أرأيت قوله : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تسْرِيحٌ بإحْسانٍ فأين الثالثة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ، أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ هي الثالثة » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، قالا : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ، الطلاق مرتان ، فأين الثالثة ؟ قال : «إمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ، أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن إسماعيل ، عن أبي رزين ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، يقول الله : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمُعْرُوفٍ فأين الثالثة ؟ قال : «التّسْريحُ بإحْسانٍ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال في الثالثة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان الطلاق ليس له وقت حتى أنزل الله : الطّلاقُ مَرّتانِ قال : الثالثة : إمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ .
وقال آخرون منهم : بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان ، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن ، فيصرن أملك لأنفسهن . وأنكروا قول الأولين الذين قالوا : إنه دليل على التطليقة الثالثة . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ إذا طلق واحدة أو اثنتين ، إما أن يمسك ويمسك : يراجع بمعروف وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها .
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ والتسريح : أن يدعها حتى تمضي عدتها .
3حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال : يعني تطليقتين بينهما مراجعة ، فأمر أن يمسك أو يسرّح بإحسان . قال : فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره .
وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أن معنى الكلام : الطلاق مرّتان ، فإمساك في كل واحدة منهما لهنّ بمعروف ، أو تسريح لهنّ بإحسان . وهذا مذهب مما يحتمله ظاهر التنزيل لولا الخبر الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي رواه إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين فإن اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره . فإذ كان ذلك هو الواجب ، فبين أن تأويل الآية : الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان ، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية ، إما إمساك بمعروف ، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبين منهم ، فتبطل ما كان لهن عليهن من الرجعة ويصرن أملك لأنفسهن منهن .
فإن قال قائل : وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف ؟ قيل : هو ما :
حدثنا به عليّ بن عبد الأعلى المحاربي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ قال : المعروف : أن يحسن صحبتها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ قال : ليتق الله في التطليقة الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها .
فإن قال : فما التسريح بإحسان ؟ قيل : هو ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قيل : يسرحها ، ولا يظلمها من حقها شيئا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال : هو الميثاق الغليظ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال : الإحسان : أن يوفيها حقها ، فلا يؤذيها ، ولا يشتمها .
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال : التسريح بإحسان : أن يدعها حتى تمضي عدتها ، ويعطيها مهرا إن كان لها عليه إذا طلقها . فذلك التسريح بإحسان ، والمتعة على قدر الميسرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غلِيظا قال قوله : فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ .
فإن قال : فما الرافع للإمساك والتسريح ؟ قيل : محذوف اكتفي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره ، ومعناه : الطلاق مرتان ، فالأمر الواجب حينئذ به إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان . وقد بيّنا ذلك مفسرا في قوله : فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْهِ بإحْسانٍ فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ الله .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا ولا يحلّ لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن بطلاقكم وفراقكم إياهن شيئا مما أعطيتموهنّ من الصداق ، وسقتم إليهنّ ، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان ، وذلك إيفاؤهنّ حقوقهنّ من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُود اللّهِ وذلك قراءة عُظْم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله ، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : «إلاّ أنْ يَظُنّا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّه » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني ثور ، عن ميمون بن مهران ، قال : في حرف أبيّ بن كعب إن الفداء تطليقة . قال : فذكرت ذلك لأيوب ، فأتينا رجلاً عنده مصحف قديم لأبيّ خرج من ثقة ، فقرأناه فإذا فيه : «إلاّ أنْ يَظُنّا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ ، فإنْ ظَنّا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ » : لا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجا غيره .
والعرب قد تضع الظن موضع الخوف والخوف موضع الظن في كلامها لتقارب معنييهما ، كما قال الشاعر :
أتانِي كَلامٌ عنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ *** وَما خِفْتُ يا سَلاّمُ أنّكَ عائِبي
وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة : «إلاّ أنْ يُخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ » فأما قاريء ذلك كذلك من أهل الكوفة ، فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود ، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود : «إلاّ أنْ تخافُوا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ » وقراءة ذلك كذلك اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه ، فإنما أعمل الخوف في «أن » وحدها ، وذلك غير مدفوعة صحته ، كما قال الشاعر :
إذَا مِتّ فادْفِنّي إلى جَنْب كَرْمَةٍ *** تُرَوّي عِظامي بَعْدَ مَوتي عُرُوقُها
وَلا تَدْفِنَيّ بالفَلاةِ فإنّنِي *** أخافُ إذَا ما متّ أنْ لا أذُوقُها
فأما قارئه إلا أن يخافا بذلك المعنى ، فقد أعمل في متروكةٍ تسميته وفي «أن » ، فأعمله في ثلاثة أشياء : المتروك الذي هو اسم ما لم يسمّ فاعله ، وفي أن التي تنوب عن شيئين ، ولا تقول العرب في كلامها ظُنّا أن يقوما ، لكن قراءة ذلك كذلك صحيحة على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا ، ولكن على أن يكون مرادا به إذا قريء كذلك : إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله ، أو على أن لا يقيما حدود الله ، فيكون العامل في أن غير الخوف ، ويكون الخوف عاملاً فيما لم يسمّ فاعله . وذلك هو الصواب عندنا في القراءة لدلالة ما بعده على صحته ، وهو قوله : فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فكان بينا أن الأول بمعنى : إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله .
فإن قال قائل : وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها ؟ قيل : حال نشوزها وإظهارها له بغضته ، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحقّ ، ويخاف على زوجها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب لها عليه ، فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه ، والحال التي أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان أتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : قرأت على فضيل ، عن أبي جرير أنه سأل عكرمة ، هل كان للخلع أصل ؟ قال : كان ابن عباس يقول : إن أول خلع كان في الإسلام أخت عبد الله بن أبيّ ، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عِدّة ، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها . قال زوجها : يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة فلتردد عليّ حديقتي قال : «ما تقولين ؟ » قالت : نعم ، وإن شاء زدته قال : ففرّق بينهما .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا أبو عمرو السدوسي ، عن عبد الله ، يعني ابن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة : أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، فضربها فكسر بعضها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح ، فاشتكته ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا ، فقال : «خُذْ بَعْضَ مَالها وفَارِقَهَا » قال : ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ قال : «نعم » ، قال : فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خُذْهُما وَفارقْها » ففعل .
حدثنا أبو يسار ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا مالك ، عن يحيى ، عن عمرة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند بابه بالغلس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم«مَنْ هَذِه ؟ » قالت : أنا حبيبة بنت سهل ، لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها . فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ تَذْكُرُ ما شاءَ اللّهُ أنْ تَذْكُرَ » . فقالت حبيبة : يا رسول الله كلّ ما أعطانيه عندي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خُذْ مِنْها » فأخذ منها وجلست في بيتها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن بن واقد ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن جميلة بنت أبيّ ابن سلول ، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه ، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : «يا جَمِيلَةُ ما كَرِهْتِ مِنْ ثابِتٍ ؟ » قالت : والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا ، إلا إني كرهت دمامته . فقال لها : «أتَرُدّينَ الحَدِيقَةَ ؟ » قالت : نعم فردّت الحديقة وفرّق بينهما .
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في شأنهما ، أعني في شأن ثابت بن قيس وزوجته هذه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة ، قال : وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ » فقالت : نعم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : ويطيب لي ذلك ؟ قال : «نعم » ، قال ثابت : وقد فعلت فنزلت : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها .
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى الخوف منهما أن لا يقيما حدود الله ، فقال بعضهم : ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها ، فإذا ظهر ذلك منها له ، حلّ له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قيلها ، فتدعوك إلى أن تفتدي منك ، فلا جناح عليك فيما افتدت به .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : قال ابن جريج : أخبرني هشام بن عروة أن عروة كان يقول : لا يحلّ الفداء حتى يكون الفساد من قبلها ، ولم يكن يقول : لا يحلّ له حتى تقول : لا أبرّ لك قسما ، ولا أغتسل لك من جنابة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، قال : قال جابر بن زيد : إذا كان النشز من قبلها حلّ الفداء .
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول : إذا كان سوء الخلق وسوء العشرة من قبل المرأة فذاك يحلّ خلعها .
حدثني علي بن سهل ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن حماد ، عن هشام ، عن أبيه أنه قال : لا يصلح الخلع ، حتى يكون الفساد من قبل المرأة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر في امرأة قالت لزوجها : لا أبرّ لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، ولا أغتسل لك من جنابة . قال : ما هذا ؟ وحرّك يده ، لا أبرّ لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا إذا كرهت المرأة زوجها فليأخذه وليتركها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة : يعظها ، فإن انتهت وإلا هجرها ، فإن انتهت وإلا ضربها ، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان ، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، فيقول الحكم الذي من أهلها : تفعل بها كذا وتفعل بها كذا ، ويقول الحكم الذي من أهله : تفعل به كذا وتفعل به كذا ، فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ فوق يده ، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : الطّلاقُ مَرّتان فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ إلى قوله : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ قال : إذا كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة ، فلا يحل له أن يضربها ، حتى تفتدي منه ، فإن أخذ منها شيئا على ذلك ، فما أخذ منها فهو حرام ، وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قِبَلها ، فقد حلّ له أن يأخذ منها ما افتدت به .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ قال : لا يحلّ للرجل أن يخلع امرأته إلا أن يرى ذلك منها ، فأما أن يكون يضارّها حتى تختلع ، فإن ذلك لا يصلح ، ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء ، وأساءت عشرته ، فقد حلّ له خلعها .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا قال : الصداق إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ وحدود الله أن تكون المرأة ناشزة ، فإن الله أمر الزوج أن يعظها بكتاب الله ، فإن قبلت وإلا هجرها ، والهجران أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد ويوليها ظهره ولا يكلمها ، فإن أبت غلظ عليها القول بالشتيمة لترجع إلى طاعته ، فإن أبت فالضرب ضرب غير مبرح ، فإن أبت إلا جماحا فقد حلّ له منها الفدية .
وقال آخرون : بل الخوف من ذلك أن لا تبرّ له قسما ولا تطيع له أمرا ، وتقول : لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا ، فحينئذ يحلّ له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قال الحسن : إذا قالت : لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أبرّ لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، فحينئذ حلّ الخلع .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : إذا قالت المرأة لزوجها : لا أبرّ لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، ولا أغتسل لك من جنابة ، ولا أقيم حدّا من حدود الله ، فقد حلّ له مالها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن محمد بن سالم ، قال : سألت الشعبي ، قلت : متى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته ؟ قال : إذا أظهرت بغضه وقالت : لا أبرّ لك قسما ولا أطيع لك أمرا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي أنه كان يعجب من قول من يقول : لا تحل الفدية حتى تقول : لا أغتسل لك من جنابة . وقال : إن الزاني يزني ثم يغتسل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم في الناشز ، قال : إن المرأة ربما عصت زوجها ، ثم أطاعته ، ولكن إذا عصته فلم تبرّ قسمه ، فعند ذلك تحلّ الفدية .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا لا يحلّ له أن يأخذ من مهرها شيئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فإذا لم يقيما حدود الله ، فقد حل له الفداء ، وذلك أن تقول : والله لا أبرّ لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، ولا أكرم لك نفسا ، ولا أغتسل لك من جنابة . فهو حدود الله ، فإذا قالت المرأة ذلك فقد حلّ الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن عليّ بن بذيمة ، عن مقسم في قوله : وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنّ يقول : «إلا أن يفحشن » في قراءة ابن مسعود ، قال إذا عصتك وآذتك ، فقد حلّ لك ما أخذت منها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا قال : الخلع ، قال : ولا يحلّ له إلا أن تقول المرأة لا أبرّ قسمه ولا أطيع أمره ، فيقبله خيفة أن يسيء إليها إن أمسكها ، ويتعدّى الحق .
وقال آخرون : بل الخوف من ذلك أن تبتدىء له بلسانها قولاً أنها له كارهة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : حدثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن أيوب بن موسى ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها : إني لأكرهك ، وما أحبك ، ولقد خشيت أن أنام في جنبك ولا أؤدي حقك . وتطيب نفسك بالخلع .
وقال آخرون : بل الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود ، عن عامر ، حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، قال : قال عامر : أحلّ له مالها بنشوزه ونشوزها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : قال ابن جريج ، قال : طاوس : يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره ، ولم يكن يقول قول السفهاء : لا أبرّ لك قسما ، ولكن يحلّ له الفداء ما قال الله تعالى ذكره : إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ قال : فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، قال : لا يحلّ الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما .
وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال : لا يحلّ للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها ، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه منهما جميعا ، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن ومن قال في ذلك قولهما لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه ، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها له ؟ قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت ، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به ، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله . فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين ، فليس هناك للخوف موضع ، إذ كان المخوف قد وجد ، وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه ، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه .
القول في تأويل قوله تعالى : فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما بصنيعها ، فقال بعضهم : هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه ، وأذاها له بالكلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ قال : هو تركها إقامة حدود الله ، واستخفافها بحق زوجها ، وسوء خلقها ، فتقول له : والله لا أبرّ لك قسما ، ولا أطأ لك مضجعا ، ولا أطيع لك أمرا فإن فعلت ذلك فقد حلّ له منها الفدية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن في قوله : فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ قال : إذا قالت : لا أغتسل لك من جنابة حلّ له أن يأخذ منها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : حدثنا يونس ، عن الزهري قال : يحلّ الخلع حين يخافا أن لا يقيما حدود الله ، وأداء حدود الله في العشرة التي بينهما .
وقال آخرون : معنى ذلك : فإن خفتم أن لا يطيعا الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن عامر : فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ قال : أن لا يطيعا الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الحدود : الطاعة .
والصواب من القول في ذلك : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما أوجب الله عليهما من الفرائض فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه من العشرة بالمعروف ، والصحبة بالجميل ، فلا جناح عليهما فيما افتدت به .
وقد يدخل في ذلك ما رويناه عن ابن عباس والشعبي ، وما رويناه عن الحسن والزهري ، لأن من الواجب للزوج على المرأة إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه ، وأن لا تؤذيه بقول ، ولا تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته ، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها .
وأما معنى إقامة حدود الله ، فإنه العمل بها ، والمحافظة عليها ، وترك تضييعها ، وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ .
يعني قوله تعالى ذكره بذلك : فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق ، وألزمه له من فرض ، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدّي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها ، ولا حرج عليهما فيما أعطت هذه على فراق زوجها إياها ولا على هذا فيما أخذ منها من الجُعُل والعوض عليه .
فإن قال قائل : وهل كانت المرأة حَرِجة لو كان الضّرارُ من الرجل بها فيما افتدت به نفسها ، فيكون لا جناح عليهما فيما أعطته من الفدية على فراقها إذا كان النشوز من قبلها ؟ قيل : لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها ، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس ، ولا دين ، ولا حق عليها في ذهاب حقّ لها لما حلّ لها إعطاؤه ذلك ، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحلّ له أخذه منها لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس ، ولا دين ، ولا في حقّ لها تخاف ذهابه ، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحلّ له أخذه منها على الوجه الذي أعطته عليه ، فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها ، وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس ، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم ، وهي إذا أعطته على هذا الوجه باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى أولى إن شاء الله من الجناح والحرج ، ولذلك قال تعالى ذكره : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها ، وعنه فيما قبض منها إذا كانت معطية على المعنى الذي وصفنا ، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار ، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم .
وقد يتجه قوله : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس ، وذلك لكراهتها أخلاق زوجها أو دمامة خَلْقه ، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض ، ولكن على الانصراف منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحلّ لها كان حراما عليها أن تعطى على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها لله ، وتلك هي المختلعة إن خولعت على ذلك الوجه التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها منافقة . كما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثني المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أيّمَا امرأةٍ سألَتْ زوْجَها الطّلاقَ مِنْ غيرِ بأْسٍ حِرّمَ اللّهُ عَلَيْها رَائحَةَ الجَنّةِ » . وقال : «المُخْتَلِعاتُ هُنّ المُنافِقاتُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مزاحم بن دواد بن علية ، عن أبيه ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «المُخْتَلِعاتُ هُنّ المُنافِقاتُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حفص بن بشر ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن ثابت بن يزيد ، عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ المُخْتَلِعاتِ المُنْتَزَعاتِ هُنّ المُنافِقاتُ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قالا جميعا : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عمن حدثه ، عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أيّمَا امْرأةٍ سألَتْ زَوْجَها طَلاقا مِنْ غَيْرِ بَأسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْها رَائحَةُ الجَنّة » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه .
فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة ، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح ، وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة ، ومنه ما يكون عليهما ، ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح . قيل في الوجه : الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها لا جناح عليهما فيما افتدت به من الوجه الذي أبيح لهما ، وذلك أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه .
وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين : أحدهما أن يكون مرادا به : فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة ، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في سورة الرحمن : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجان وهما من الملح لا من العذب ، قال : ومثله : فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوَتهُما وإنما الناسي صاحب موسى وحده قال : ومثله في الكلام أن تقول : عندي دابتان أركبهما وأسقي عليهما وإنما تركب إحداهما وتسقي على الأخرى ، وهذا من سعة العربية التي يحتجّ بسعتها في الكلام .
قال : والوجه الاَخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح ، إذ كانت تُعطي ما قد نُفي عن الزوج فيه الإثم . اشتركت فيه ، لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت إلى مثل ذلك .
قال أبو جعفر : فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين ، ولا في احتجاجه فيما احتجّ به قوله : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ . فأما قوله : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فقد بينا وجه صوابه ، وسنبين وجه قوله : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى .
وإنما خطّأنا قوله ذلك لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن ، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان ، فأضاف إلى اثنين ، فلو جاز لقائل أن يقول : إنما أريد به الخبر عن أحدهما فيما لم يكن مستحيلاً أن يكون عنهما جاز في كل خبر كان عن اثنين غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما أن يقال : إنما هو خبر عن أحدهما ، وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم ، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ أمعنيّ به : أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه ؟ فقال بعضهم : عنى بذلك فلا جناح عليهما فيما افتدت به من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها ، وأن معنى الكلام : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ مما آتيتموهن .
قالوا : فالذي أحله الله لهما من ذلك عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك . واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه أن تردّ ما كان ثابت أصدقها ، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع أنه كان يقول : لا يصلح له أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها ، ويقول : إن الله يقول : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ منه ، يقول : من المهر . وكذلك كان يقرؤها : «فيما افتدت به منه » .
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : سمعت عمرو بن شعيب وعطاء بن أبي رباح والزهري يقولون في الناشز : لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو ، عن عطاء ، قال : الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء أنه كره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، عن الشعبي ، قال : كان يكره أن يأخذ الرجل من المختلعة فوق ما أعطاها ، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن الشعبي ، قال : لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، يعني المختلعة .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا عن الحكم بن عتيبة ، قال : كان عليّ رضي الله عنه يقول : لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن الحكم أنه قال في المختلعة : أحبّ إليّ أن لا يزداد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد أن الحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن مطر أنه سأل الحسن ، أو أن الحسن سئل عن رجل تزوّج امرأة على مائتي درهم ، فأراد أن يخلعها ، هل له أن يأخذ أربعمائة ؟ فقال : لا والله ، ذاك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : كان الحسن يقول : لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها . قال معمر : وبلغني عن عليّ أنه كان يرى أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن ابن المسيب ، قال : ما أحبّ أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها منه ما يعيشها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس أن أباه كان يقول في المفتدية : لا يحلّ له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : لا يحلّ للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره . واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية ، وأنه غير جائز إحالة ظاهر عام إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها قالوا : ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية دون بعض من أصل أو قياس ، فهي على ظاهرها وعمومها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة : أن عمر أتي بامرأة ناشز ، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثلاثا ، ثم دعا بها فقال : كيف وجدت ؟ قالت : ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني . فقال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن كثير مولى سمرة ، قال : أخذ عمر بن الخطاب امرأة ناشزة فوعظها ، فلم تقبل بخير ، فحبسها في بيت كثير الزبل ثلاثة أيام وذكر نحو حديث ابن علية .
حدثنا ابن بشار ومحمد بن يحيى ، قالا : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن حميد بن عبد الرحمن : أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فشكت زوجها ، فقال : إنها ناشز . فأباتها في بيت الزبل ، فلما أصبح قال لها : كيف وجدت مكانك ؟ قالت : ما كنت عنده ليلة أقرّ لعيني من هذه الليلة . فقال : خذ ولو عقاصها .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع : أن مولاة لصفية اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه إلا من ثيابها ، فلم يعب ذلك ابن عمر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا معتمر ، قال : سمعت عبيد الله يحدث ، عن نافع ، قال : ذكر لابن عمر مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها ، فلم يعب ذلك عليها ولم ينكره .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا هشيم ، عن حميد ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب : أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها . ثم تلا هذه الآية : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال في الخلع : خذ ما دون عقاص شعرها ، وإن كانت المرأة لتفتدي ببعض مالها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الخلع بما دون عقاص الرأس .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم أنه قال في المختلعة : خذ منها ولو عقاصها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الخلع بما دون عقاص الرأس ، وقد تفتدي المرأة ببعض مالها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن الرّبَيّع ابنة معوّذ بن عفراء حدثته قالت : كان لي زوج يقل عليّ الخير إذا حضرني ، ويحرمني إذا غاب . قالت : فكانت مني زلة يوما ، فقلت : أختلع منك بكل شيء أملكه قال : نعم قال : ففعلت قالت : فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان ، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه . أو قالت : ما دون عقاص الرأس .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا الحسن بن يحيى ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : لا بأس بما خلعها به من قليل أو كثير ، ولو عُقُصها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ليأخذ منها حتى قرطها . يعني في الخلع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مطرف بن عبد الله ، قال : أخبرنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن مولاة لصفية ابنة أبي عبيد : أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها ، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا حميد ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب أنه تلا هذه الآية : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ قال : يأخذ أكثر مما أعطاها .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن أبي عديّ ، عن حميد ، قال : قلت لرجاء بن حيوة : إن الحسن يقول في المختلعة : لا يأخذ أكثر مما أعطاها ، ويتأوّل : وَلا تَأخُذُوا مِما آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا قال رجاء : فإن قبيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، ويتأوّل : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ .
وقال آخرون : هذه الآية منسوخة بقوله : وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيئَا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال : سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا ؟ قال لا وقرأ : وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِيظا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا عقبة بن أبي الصهباء ، قال : سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته منه الخلع ، قال : لا يحلّ له أن يأخذ منها شيئا . قلت : يقول الله تعالى ذكره في كتابه : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ قال : هذه نسخت . قلت : فإني حفظت ؟ قال : حفظت في سورة النساء قول الله تعالى ذكره : وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُن قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا أتأخُذُونَهُ بُهْتانا وإثْما مُبِينا .
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله على سبيل ما قدمنا البيان عنه ، فلا حرج عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه ، وإن أتى ذلك على جميع ملكها لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حدّ لا يجاوَز ، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به غير أني أختار للرجل استحبابا لا تحتيما إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصيةٍ لله ، بل خوفا منها على دينها أن يفارقها بغير فدية ولا جُعْل فإن شحت نفسه بذلك ، فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها . فأما ما قاله بكر بن عبد الله من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله : وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُن قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا فقول لا معنى له ، فنتشاغل بالإنابة عن خطئه لمعنيين . أحدهما : إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين ، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها ، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره . والاَخر : أن الآية التي في سورة النساء إنما حرّم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها ، بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما بمقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله ، ولا نشوز من المرأة على الرجل . وإذا كان الأمر كذلك ، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالاً على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا من مالها على فراقها حرام ، ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا . وأما الآية التي في سورة البقرة ، فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة ، وطلبها فراق الرجل ، ورغبته فيها . فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في سورة البقرة ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في سورة النساء ، كما الحظر في سورة النساء غير الطلاق والإباحة في سورة البقرة . فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه ، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة . وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد ، فذلك هو الحكمة البالغة ، والمفهوم في العقل والفطرة ، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل .
وأما الذي قاله الربيع بن أنس من أن معنى الآية : فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه ، يعني بذلك : مما آتيتموهن ، فنظير قول بكر في دعواه نسخ قوله : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ بقوله : وآتَيْتُمْ إحْدَاهُن قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا لادّعائه في كتاب الله ما ليس موجودا في مصاحف المسلمين رسمه . ويقال لمن قال بقوله : قد قال من قد علمت من أئمة الدين : إنما معنى ذلك : فلا جناح عليهما فيما افتدت به من ملكها ، فهل من حجة تبين تهافتهم غير الدعوى ، فقد احتجوا بظاهر التنزيل ، وادّعيت فيه خصوصا . ثم يعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله . وقد بينا الأدلة بالشواهد على صحة قول من قال للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته المفتدية التي أباح الله لها الافتداء في كتابنا كتاب «اللطيف » فكرهنا إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأوُلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ .
يعني تعالى ذكره بذلك : تلك معالم فصوله ، بين ما أحلّ لكم ، وما حرّم عليكم أيها الناس ، فلا تعتدوا ما أحلّ لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال ، إلى ما حرّم عليكم ، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته .
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الاَيات التي مضت من نكاح المشركات الوثنيات ، وإنكاح المشركين المسلمات ، وإتيان النساء في المحيض ، وما قد بين في الاَيات الماضية قبل قوله : تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ مما أحلّ لعباده وحرّم عليهم ، وما أمر ونهى . ثم قال لهم تعالى ذكره : هذه الأشياء التي بينت لكم حلالها من حرامها حدودي ، يعني به : معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي فلا تعتدوها يقول : فلا تتجاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرّمته عليكم ، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه ، ولا طاعتي إلى معصيتي ، فإن من تعدّى ذلك يعني من تخطاه وتجاوزه إلى ما حرّمت عليه أو نهيته ، فإنه هو الظالم ، وهو الذي فعل ما ليس له فعله ، ووضع الشيء في غير موضعه .
وقد دللنا فيما مضى على معنى الظلم وأصله بشواهده الدالة على معناه ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن خالفت ألفاظ تأويلهم ألفاظ تأويلنا ، غير أن معنى ما قالوا في ذلك ( يرجع ) إلى معنى ما قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها يعني بالحدود : الطاعة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها يقول : من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه ، ومن يتعد حدود الله ، فأولئك هم الظالمون .
قال أبو جعفر : وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع ، لأنه لم يجر للطلاق في العدّة ذكر ، فيقال : تلك حدود الله ، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة ، والذي لا يكون له فيه الرجعة دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف}: يعني بإحسان، {أو تسريح بإحسان}: يعني التطليقة الثالثة في غير ضرار، كما أمر الله سبحانه في وفاء المهر.
{ولا يحل لكم} إذا أردتم طلاقها {أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا}: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته، أخرجها من بيته، فلا يعطيها شيئا من المهر.
ثم استثنى ورخص، فقال سبحانه: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}، يعني أمر الله عز وجل فيما أمرهما، وذلك أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها، فتعصى الله فيما أمرها زوجها، أو يخاف الزوج أن لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها.
يقول سبحانه: {فإن خفتم}: يعني علمتم. {ألا يقيما}: يعني الحاكم. {حدود الله}: يعني أمر الله في أنفسهما إن نشزت عليه.
{فلا جناح عليهما}: يعني الزوج والزوجة. {فيما افتدت به} من شيء، يقول: لا حرج عليهما إذا رضيا أن تفتدى منه ويقبل منها الفدية ثم يفترقا.
وكانت نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وفي امرأته أم حبيبة بنت عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وكان أمهرها حديقة فردتها عليه، واختلعت منه، فهي أول خلعة كانت في الإسلام.
{تلك حدود الله}، يعني أمر الله فيهما. {فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله}: ومن يخالف أمر الله إلى غيره. {فأولئك هم الظالمون} لأنفسهم...
أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة. فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها، ثم أمهلها، حتى إذا شارفَتْ انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها، وقال: والله لا آوِيكِ إليَّ ولا تحلين أبدا. فأنزل الله: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ اَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فاستقبل الناس الطلاق جديدا ـ من يومئذ ـ من كان منهم طلق أو لم يطلق. وذكر بعض أهل التفسير هذا. (اختلاف الحديث ص: 549. وأحكام الشافعي: 1/223. والأم: 5/242. ومعرفة السنن والآثار: 5/465-466.)... {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والقرآن يدل ـ والله تعالى أعلم ـ على أن من طلق زوجةً لهُ دَخَلَ بها أو لم يَدْخُلْ بها، ثلاثا، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره. فإذا قال الرجل لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثا، فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره...
وإن طلقها الزوج واحدة أو اثنتين، فنكحها زوج غيره وأصابها، ثم بانت منه، فنكحها الزوج الأول بعده، كانت عنده على ما بقي من طلاقها كهي قبل أن يُصيبها زوج غيره، يهدم الزوج المُصيبها بعده الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين...
فقيل ـ والله أعلم ـ في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمُ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اَللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا اَفْتَدَتْ بِهِ} أن تكون المرأة تكره الرجل حتى تخاف ألا تقيم حدود الله بأداء ما يجب عليها له أو أكثره إليه، ويكون الزوج غير مانع لها ما يجب عليه أو أكثره، فإذا كان هذا حلَّتِ الفدية للزوج، وإذا لم يقم أحدهما حدود الله فليسا معا مقيمين حدود الله...
قال الله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ اَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَّكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية كلها... فكان بيِّنًا في كتاب الله تعالى: أن كل طلاق حسب على مطلقة فيه عَدَدُ طلاق إلا الثلاث، فصاحبه يملك فيه الرجعة. وكان ذلك بينا في حديث ركانة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإلا الطلاق الذي يؤخذ عليه المال، لأن الله تعالى أذن به وسماه فدية. فقال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا اَفْتَدَتْ بِهِ} فكان بينا في كتاب الله تعالى إذ أحل له أخذ المال، أنه إذا ملك عوضا من شيء لم يجز أن يكون له على ما ملك به المال سبيل. والمال هو عوض من بُضْعِ المرأة، فلو كان له عليها فيه رجعة كان ملك مالها ولم تملك نفسها دونه. قال: واسم الفدية: أن تفدي نفسها بأن تقطع ملكه الذي له به الرجعة عليها، ولو ملك الرجعة لم تكن مالكة لنفسها، ولا واقعا عليها اسم فدية، بل كان مالها مأخوذا وهي بحالها قبل أخذه، والأحكام فيما أخذ عليه المال بأن يملكه من أعطى المال. (الأم: 5/258.) ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته، والعدد الذي تبين به زوجته منه.
ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدا حرم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأته المطلقة إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه.
فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كنّ مدخولاً بهنّ: تطليقتان، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة.
وقال آخرون إنما أنزلت هذه الآية على نبي الله صلى الله عليه وسلم تعريفا من الله تعالى ذكره عباده سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن، لا دلالة على القدر الذي تبين به المرأة من زوجها... وتأويل الآية على قول هؤلاء: سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاق نسائِكم، أن تطلقوهنّ ثنتين في كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك عليكم: إما أن تمسكوهنّ بمعروف، أو تسرّحوهنّ بإحسان.
والذي هو أولى بظاهر التنزيل أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها:"فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ" فعرّف عباده القدر الذي به تحرم المرأة على زوجها إلا بعد زوج، ولم يبين فيها الوقت الذي يجوز الطلاق فيه والوقت الذي لا يجوز ذلك فيه.
"فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ": فإن في تأويله وفيما عني به اختلافا بين أهل التأويل؛ فقال بعضهم: عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهنّ من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف، أو فراقهن بطلاق... حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، قال: أتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تسْرِيحٌ بإحْسانٍ فأين الثالثة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ هي الثالثة».
وقال آخرون منهم: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولين الذين قالوا: إنه دليل على التطليقة الثالثة... وكأن قائلي هذا القول ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرّتان، فإمساك في كل واحدة منهما لهنّ بمعروف، أو تسريح لهنّ بإحسان. وهذا مذهب مما يحتمله ظاهر التنزيل لولا الخبر الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين فإن اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره. فإذ كان ذلك هو الواجب، فبين أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساك بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبين منهم، فتبطل ما كان لهن عليهن من الرجعة ويصرن أملك لأنفسهن منهن.
فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف؟ قيل: المعروف: أن يحسن صحبتها.
فإن قال: فما التسريح بإحسان؟ قيل: يسرحها، ولا يظلمها من حقها شيئا... عن ابن عباس: "فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ "قال: هو الميثاق الغليظ.
عن السدي، قال: الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتمها.
عن الضحاك: التسريح بإحسان: أن يدعها حتى تمضي عدتها، ويعطيها مهرا إن كان لها عليه إذا طلقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قدر الميسرة.
"وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ الله": ولا يحلّ لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن بطلاقكم وفراقكم إياهن شيئا مما أعطيتموهنّ من الصداق، وسقتم إليهنّ، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهنّ حقوقهنّ من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله.
واختلفت القراء في قراءة ذلك؛ فقرأه بعضهم: "إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُود اللّهِ" وذلك قراءة عُظْم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب: «إلاّ أنْ يَظُنّا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّه».
والعرب قد تضع الظن موضع الخوف والخوف موضع الظن في كلامها لتقارب معنييهما.
وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة: «إلاّ أنْ يُخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ» فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة، فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: «إلاّ أنْ تخافُوا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ» وقراءة ذلك كذلك اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنما أعمل الخوف في «أن» وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته،
فأما قارئه إلا أن يخافا بذلك المعنى، فقد أعمل في متروكةٍ تسميته وفي «أن»، فأعمله في ثلاثة أشياء: المتروك الذي هو اسم ما لم يسمّ فاعله، وفي أن التي تنوب عن شيئين، ولا تقول العرب في كلامها ظُنّا أن يقوما، لكن قراءة ذلك كذلك صحيحة على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا، ولكن على أن يكون مرادا به إذا قرئ كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله، أو على أن لا يقيما حدود الله، فيكون العامل في أن غير الخوف، ويكون الخوف عاملاً فيما لم يسمّ فاعله. وذلك هو الصواب عندنا في القراءة لدلالة ما بعده على صحته، وهو قوله: "فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ" فكان بينا أن الأول بمعنى: إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله.
فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟ قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحقّ، ويخاف على زوجها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب لها عليه، فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان أتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له... كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام أخت عبد الله بن أبيّ، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا؛ إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عِدّة، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. قال زوجها: يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة فلتردد عليّ حديقتي قال: «ما تقولين؟» قالت: نعم، وإن شاء زدته قال: ففرّق بينهما.
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى الخوف منهما أن لا يقيما حدود الله؛ فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حلّ له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها.
وقال آخرون: بل الخوف من ذلك أن لا تبرّ له قسما ولا تطيع له أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا، فحينئذ يحلّ له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها.
وقال آخرون: بل الخوف من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولاً أنها له كارهة.
وقال آخرون: بل الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الاَخر. وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: لا يحلّ للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن ومن قال في ذلك قولهما لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها له؟ قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين، فليس هناك للخوف موضع، إذ كان المخوف قد وجد، وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه.
"فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ": اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: "فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ" التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما بصنيعها؛ فقال بعضهم: هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وأذاها له بالكلام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم أن لا يطيعا الله. والصواب من القول في ذلك: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما أوجب الله عليهما من الفرائض فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه من العشرة بالمعروف، والصحبة بالجميل، فلا جناح عليهما فيما افتدت به. لأن من الواجب للزوج على المرأة إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه، وأن لا تؤذيه بقول، ولا تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها.
وأما معنى إقامة حدود الله، فإنه العمل بها، والمحافظة عليها، وترك تضييعها، وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته.
"فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ": فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدّي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، ولا حرج عليهما فيما أعطت هذه على فراق زوجها إياها ولا على هذا فيما أخذ منها من الجُعُل والعوض عليه.
فإن قال قائل: وهل كانت المرأة حَرِجة لو كان الضّرارُ من الرجل بها فيما افتدت به نفسها، فيكون لا جناح عليهما فيما أعطته من الفدية على فراقها إذا كان النشوز من قبلها؟ قيل: لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا حق عليها في ذهاب حقّ لها لما حلّ لها إعطاؤه ذلك، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحلّ له أخذه منها لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا في حقّ لها تخاف ذهابه، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحلّ له أخذه منها على الوجه الذي أعطته عليه، فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها، وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم، وهي إذا أعطته على هذا الوجه باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى أولى إن شاء الله من الجناح والحرج، ولذلك قال تعالى ذكره: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها، وعنه فيما قبض منها إذا كانت معطية على المعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم.
وقد يتجه قوله: "فَلا جُناحَ عَلَيْهِما" وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس، وذلك لكراهتها أخلاق زوجها أو دمامة خَلْقه، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض، ولكن على الانصراف منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحلّ لها كان حراما عليها أن تعطى على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها لله، وتلك هي المختلعة إن خولعت على ذلك الوجه التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها منافقة. كما:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثني المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيّمَا امرأةٍ سألَتْ زوْجَها الطّلاقَ مِنْ غيرِ بأْسٍ حِرّمَ اللّهُ عَلَيْها رَائحَةَ الجَنّةِ». وقال: «المُخْتَلِعاتُ هُنّ المُنافِقاتُ».
فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح، وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة، ومنه ما يكون عليهما، ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح. قيل في الوجه: الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها لا جناح عليهما فيما افتدت به من الوجه الذي أبيح لهما، وذلك أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه.
وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين: أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في سورة الرحمن: "يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجان" وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله: "فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوَتهُما" وإنما الناسي صاحب موسى وحده قال: ومثله في الكلام أن تقول: عندي دابتان أركبهما وأسقي عليهما وإنما تركب إحداهما وتسقي على الأخرى، وهذا من سعة العربية التي يحتجّ بسعتها في الكلام.
قال: والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تُعطي ما قد نُفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت إلى مثل ذلك.
فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتجّ به قوله: "يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ". فأما قوله: "فَلا جُناحَ عَلَيْهِما" فقد بينا وجه صوابه.
وإنما خطّأنا قوله ذلك لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين، فلو جاز لقائل أن يقول: إنما أريد به الخبر عن أحدهما فيما لم يكن مستحيلاً أن يكون عنهما جاز في كل خبر كان عن اثنين غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما أن يقال: إنما هو خبر عن أحدهما، وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ" أمعنيّ به: أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه؟ فقال بعضهم: عنى بذلك فلا جناح عليهما فيما افتدت به من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها، وأن معنى الكلام: "وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ" مما آتيتموهن.
قالوا: فالذي أحله الله لهما من ذلك عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه أن تردّ ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائز إحالة ظاهر عام إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها قالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها. وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: "وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيئَا". وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله على سبيل ما قدمنا البيان عنه، فلا حرج عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حدّ لا يجاوَز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به غير أني أختار للرجل استحبابا لا تحتيما إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصيةٍ لله، بل خوفا منها على دينها أن يفارقها بغير فدية ولا جُعْل فإن شحت نفسه بذلك، فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها. فأما من قال أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله: "وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُن قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا" فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإنابة عن خطئه لمعنيين. أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره. والاَخر: أن الآية التي في سورة النساء إنما حرّم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما بمقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، ولا نشوز من المرأة على الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالاً على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا من مالها على فراقها حرام، ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا. وأما الآية التي في سورة البقرة، فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في سورة البقرة ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في سورة النساء، كما الحظر في سورة النساء غير الطلاق والإباحة في سورة البقرة. فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة. وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.
"تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأوُلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ".
يعني تعالى ذكره بذلك: تلك معالم فصوله، بين ما أحلّ لكم، وما حرّم عليكم أيها الناس، فلا تعتدوا ما أحلّ لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال، إلى ما حرّم عليكم، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: "تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها" هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات التي مضت من نكاح المشركات الوثنيات، وإنكاح المشركين المسلمات، وإتيان النساء في المحيض، وما قد بين في الآيات الماضية قبل قوله: "تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ" مما أحلّ لعباده وحرّم عليهم، وما أمر ونهى. ثم قال لهم تعالى ذكره: هذه الأشياء التي بينت لكم حلالها من حرامها حدودي، يعني به: معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي فلا تعتدوها يقول: فلا تتجاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرّمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، فإن من تعدّى ذلك يعني من تخطاه وتجاوزه إلى ما حرّمت عليه أو نهيته، فإنه هو الظالم، وهو الذي فعل ما ليس له فعله، ووضع الشيء في غير موضعه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}: إمَّا صحبة جميلة أو فُرْقة جميلة. فأمَّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مَرْضِيٍ في الطريقة، ولا محمود في الشريعة.
{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}. فإِن في الخبر "العائد في هبته كالعائد في قَيْئِه "والرجوع فيما خرجتَ عنه خِسَّة.
{إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. يعني إنْ أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال، فإنَّ النفس تساوي لصاحبها كل شيء، والرجال إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئاً فلا أقلَّ من ذلك، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شيء من المال.
: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. هذه آداب يُعَلِّمكمها الله ويَسُنُّها لكم، فحافظوا على حدوده، وداوموا على معرفة حقوقه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الطلاق} بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير، كقوله: {ثم ارجع البصر كرّتين} [الملك: 4] أي كرّة بعد كرّة، لا كرّتين اثنتين. ونحو ذلك من التثاني التي يراد بها التكرير قولهم: لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك ودواليك.
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم.
وقيل: معناه الطلاق الرجعي مرّتان، لأنه لا رجعة بعد الثلاث، فإمساك بمعروف أي برجعة، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها...
فإن قلت: لمن الخطاب في قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ}؟ إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن؟ قلت: يجوز الأمران جميعاً: أن يكون أوّل الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {تلك حدود الله} الآية، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فلا تتجاوزوها، ثم توعد -تعالى- على تجاوز الحد ووصف المتعدي بالظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم:» الظلم ظلمات يوم القيامة «.
أما قوله تعالى: {تلك حدود الله} فالمعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع {فلا تعتدوها} أي فلا تتجاوزوا عنها.
ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد، فقال: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} وفيه وجوه:
أحدها: أنه تعالى ذكره في سائر الآيات {ألا لعنة الله على الظالمين} فذكر الظلم ههنا تنبيها على حصول اللعن.
وثانيها: أن الظالم اسم ذم وتحقير، فوقوع هذا الاسم يكون جاريا مجرى الوعيد،
وثالثها: أنه أطلق لفظ الظلم تنبيها على أنه ظلم من الإنسان على نفسه، حيث أقدم على المعصية، وظلم أيضا للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها، أو كتمت شيئا مما خلق في رحمها، أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئا لا بسبب نشوز من جهة المرأة، ففي كل هذه المواضع يكون ظالما للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالما لنفسه، وظالما لغيره، وفيه أعظم التهديدات.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما تضمنت الآية قبلها الطلاق الرجعي، وكانوا يطلقون ويراجعون من غير حد ولا عدّ، بيَّن في هذه الآية، أنه: مرتان، فحصر الطلاق الرجعي في أنه مرتان، أي يملك المراجعة إذا طلقها، ثم يملكها إذا طلق، ثم إذا طلق ثالثة لا يملكها.
وما زال يختلج في خاطري انه لو قال: أنتِ طالق مرتين أو ثلاثاً، أنه لا يقع إلاَّ واحدة، لأنه مصدر للطلاق، ويقتضي العدد، فلا بد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجوداً، كما تقول: ضربت ضربتين، أو ثلاث ضربات، لأن المصدر هو مبين لعدد الفعل، فمتى لم يتكرر وجوداً استحال أن يكرر مصدره وان يبين رتب العدد، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فهذه لفظ واحد، ومدلوله واحد، والواحد يستحيل أن يكون ثلاثاً أو اثنين، ونظير هذا أن ينشئ الإنسان بيعاً بينه وبين رجل في شيء ثم يقول عند التخاطب: بعتك هذا ثلاثاً، فقوله ثلاثاً لغو وغير مطابق لما قبله، والإنشاءات أيضاً يستحيل التكرار فيها حتى يصير المجمل قابلاً لذلك الإنشاء، وهذا يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال: طلقتك مرتين أو ثلاثاً، أنه يقع الطلاق مرتين أو ثلاثاً على ما نذكره.
{تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} إشارة إلى الآيات التي تقدمت من قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} إلى هنا، وإبراز الحدود بالاسم الظاهر، لا بالضمير، دليل على التعظيم لحدود الله تعالى: وفي تكرار الإضافة تخصيص لها وتشريف، ويحسن التكرار بالظاهر كون ذلك في جمل مختلفة.
{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} لما نهى عن اعتداء الحدود، وهو تجاوزها، وكان ذلك خطاباً لمن سبق له الخطاب قبل ذلك، أتى بهذه الجملة الشرطية العامّة الشاملة لكل فرد فرد ممن يتعدّى الحدود، وحكم عليهم أنهم الظالمون، والظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فشمل بذلك المخاطبين.
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإن قلت: هلا قيل: فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف، وهذا السؤال مذكور في حسن الائتلاف؟ قال: وعادتهم يجيبون بأن المعروف أخفّ من الإحسان لأن المعروف حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية والإحسان ألاّ يظلمها شيئا من حقها، فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن العشرة، فجعل المعروف مع الإمساك المقتضي لدوام العصمة إذ لا يضر تكرّره، وجعل الإحسان المشق على النفوس مع التسريح الذي لا يتكرر بل هو مرة أو مرتان أو ثلاث فقط.
قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً...} إن أريد تأكيد التحريم يقال: لا يحل كذا، وإن أريد مطلق التحريم يقال: لا تفعل كذا، لاحتماله الكراهة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر الرجعة ولم يبين لها غاية تنتهي بها فكانت الآية كالمجمل عرض سؤال: هل هي ممتدة كما كانوا يفعلون في الجاهلية متى راجعها في العدة له أن يطلقها ما دام يفعل ذلك ولو ألف مرة أو منقطعة؟ فقال: {الطلاق} أي المحدث عنه وهو الذي تملك فيه الرجعة.
قال الحرالي: لما كان الطلاق لما يتهيأ رده قصره الحق تعالى على المرتين اللتين يمكن فيهما تلافي النكاح بالرجعة... وقال تعالى: {مرتان} دون طلقتان تنبيهاً -على أنه ينبغي أن تكون مرة بعد مرة كل طلقة في مرة لا أن يجمعهما في مرة.
ولما كان له بعد الثانية في العدة حالان إعمال وإهمال وكان الإعمال إما بالرجعة وإما بالطلاق بدأ بالإعمال لأنه الأولى بالبيان لأنه أقرب إلى أن يؤذي به وأخر الإهمال إلى أن تنقضي العدة لأنه مع فهمه من آية الأقراء سيصرح به في قوله في الآية الآتية {أو سرحوهن بمعروف} [البقرة: 231] فقال معقباً بالفاء
{فإمساك} أي إن راجعها في عدة الثانية. قال الحرالي: هو من المسك وهو إحاطة تحبس الشيء، ومنه المسك- بالفتح -للجلد
{بمعروف} قال الحرالي فصرفهم بذلك عن ضرار الجاهلية الذي كانوا عليه بتكرير الطلاق إلى غير حد فجعل له حداً يقطع قصد الضرار...
{أو تسريح} أي إن طلقها الثالثة، ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة لما كان عليه حال أهل الجاهلية. قال الحرالي: سمى الثالثة تسريحاً لأنه إرسال لغير معنى الأخذ كتسريح الشيء الذي لا يراد إرجاعه. وقال أيضاً: هو إطلاق الشيء على وجه لا يتهيأ للعود، فمن أرسل البازي مثلاً ليسترده فهو مطلق، ومن أرسله لا ليسترجعه فهو مسرح... ويجوز أن يراد بالتسريح عدم المراجعة من الثانية لا أنه طلقة ثالثة.
ولما كان مقصود النكاح حسن الصحبة وكانت من الرجل الإمتاع بالنفس والمال وكان الطلاق منعاً للإمتاع بالنفس قال: {بإحسان} تعريضاً بالجبر بالمال لئلا يجتمع منعان: منع النفس وذات اليد- أفاده الحرالي وقال: ففيه بوجه ما تعريض بما صرحت به آية المتعة الآتية... ومن ذلك بذل الصداق كاملاً وأن لا يشاححها في شيء لها فيه حق مع طيب المقال وكرم الفعال.
ولما كان سبحانه وتعالى قد خيره بين شيئين: الرجعة والتسريح الموصوفين وكانت الرجعة أقرب إلى الخير بدأ بها ولكنها لما كانت قد تكون لأجل الافتداء بما أعطيته المرأة وكان أخذه أو شيئاً منه مشاركاً للسراح في أنه يقطع عليه ما كان له من ملك الرجعة ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة كما كان عليه حال أهل الجاهلية وكان الافتداء قد يكون في الأولى لم يفرعها بالقابل قال مشيراً إلى أن من إحسان التسريح سماح الزوج بما أعطاها عاطفاً على ما تقديره: فلا يحل لكم مضارتهن: {ولا يحل لكم} أي أيها المطلقون أو المتوسطون من الحكام وغيرهم لأنهم لما كانوا آمرين عدوا آخذين {أن تأخذوا} إحساناً في السراح.
{مما آتيتموهن} من صداق وغيره {شيئاً} أي بدون مخالفة.
قال الحرالي: لأن إيتاء الرجل للمرأة إيتاء نحلة لإظهار مزية الدرجة لا في مقابلة الانتفاع فلذلك أمضاه ولم يرجع منه شيئاً ولذلك لزم في النكاح الصداق لتظهر مزية الرجل بذات اليد كما ظهرت في ذات النفس...
ولما كان إسناد الخوف إلى ضمير الجمع ربما ألبس قال: {إلا أن يخافا} نصاً على المراد بالإسناد إلى الزوجين، وعبر عن الظن بالخوف تحذيراً من عذاب الله، وعبر في هذا الاستثناء إن قلنا إنه منقطع بأداة المتصل تنفيراً من الأخذ ومعنى البناء للمفعول في قراءة حمزة وأبي جعفر ويعقوب إلا أن يحصل لهما أمر من حظ أو شهوة يضطرهما إلى الخوف من التقصير في الحدود، ولا مفهوم للتقييد بالخوف لأنه لا يتصور من عاقل أن يفتدي بمال من غير أمر محوج ومتى حصل المحوج كان الخوف ومتى خاف أحدهما خافا لأنه متى خالفه الآخر حصل التشاجر المثير للحظوظ المقتضية للإقدام على ما لا يسوغ والله سبحانه وتعالى أعلم.
{ألا يقيما} أي في الاجتماع {حدود الله} العظيم فيفعل كل منهما ما وجب عليه من الحق. قال الحرالي: وفي إشعاره أن الفداء في حكم الكتاب مما أخذت الزوجة من زوجها لا من غير ذلك من مالها، والحدود جمع حد وهو النهاية في المتصرف المانع من الزيادة عليه...
ثم زاد الأمر بياناً لأنه في مقام التحديد فقال مسنداً إلى ضمير الجمع حثاً على التحقق ليحل الفداء حلاً نافياً لجميع الحرج: {فإن خفتم} أي أيها المتوسطون بينهما من الحكام وغيرهم من الأئمة بما ترون منهما وما يخبرانكم به عن أنفسهما {ألا يقيما حدود الله} وتكرير الاسم الأعظم يدل على رفعة زائدة لهذا المقام، وتعظيم كبير لهذه الأحكام، وحث عظيم على التقيد في هذه الرسوم بالمراعاة والالتزام، وذلك لأن كل إنسان مجبول على تقديم نفسه على غيره، والشرع كله مبني على العدل الذي هو الإنصاف ومحبة المرء لغيره ما يحب لنفسه {فلا جناح} أي ميل بإثم {عليهما} وسوغ ذلك أن الظن شبهة فإنك لا تخاف ما لا تظنه.
{فيما افتدت به} أي لا على الزوج بالأخذ ولا عليها بالإعطاء سواء [أكان] ذلك مما آتاها [أم] من غيره أكثر منه أو لا لأن الخلع عقد معاوضة فكما جاز لها أن تمتنع من أول العقد حتى ترضى ولو بأكثر من مهر المثل فكذا في الخلع يجوز له أن لا يرضى إلا بما في نفسه كائناً ما كان ويكون ذلك عما كان يملكه عليها من الرجعة، فإذا أخذه بانت المرأة فصارت أحق بنفسها فلا سبيل عليها إلا بإذنها.
ولما كانت أحكام النساء تارة بالمرافقة وتارة بالمفارقة وكانت مبنية على الشهوات تارة على البهيمية وتارة على السبعية وكان سبحانه وتعالى قد حد فيها حدوداً تكون بها المصالح وتزول المفاسد منع سبحانه وتعالى من تعدى تلك الحدود أي الأحكام التي بينها في ذلك ولم يذكر قربانها كما مضى في آية الصوم فقال: {تلك} أي الأحكام العظيمة التي تولى الله بيانها من أحكام الطلاق والرجعة والخلع وغيرها {حدود الله} أي شرائع الملك الأعظم الذي له جميع العزة من الأوامر والنواهي التي بينها فصارت كالحدود المعروفة في الأراضي.
ولما كانت شرائع الله ملائمة للفطرة الأولى السليمة عن نوازع النقائص وجواذب الرذائل أشار إلى ذلك سبحانه بصيغة الافتعال في قوله: {فلا تعتدوها} أي لا تتكلفوا مجاوزتها، وفيه أيضاً إشارة إلى العفو عن المجاوزة من غير تعمد.
ولما أكد الأمر تارة بالبيان وتارة بالنهي زاد في التأكيد بالتهديد فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن تعدى شيئاً منها فقد ظلم: {ومن يتعد} أي يتجاوز {حدود الله} أي المحيط بصفات الكمال التي بينها وأكد أمرها وزاد تعظيمها بتكرير اسمه الأعظم. قال الحرالي: ففيه ترجية فيما يقع من تعدي الحدود من دون ذلك من حدود أهل العلم ووجوه السنن وفي إعلامه إيذان بأن وقوع الحساب يوم الجزاء على حدود القرآن التي لا مندوحة لأحد بوجه من وجوه السعة في مخالفتها ولذلك تتحقق التقوى والولاية مع الأخذ بمختلفات السنن ومختلفات أقوال العلماء... وإليه يرشد الحصر في قوله: {فأولئك} أي المستحقون للابعاد {هم الظالمون *} أي العريقون في الظلم بوضع الأشياء في غير مواضعها فكأنهم يمشون في الظلام.
قال الحرالي: وفي إشعاره تصنيف الحدود ثلاثة أصناف: حد الله سبحانه وتعالى، وحد النبي صلى الله عليه وسلم، وحد العالم؛ قال صلى الله عليه وسلم:"ما جاء من الله فهو الحق، وما جاء مني فهو السنة، وما جاء من أصحابي فهو السعة" فأبرأ العباد من الظلم من حافظ على أن لا يخرج عن حدود العلماء ليكون أبعد أن يخرج من حدود السنة ليكون أبعد أن يخرج من حدود الكتاب، فالظالم المنتهي ظلمه الخارج عن الحدود الثلاثة: حد العالم، وحد السنة، وحد الله...
ولما بين قسمي الطلاق البائن -وكان نظر الطلاق إلى العدد أشد من نظره إلى العوض قدم قسمه في قوله {أو تسريح بإحسان} ثم فرع عليه فقال موحداً لئلا يفهم الحكم على الجمع أن الجمع قيد في الحكم وأفهم التكرير للجمع شدة الذم لما كانوا يفعلون في الجاهلية من غير هذه الأحكام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجا أخيرا لعلة لا يجدي فيها سواه. فإذا وقعت الطلقتان: فإما إمساك للزوجة بالمعروف، واستئناف حياة رضية رخية؛ وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء. وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد.. وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية؛ ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه. ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال! ولا يحل للرجل أن يسترد شيئا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها. ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية؛ وتحس أن كراهيتها له، أو نفورها منه، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة، أو العفة، أو الأدب. فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه؛ وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه؛ برد الصداق الذي أمهرها إياه، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدي حدوده، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال. وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس؛ ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها؛ ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها؛ وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه.
ولما كان مرد الجد أو العبث، والصدق أو الاحتيال، في هذه الأحوال.. هو تقوى الله، وخوف عقابه. جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله: {تلك حدود الله فلا تعتدوها. ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}..
ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد، حسب اختلاف الملابستين: في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم. ورد تعقيب: {تلك حدود الله فلا تقربوها}.. وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب: {تلك حدود الله فلا تعتدوها}.. في الأولى تحذير من القرب. وفي الثانية تحذير من الاعتداء.. فلماذا كان الاختلاف؟ في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة: والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية. فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها، اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها! أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات. فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف؛ وتجاوزها وعدم الوقوف عندها. فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة. بسبب اختلاف المناسبة.. وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف لذكر غاية الطلاق الذي يملكه الزوج من امرأته، نشأ عن قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة: 228] وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228] فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقاً كحق الرجال، وجعل للرجال درجة زائدة: منها أن لهم حق الطلاق، ولهم حق الرجعة لقوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228] ولما كان أمر العرب في الجاهلية جارياً على عدم تحديد نهاية الطلاق... ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعاً لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه. وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم، المرغب فيه في نظر الشرع. والإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة. والتسريح ضد الإمساك في معنييه الحقيقي والمجازي، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين.
وجيء بقوله: {شيئاً} لأنه من النكرات المتوغلة في الإبهام، تحذيراً من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالاً أو نحوه، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في « دلائل الإعجاز»...
[و] جملة {تلك حدود الله فلا تعتدوها} معترضة بين جملة {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً} وما اتصل بها، وبين الجملة المفرعة عليها وهي {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} الآية. ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود الله، وكانت حدود الله مبينة في الكتاب والسنة، فجيء بهذه الجملة المعترضة تبْيِيناً؛ لأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود الله. وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس، لأن الأحكام الشرعية، تفصل بين الحلال والحرام، والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام، وما هم عليه بعده. والإقامة في الحقيقة الإظهار والإيجاد، يقال: أقام حداً لأرضه، وهي هنا استعارة للعمل بالشرع تبعاً لاستعارة الحدود للأحكام الشرعية، وكذلك إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع، هو استعارة تابعة لتشبيه الحكم بالحد.
وجملة: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} تذييل وأفادت جملة {فأولئك هم الظالمون} حصراً وهو حصر حقيقي، إذ ما من ظالم إلا وهو متعد لحدود الله، فظهر حصر حال المتعدي حدود الله في أنه ظالم.
واسم الإشارة من قوله: {فأولئك هم الظالمون} مقصود منه تمييز المشار إليه، أكمل تمييز، وهو من يتعدى حدود الله، اهتماماً بإيقاع وصف الظالمين عليهم.
وأطلق فعل {يتعد} على معنى يخالف حكم الله ترشيحاً لاستعارة الحدود لأحكام الله، وهو مع كونه ترشيحاً مستعار لمخالفة أحكام الله؛ لأن مخالفة الأمر والنهي تشبه مجاوزة الحد في الاعتداء على صاحب الشيء المحدود. وفي الحديث: « ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه».
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و لاشك أن لفظ التسريح بإحسان يتضمن مع ما يشتمل من معنى التفريق والإرسال، معنى الرفق في التفريق، فلا يفرق بعنف،و جرح للنفوس، وخدش للمروءة، ولمكارم الأخلاق، بل يفرق في رفق وعطف، من غير حرمان، بل بإعطاء من غير منع، كما قال تعالى في هذا المقام:"و لا تنسوا الفضل بينكم" (البقرة 237) فالإحسان في هذا المقام، بمعنى الرفق والعطف والتسامح المادي والمعنوي، فهو من أحسن إليه، بمعنى أسدى إليه خيرا، أو أدى معروفا، أو أعطى إعطاء. فكأن هذه الجملة السامية تشير إلى ما ينبغي أن يكون في فترة الروية والتفكير، وهي الأجل المفروض الذي تتربصه المرأة بعد طلاقها، بأن يفكر في ماضي أمره، ويقدر عاقبة حاله إن أمضى الطلاق، فإن رأى أن الحسنى في الإبقاء أبقاها على نية الإصلاح من شأنه، والتقويم من معوجه، والأخذ بالرفق، وإن رأى أن الخير في التفريق فرق غير مجاف ولا مشاق ولا مضار، كما قال تعالى: {و سرحوهن سراحا جميلا} (الأحزاب 49). و على هذا يكون الإمساك بمعروف والتسريح بالإحسان موضعه في هذا المقام هو في وقت النظر والتروية، وإن كان الإمساك بالمعروف مطلوبا دائما. و إن أخذ شيء حرام بلا ريب عند الفرقة، وإن الحرمة سببها ألا يجمع على المرأة أمرين كلاهما مؤذ لها، أو لها الفراق الذي لا تريده، وثانيهما استرداد ما وهب. وقد يقول قائل: إذا طابت نفسها بذلك فلماذا لا يأخذ؟ فنقول إذا كان طيب نفسها من غير نشوز منها، والبغض منه هو الذي رغب في الطلاق وأراده، فإن ذلك مكارم أخلاق منها، وفساد نفس منه، ومثل ذلك لا يكون حلالا، وليس من ذلك قوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} (النساء 4) لأن هذه الآية موضوعها حال قيام الزوجية، كما أنه ليس من قوله تعالى: {و أن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة 237) لأن تلك الآية موضوعها الطلاق قبل الدخول الذي يسقط نصف المهر، فإنهما لم تقم بينهما عشرة زوجية، فسوغ العفو منها إذا لم تكن قد قبضت شيئا، أو قبضت دون نصف المهر، وسوغ العفو منه إن كانت قد قبضت أكثر من النصف، ولذلك لم يكن في ذلك أخذ لما أعطى عند عفوها، بل إسقاط لما يجب، وعساه أن يكون في عسرة، وعسى أن يكون ذلك سبب الفراق ولم يكن منه أخذ، ولكن كان منها إسقاط، فلا ظلم ولا بهتان.
و أخيرا إن قوله تعالى عن إعطاء المال بأنها تفتدي نفسها، أي تخلص نفسها بفداء تقدمه، دليل على أن خوف عدم القيام بحدود الله هو من جانبها، أو على الأقل هو من جانبها أظهر. {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} الجناح معناه الإثم، من جنح بمعنى مال. والافتداء معناه تخليص النفس بمال يبذل لتخليصها، ودفع الأذى عنها، وأصله من الفدى والفداء بمعنى حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذله.
{تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}. وإضافتها إليه سبحانه وهو العليم الخبير البصير إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتطرق الريب إليها، وأن من يخالفها يعاند الله ويحاربه، ويتجنب الصالح، ويتبع الطالح، ويترك النافع إلى ما فيه الضرر في الدنيا والآخرة.
و إذا كانت تلك الأحكام حدودا فلا يصح تجاوزها وتركها، وإلا كان معتديا على حرمات الله، متهجما على شرع الله، ولذا قال سبحانه: {فلا تعتدوها} فالفاء هي فاء السببية التي تبين أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أنه إذا كانت تلك الأحكام حدود الله {فلا تعتدوها} فلا تتجاوزوها إلى الشقة الحرام، وإلا كان الردى وسوء العقبى وفساد المال، لأن تلك الحدود عدل الله القائم إلى يوم القيامة، وهي عدله في الأسرة التي هي عماد المجتمع، وبها قام بنيانه، فإذا قامت على الظلم انهار المجتمع من دعائمه.
و لقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقضية عامة هي في عنق التاركين لأحكام الله إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {و من يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} من يترك أحكام الله سبحانه وتعالى التي شرعها في قرآنه، وبينها على لسان نبيه الكريم، فإنه بسبب تركه لها ظالم لنفسه، وظالم لجماعته، وظالم في الحكم بين الناس. و قد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم على من يترك شرع الله بالظلم، فقد ربط بفاء السببية بين التعدي لحدود الله والحكم بالظلم، وتكرار الربط بالسببية للتوكيد، وعبر بالإشارة مع وجود ما يغني عنها لتأكيد معنى السببية، أي أن السبب في ظلمهم تحملهم لتلك المخالفة والمعاندة لحدود الله ولله، وأردف ذلك بقوله "هم "وهو للتأكيد، ثم عبر بالجملة الاسمية للإشارة إلى أن الظلم شأن من شئونهم ووصف ملازم لهم ما داموا تاركين لحدوده، ثم كان القصر، أي قصر الظلم عليهم، وهو قصر حقيقي.
ولماذا كان ذلك التأكيد الشديد؟ كان لسببين:
أولهما: أن الإنسان مغرور دائما، ومحكوم نفسيا بأمور زمنية، تسيطر عليه الأحوال التي تلابسه، وقد يكون فيها الظلم والضرر، ويتوهمهما العدل والمصلحة،و يتوهم أن لا مصلحة في شرع الله ويحاول إخضاع حدود الله لزمانه، أو يتركها، كشأن الناس في الربا والطلاق وتعدد الزوجات والحدود وغير ذلك، فبين الله سبحانه وتعالى أنهم ظالمون لأنفسهم إن تركوا شرع الله إلى أهوائهم، بل يجب أن تكون أهواؤهم خاضعة لحكم الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
ثانيهما: المقام الذي سيق فيه ذلك النص الكريم، وهو ما يتعلق بالأسرة، فإن الظلم فيها أقبح الظلم.
{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}. فمادام قد قال: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وقال: {الطلاق مرتان} أي أن لكل فعل زمناً، فذلك يتناسب مع حلقات التأديب والتهذيب، وإلا فالطلاق الثلاث بكلمة واحدة في زمن واحد، يكون عملية قسرية واحدة، وليس فيها تأديب أو إصلاح أو تهذيب، وفي هذه المسألة يقول الحق: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً} لأن المفروض في الزوج أن يدفع المهر نظير استمتاعه بالبضع، فإذا ما حدث الطلاق لا يحل للمطلّق أن يأخذ من مهره شيئاً، لكن الحق استثنى في المسألة فقال: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}. فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للمرأة مخرجاً إن أريد بها الضرر وهي لا تقبل هذا الضرر. فيأتي الحق ويشرع: ومادام قد خافا ألا يقيما حدود الله، فقد أذن لها أن افتدى نفسك أيتها المرأة بشيء من مال، ويكره أن يزيد على المهر إلا إذا كان ذلك ناشئا عن نشوز منها ومخالفة للزوج فلا كراهة إذن في الزيادة على المهر. ويسمى هذا الأمر بالخلع، أي أن تخلع المرأة نفسها من زوجها الذي تخاف ألا تؤدي له حقاً من حقوق الزوجية، إنها تخلع نفسها منه بمال حتى لا يصيبه ضرر، فقد يريد أن يتزوج بأخرى وهو محتاج إلى ما قدم من مهر لمن تريد أن تخلع نفسها منه.
ويتابع الحق سبحانه: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا} وهذا الشيء هو الذي قال عنه الله في مكان آخر: {وآتيتم إحداهن قنطاراً 20} (سورة النساء). {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}. وحدود الله هي ما شرعه الله لعباده حداً مانعاً بين الحل والحرمة. وحدود الله إما أن ترد بعد المناهي، وإما أن ترد بعد الأوامر، فإن وردت بعد الأوامر فإنه يقول: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} أي آخر غايتكم هنا، ولا تتعدوا الحد، ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول: (تلك حدود الله فلا تقربوها)، لأن الحق يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس، فتلح عليها أن تفعل، فإن كنت بعيداً عنها فالأفضل أن تظل بعيداً.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
حركة التشريع كانت تنطلق من حاجة الواقع إلى معالجة المشاكل المتحرّكة فيه؛ فيأتي الحكم الشرعي في صعيد الحاجات الإنسانية الصعبة التي يتطلّع المسلمون إلى حلها، ليكون تأثيره أكثر عمقاً مما لو كان منطلقاً من تشريع ابتدائي. وهذا ما يوحي بأنَّ الإسلام كان واقعياً في تشريعه للإنسان، من خلال نظرته إلى واقع حياته، بحيث يجد الإنسان سرّ الحكم الشرعي في معاناته للواقع [المعيش] في حياته الخاصة والعامة.
وفي هذا التعبير إيحاء بطبيعة الموقف الذي ينبغي له أن يتخذه في كلتا الحالتين، فلا يبتعد عن الجوّ الحميم الذي تقتضيه العلاقة، ولا يتنكر للكرامة التي تطلبها المرأة... فإذا كان هناك رجوع وعودة وإمساك، فينبغي أن يكون بالمعروف في الروحية والدوافع والأسلوب. وإذا كان هناك انفصال وتسريح، فلا بُدَّ من أن يكون بالإحسان في الكلمة والمعاملة والجوّ اللطيف، حتّى يتمثّل كلّ منهما في نفسه روحيّة الخُلُق الإسلامي الذي يحبّ اللّه للنّاس أن يتّصفوا به.
{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} فليس للرّجل أن يستغل قوّته، فيغتصب من المرأة حقوقها الشرعية من مهر ونحوه. وهذا دليل على احترام الإسلام لملكية المرأة للمال الذي تملكه، باعتبار أنها شخصية قانونية شرعية مستقلة. فلها الحرية في التصرّف بمالها كما تشاء، وليس للآخرين أن يأخذوه منها في أية حالةٍ، حتى زوجها الذي بذل لها المهر في عقد الزواج، فإنها قد ملكته بذلك وأصبح ملكاً لها كبقية أموالها؛ فليس له استرجاعه منها بعد الطلاق. وليس له أن يأخذ منها أي شيء عوضاً عن الطلاق بوسيلة غير مشروعة،
{إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّه} فتشعر المرأة بأن لا مجال للعيش مع زوجها على أساس الالتزام بالحكم الشرعي، ويشعر الرّجل بالشعور نفسه بالنظر إلى كراهيتها ونفورها منه. فيمكن لهما في هذه الحال أن يتفقا على أن تتنازل له عن مهرها أو عن شيء آخر، كتعويض له عمّا يفقده من هذه العلاقة الزوجية، ما يدخل في حساب الخسائر المادية والمعنوية؛ وذلك في سبيل أن يطلقها طلاقاً بائناً، لا مجال له معه في الرجوع؛ بل يكون لها الأمر في ذلك.
فإن رجعت في ما بذلته في أثناء العدّة، كان لها ذلك وثبت لها الحقّ في إرجاع ما بذلته، وكان له في مقابل ذلك أن يرجع بالطلاق. وإن بقيت على البذل ثبت الطلاق واستمر من دون أي مبرر شرعي للرجوع. وهذا ما يسميه الفقهاء «بالطلاق الخلعي»، للتعبير عنه بصيغة الخلع في مقام الإنشاء الإيقاعي. وفي هذه الحال، يجوز للرّجل أن يأخذ ما بذلته له من دون حرج، لأنه منطلق من موقع الاتفاق على ذلك... وهذا ما عبّر عنه اللّه سبحانه في قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ويلاحظ في هذا التعبير «الافتداء» معنى التعويض عن حريتها التي قيدها الزواج. وإنما نسب نفي الجناح إليهما، مع أنَّ الإباحة للزوج، لأنه هو الذي يأخذ المال، باعتبار قيام الأمر بالزوجة من جهة، لأنَّ لها التخلص منه بدفع الفدية، وبالزوج لأنَّ له الأخذ للمال.
ثُمَّ يؤكد القرآن على اعتبار هذا التشريع حداً من حدود اللّه التي ينبغي للمؤمن أن يقف عندها ولا يتعداها، لأنَّ ذلك هو معنى الالتزام بخطّ الإيمان، فيقف حيث يريد اللّه منه أن يقف، ويتحرّك حيث يريد اللّه منه أن يتحرّك. {تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم في ما يتعلّق بحياتهم الخاصة، ولغيرهم في ما يتصل بحياة الآخرين... وقد جعل اللّه للظلم عقابه الذي ينال الظالمين وغيرهم في يوم القيامة. وعلى ضوء هذا، يمكن للزوج أن يرجع في طلاقه الأول، فتعود العلاقة الزوجية كما كانت. فإذا طلقها للمرة الثانية أمكنه الرجوع في طلاقه الثاني، وتعود العلاقة من جديد
{فَإِن طَلَّقَهَا} للمرة الثالثة، {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} بأية وسيلة من رجوع أو عقد جديد؛ فقد حرمت عليه بالطلاق الثالث،
فلا مجال للعودة إليه {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}؛ وذلك بالعقد والدخول معاً، لما ورد في الحديث المأثور الذي يقول: «حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها» وهو كناية عن الالتذاذ بالجماع وعدم الاكتفاء بالعقد.
{فَإِن طَلَّقَهَا} من جديد، أمكنه أن يرجع إليها تماماً كما هو الحال في الطلاق الأول. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّه}، ولعلّ في هذا التقييد إشارة بأنَّ المؤمنين لا يحاولون إعادة التجربة على أساس مزاج شخصي أو شهوةٍ طارئة، بل ينطلقون في ذلك كلّه من موقع الدراسة الواعية للموقف، والاستفادة من تلك التجارب السابقة الفاشلة، والشعور بضرورة عدم تكرارها إلاَّ إذا أيقنا بإمكانية النجاح في ذلك؛ ما يجعل الظنّ غالباً في إقامتهما لحدود اللّه من جديد، لأنَّ اليقين بذلك لا يتحقّق في حسابات المستقبل...
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه} في الطلاق والرجوع {يُبَيِّنُهَا} ويوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيتحملون مسؤولية العلم فكراً وعملاً في كلّ ما يريده اللّه منهم وما لا يريده. جاء أنَّ أبا القاسم الفارسي قال: قلت للرضا (ع): جعلت فداك، إنَّ اللّه يقول في كتابه:] فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [؛ ما يعني بذلك؟ قال: أمّا الإمساك بالمعروف فكّف الأذى وإجباء النفقة، وأمّا التسريح بإحسان، فالطلاق على ما نزل به الكتاب. فإنها توحي بأنَّ الأمر دائر بين الأمرين، فلا تجميد للوضع السلبي. فلا بُدَّ من التسريح بإحسان إذا لم يكن هناك إمساك بالمعروف. ولا يضر بذلك اقتصار الحديث على كفّ الأذى وإجباء النفقة، لأنَّ من الممكن أن يكون ذلك على سبيل المثال، لأنَّ هناك حقوقاً أخرى للمرأة على الزوج كما هي النفقة، كالقسم في بعض الآراء أو بعض الحالات والجماع في الحدود الشرعية المعينة. فإنَّ إيحاء هذه الفقرة يدلّ على أنَّ اللّه لا يريد للمرأة في علاقتها بالرّجل في الزواج أن تسقط تحت تأثير تعسفه، وأن تتجمد حياتها في دائرة وحشيته. فليس له أن يمسكها ضراراً من دون فرقٍ بين الإمساك بها في مدى الحياة الزوجية الطبيعية، أو في الرجعة بها بعد طلاق. بل لا بُدَّ له، في حال إصراره على الإساءة أو الإضرار بها، من أن يطلقها أو يسرّحها بإحسان، لا سيما إذا دققنا في الآية الكريمة: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللّه هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، والآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] فإنَّ الآية الأولى ترفض الإمساك للإضرار، لأنَّ ذلك يمثّل لوناً من ألوان العدوان عليها. فلا يمكن اختصاص النهي عن الإضرار بها بصورة الإمساك في حالة العدّة بالرجعة، فلا مانع من الإضرار في الحياة الزوجية في أوضاعها العادية التي لا طلاق فيها. والسؤال الذي يفرض نفسه علينا: هل هي نصيحة من اللّه للأزواج، أو هي برنامج عملي للزواج كطابعٍ عملي له، من خلال ما يريد اللّه للزوجة أن تعيشه مع زوجها في زواجها به؟؟ وهل نتصوّر أنَّ اللّه يريد للمرأة أن تخضع للمعاشرة بغير المعروف، بحيث يكون ذلك ضريبةً مفروضةً عليها من اللّه، فلا فرصة لها في التخلص من ذلك، مهما فعل الزوج ومهما أساء، ما عدا النفقة، تماماً كما لو كان كلّ شيء للمرأة أن تحصل على ما يقيم جسدها ويكسو عورتها في بيت زوجها؟. إنَّ السؤال يفرض نفسه، وإنَّ القرآن يجيب عن ذلك بأنَّ للمرأة الحقّ بأن تعيش مع زوجها بمعروف وسلام، أو أن تفارقه بإحسان وسلام. وفي ضوء ذلك، فإنَّ للمرأة أن تطلب الطلاق من زوجها إذا منعها أيّ حقّ من حقوقها الشرعية في النفقة والمضاجعة بالمبيت معها، والجنس الكامل في وقته. فإذا لم يستجب لذلك، فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي الذي جعل اللّه له الولاية على طلاقها.