{ 106 - 108 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية ، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه . فينبغي له أن يكتب وصيته ، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما .
{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير أهل دينكم ، من اليهود أو النصارى أو غيرهم ، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين .
{ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : سافرتم فيها { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } أي : فأشهدوهما ، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ، ويؤكد عليهما ، بأن يحبسا { مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } التي يعظمونها .
{ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أنهما صدقا ، وما غيرا ولا بدلا ، هذا { إِنِ ارْتَبْتُمْ } في شهادتهما ، فإن صدقتموهما ، فلا حاجة إلى القسم بذلك .
ويقولان : { لَا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا { ثَمَنًا } بأن نكذب فيها ، لأجل عرض من الدنيا . { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } فلا نراعيه لأجل قربه منا { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } بل نؤديها على ما سمعناها { إِنَّا إِذًا } أي : إن كتمناها { لَمِنَ الْآثِمِينَ }
والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة ، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم ، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض ، والبعد عن المجتمع والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله .
( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت - حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم ، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، تحبسونهما من بعد الصلاة ، فيقسمان بالله - إن ارتبتم - لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الآثمين . فإن عثر على أنهما استحقا إثما فالآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم . . الأوليان . . فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين . ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد إيمان بعد أيمانهم ؛ واتقوا الله واسمعوا ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث : أن على من يحس بدنو أجله ، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال ، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر ، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضاربا في الأرض ، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه ، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه ، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله ، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر ، ولو كان ذا قربى ، ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز ، قيل : إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس . وقال{[10507]} حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم : إنها منسوخة . وقال آخرون - وهم الأكثرون ، فيما قاله ابن جرير - : بل هو محكم ؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان .
فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } هذا هو الخبر ؛ لقوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } فقيل تقديره : " شهادة اثنين " ، حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مَقَامه . وقيل : دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان .
وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ } وصف الاثنين ، بأن يكونا عدلين .
وقوله : { مِنْكُمْ } أي : من المسلمين . قاله الجمهور . قال{[10508]} علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : من المسلمين . رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : رُوي عن عُبيدة ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، ومجاهد ، ويحيى بن يَعْمُر ، والسُّدِّي ، وقتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك .
قال ابن جرير : وقال آخرون : عني : ذلك { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : من حَي{[10509]} الموصي . وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما .
وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن عَوْن ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال : من غير المسلمين ، يعني : أهل الكتاب .
ثم قال : وروي عن عبيدة ، وشُرَيْح ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، ويحيى بن يعمر ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وأبي مِجْلزَ ، والسُّديِّ ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك .
وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله : { مِنْكُمْ } أي : المراد من قبيلة الموصي ، يكون المراد هاهنا : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير قبيلة الموصي . وقد روى عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري ، والزهري ، رحمهما الله .
وقوله : { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم ، { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين ، أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما صرح بذلك شريح القاضي .
قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني{[10510]} إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية .
ثم رواه عن أبي كُرَيْب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال : قال شريح ، فذكر مثله .
وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله تعالى . وهذه المسألة من إفراده ، وخالفه الثلاثة فقالوا : لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين . وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا .
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري قال : مضت السنّة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين . {[10511]}
وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام ، والأرض حرب ، والناس كفار ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نُسخت الوصية وفرضت الفرائض ، وعمل الناس بها .
رواه ابن جرير ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : اختلف في قوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } هل المراد به أن يوصي إليهما ، أو يشهدهما ؟ على قولين :
أحدهما : أن يوصي إليهما ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط قال : سئل ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن هذه الآية قال{[10512]} هذا رجل سافر ومعه مال ، فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته ، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين .
رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع .
والقول الثاني : أنهما يكونان شاهدين . وهو ظاهر سياق الآية الكريمة ، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان : الوصاية والشهادة ، كما في قصة تَمِيم الداري ، وعَدِيّ بن بَدَّاء ، كما سيأتي ذكرها آنفًا ، إن شاء الله ، وبه التوفيق .
وقد استشكل ابنُ جرير كونهما شاهدين ، قال : لأنا لا نعلم حُكْمًا يَحْلِفُ فيه الشاهد . وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، وهو حكم مستقل بنفسه ، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام ، على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص ، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره ، فإذا قامت قرائن الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة .
وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } قال [ العوفي ، عن ]{[10513]} ابن عباس : يعني صلاة العصر . وكذا قال سعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وعِكْرِمة ، ومحمد بن سيرين . وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، وقال السدي ، عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما .
والمقصود : أن يقام هذان الشاهدان{[10514]} بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم ، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أي : فيحلفان{[10515]} بالله { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي : إن ظهرت لكم منهما ريبة ، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله { لا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا . قاله مُقاتِل بن حيان { ثَمَنًا } أي : لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أي : ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه ، { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أضافها إلى الله تشريفًا لها ، وتعظيمًا لأمرها .
وقرأ بعضهم : " ولا نكتم شهادة آلله " مجرورًا على القسم . رواها ابن جرير ، عن عامر الشعبي .
وحكي عن بعضهم أنه قرأ : " ولا نَكْتُمُ شهادةً الله " ، والقراءة الأولى هي المشهورة .
{ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } أي : إن فعلنا شيئًا من ذلك ، من تحريف الشهادة ، أو تبديلها ، أو تغييرها{[10516]} أو كتمها بالكلية .
القول في تأويل قوله تعالى : { يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُم مّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنّآ إِذَاً لّمِنَ الاثِمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " يقول : ليشهد بينكم إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ يقول : وقت الوصية ، اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يقول : ذوا رشد وعقل وحِجا من المسلمين . كما :
حدثنا محمد بن بشار ، وعبيد الله بن يوسف الجبيري ، قالا : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : " وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : ذوا عقل .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فقال بعضهم : عني به : من أهل ملتكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : شاهدان ذوا عدل منكم من المسلمين .
حدثنا عمروان بن موسى القزّاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ من المسلمين " .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : اثنان من أهل دينكم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألته ، عن قول الله تعالى : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال : من الملة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بمثله ، إلا أنه قال فيه : من أهل الملة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن هذه الاية : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : من أهل الملة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، فذكر مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن حماد ، عن ابن أبي نجيح ، وقال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : ذوا عدل من أهل الإسلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : من المسلمين .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان سعيد بن المسيب يقول : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ : أي من أهل الإسلام .
وقال آخرون : عني بذلك : ذوا عدل من حيّ الموصي ، وذلك قول رُوِي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما .
واختلفوا في صفة الاثنين اللذين ذكرهما الله في هذه الاَية ما هي ، وما هما ؟ فقال بعضهم : هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي . وقال آخرون : هما وصيان .
وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان ، قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم . وتأويل الذين قالوا : هما وصيان لا شاهدان ، قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريض ، من قولك : شهدت وصية فلان ، بمعنى حضرته .
وأولى التأويلين بقوله : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ تأويل من تأوّله بمعنى : أنهما من أهل الملة دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاية ، لأن الله تعالى عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " فغير جائز أن يُصرف ما عمه الله تعالى إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها . وإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يكون العائد من ذكرهم على العموم ، كما كان ذكرهم ابتداء على العموم .
وأَوْلَى المعنيين بقوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ اليمين ، لا الشهادة التي يقوم بها من عنده شهادة لغيره لمن هي عنده على من هي عليه عند الحكام لأنّا لا نعلم لله تعالى حكما يجب فيه على الشاهد اليمين ، فيكون جائزا صرف الشهادة في هذا الموضع إلى الشهادة التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة . وفي حكم الاية في هذه اليمين على ذوي العدل ، وعلى من قام مقامهم في اليمين بقوله : " تَحْبِسُوَنهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسمِانِ باللّهِ " أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك من أن الشهادة فيه الأيمان دون الشهادة التي يقضي بها للمشهود له على المشهود عليه ، وفساد ما خالفه .
فإن قال قائل : فهل وجدت في حكم الله تعالى يمينا تجب على المدّعي فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة ؟ فإن قلت : لا ، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت ، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله : " فإنْ عُثرَا على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما " هما المدعيين . وإن قلت بلى ، قيل لك : وفي أيّ حكم الله تعالى وجدت ذلك ؟ قيل : وجدنا ذلك في أكثر المعاني ، وذلك في حكم الرجل يدّعي قِبَل رجل مالاً ، فيقرّ به المدّعي عليه قبله ذلك ويدعي قضاءه ، فيكون القول قول ربّ الدين ، والرجل يعترف في يد الرجل السلعة ، فيزعم المعترَفة في يده أنه اشتراها من المدّعي أو أن المدّعي وهبها له ، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه . وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في هذا الموضع اليمين على المدّعيين اللذين عثرا على الجانيين فيما جنيا فيه .
واختلف أهل العربية في الرافع قوله : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " ، وقوله : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ . فقال بعض نحويي البصرة : معنى قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شهادة اثنين ذوي عدل ، ثم ألقيت الشهادة وأقيم الاثنان مقامها ، فارتفعا بما كانت الشهادة به مرتفعة لو جعلت في الكلام . قال : وذلك في حذف ما حذف منه وإقامة ما أقيم مقام المحذوف ، نظير قوله : وَاسأَلِ القَرْيَةَ وإنما يريد : واسأل أهل القرية ، وانتصبت القرية بانتصاب الأهل وقامت مقامه ، ثم عطف قوله : «أو آخران » على «الاثنين » .
وقال بعض نحويي الكوفة : رفع الاثنين بالشهادة : أي ليشهدكم اثنان من المسلمين ، أو آخران من غيركم . وقال آخر منهم : رفعت الشهادة ب «إذا حضر » . وقال : إنما رفعت بذلك لأنه قال : «إذا حضر » ، فجعلها شهادة محذوفة مستأنفة ، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكلّ الخلق ، لأنه قال تعالى ذكره : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " ، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال ، وليست مما ثبت .
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : الشهادة مرفوعة بقوله : إذَا حَضَرَ لأن قوله : إذا حَضَرَ بمعنى : عند حضور أحدكم الموت ، والاثنان مرفوع بالمعنى المتوهم ، وهو أن يشهد اثنان ، فاكتفي من قيل أن يشهد بما قد جري من ذكر الشهادة في قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الشهادة مصدر في هذا الموضع ، والاثنان اسم ، والاسم لا يكون مصدرا ، غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال . فالأمر وإن كان كذلك ، فصرف كل ذلك إلى أصحّ وجوهه ما وجدنا إليه سبيلاً أولى بنا من صرفه إلى أضعفها .
القول في تأويل قوله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت عدلان من المسلمين ، أو آخران من غير المسلمين .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " فقال بعضهم : معناه : أو آخران من غير أهل ملتكم نحو الذي قلنا فيه .
حدثنا حميد بن مسعدة ، وبشر بن معاذ ، قالا : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " من أهل الكتاب .
حدثنا محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث ، عن سعيد بن المسيب : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " : من أهل الكتاب .
حدثني أبو حفص الجبيري عبيد الله بن يوسف ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسليمان التيّمي ، عن سعيد بن المسيب ، أنهما قالا في قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قالا : من غير أهل ملتكم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، قال : ثني من سمع سعيد بن جبير ، يقول ، مثل ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا التيمي ، عن أبي مجلز ، قال : من غير أهل ملتكم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : إن كان قربه أحد من المسلمين أشهدهم ، وإلا أشهد رجلين من المشركين .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا قتيبة ، قال : حدثنا هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، وسعيد بن جبير ، في قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قالا : من غير أهل ملتكم .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من أهل الكتاب .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا محمد بن سواء ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " من المسلمين ، فإن لم تجدوا من المسلمين ، فمن غير المسلمين .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن شريح ، في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُم " قال : إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا ، فشهادتهم جائزة . فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما ، أجيزت شهادة المسلمين ، وأبطلت شهادة الاخَرَيْن .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح : أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية ، ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفر .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع ، قالا : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح ، قال : لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح ، نحوه .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور عن إبراهيم ، قال : كتب هشام بن هبيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين ، فكتب : لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية ، ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشهب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألته عن قول الله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير الملة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بمثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن ذلك فقال : من غير أهل الملة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل الصلاة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل دينكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل الملة .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو حرّة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل ملتكم .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عثمان ، قال : حدثنا هشام بن محمد ، قال : سألت سعيد بن جبير عن قول الله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل ملتكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : من غير أهل ملتكم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل الإسلام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : قال أبو إسحاق : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من اليهود والنصارى . قال : قال شريح : لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصرانيّ إلا في وصية ، ولا تجوز في وصية إلا في سفر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقَا ، ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأحلفهما ، وأمضى شهادتهما .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة الأزرق ، عن الشعبيّ : أن أبا موسى قضى بها بَدقُوقا .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا عثمان بن الهيثم ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد ، أنه كان يقول في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " شاهدان من المسلمين وغير المسلمين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " : من غير أهل الإسلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو حفص ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : من غير أهل الإسلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في هذه الاية : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . " الاية كلها . قال : كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أوّل الإسلام والأرض حرب والناس كفار ، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نُسخت الوصية وفُرضت الفرائض ، وعمل المسلمون بها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو آخران من غير حَيّكم وعشيرتكم .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجَهْم ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : شاهدان من قومكم ومن غير قومكم .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهريّ ، قال : مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " أي من عشيرته " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير عشيرته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ثابت بن زيد ، عن عاصم ، عن عكرمة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل حيكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهديّ ، عن ثابت بن زيد ، عن عاصم ، عن عكرمة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير حيكم .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ثابت بن زيد ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة في قول الله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل حيه يعني من المسلمين .
حدثني الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير عشيرتك ، ومن غير قومك كلهم من المسلمين .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : مسلمين من غير حيكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، قال : سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ . . . إلى قوله : وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ " قلت : أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله من غير أهل المرء الموصي أهما من المسلمين أم هما من أهل الكتاب ؟ وأرأيت الاخرين اللذين يقومان مقامهما ، أتراهما من غير أهل المرء الموصي ؟ أم هما من غير المسلمين ؟ قال ابن شهاب : لم نسمع في هذه الاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أئمة العامة سنة أذكرها ، وقد كنا نتذاكرها أناسا من علمائنا أحيانا ، فلا يذكرون فيها سنة معلومة ولا قضاء من إمام عادل ، ولكنه يختلف فيها رأيهم . وكان أعجبهم فيها رأيا إلينا الذين كانوا يقولون : هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين ، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم ، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضروا من وصية ، فإن سلموا جازت وصيته ، وإن ارتابوا أن يكونوا بدّلوا قول الميت وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء حلف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة وهي صلاة المسلمين ، فيقسمان بالله : إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الاثمين ، فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما ما لم يعثر على أنهما استحقا إثما في شيء من ذلك ، فإن عثر قام آخران مقامهما من أهل الميراث من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوّلان المستحلفان أوّل مرّة ، فيقسمان بالله : لشهادتنا على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم . . . الاية .
وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب تأويل من تأوّله : أو آخران من غير أهل الإسلام وذلك أن الله تعالى عرّف عباده المؤمنين عند الوصية شهادة اثنين من عدول المؤمنين أو اثنين من غير المؤمنين ، ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم أو رجلين من غير عشيرتكم ، وإنما يقال : صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم ، أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين . فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام ، فغير جائز صرف مغلق كلام الله تعالى إلا إلى أحسن وجوهه . وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " إنما هو من أهل دينكم وملتكم بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه . وإذا صحّ ذلك بما دللنا عليه ، فمعلوم أن معنى قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " إنما هو : أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان الاخران اللذان من غير أهل ديننا يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدي وثن أو على أيّ دين كانا ، لأن الله تعالى لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دون ملة بعد ألاّ يكونا من ( غير ) أهل الإسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : " إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية ، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم أيها المؤمنون أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم ، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض . وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر الضارب في الأرض . " فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " يقول : فنزل بكم الموت . ووجه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير وقالوا : معناه : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ، إن وجدا ، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم ، وإنما فعل ذلك من فعله ، لأنه وجه معنى الشهادة في قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيام صاحبها عند الحاكم ، أو يبطلها .
حدثنا عمران بن موسى القزّاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " من المسلمين ، فإن لم تجدوا من المسلمين فمن غير المسلمين .
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : اثنان من أهل دينكم ، أو آخران من غيركم من أهل الكتاب إذا كان ببلاد لا يجد غيرهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن شريح في هذه الاية : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ، فشهادتهم جائزة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : هذا في الحضر ، أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ في السفر ، إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتَمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ هذا في الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، وسعيد بن جبير ، أنهما قالا في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . " الاية ، قال : إذا حضر الرجلَ الوفاة في سفر ، فيشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " فهذا لمن مات وعنده المسلمون ، فأمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين . ثم قال : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، فأمره الله تعالى بشهادة رجلين من غير المسلمين .
ووَجّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير ، وقالوا : إنما عني بالشهادة في هذا الموضع الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما وائتمان الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدّياه إلى ورثته بعد وفاته إن ارتيب بهما . قالوا : وقد يأمن الرجل على ماله من رآه موضعا للأمانة ، من مؤمن وكافر ، في السفر والحضر . وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى ، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد .
القول في تأويل قوله تعالى : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لانَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى " .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم ، أو كان أوصى إليهما ، أو آخران من غيركم ، إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم ، فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال فأصابتكم مصيبة الموت ، فأدّيا إلى ورثتكم ما ائتمنتموها وادّعوا عليهما خيانة خاناها مما ائتمنا عليه ، فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما ، يقول : تستوقفونهما بعد الصلاة . وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف ، وهو : فأصابتكم مصيبة الموت وقد أسندتم وصيتكم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال ، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة . " فَيُقْسِمَانِ بالله إنِ ارْتَبْتُمْ " يقول : يحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما ائتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها ، أو تبديلها . والارتياب : هو الاتهام . " لانَشْتَري به ثَمَنا " يقول : يحلفان بالله لانشتري بأيماننا بالله ثمنا ، يقول : لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه وعلى مال نذهب به أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وإليهم وصيتهم . والهاء في قوله «بِهِ » من ذكر الله ، والمعني به الحلف والقَسَم ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به ، فيعرف من معنى الكلام ، واكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف . " وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى " يقول : يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضا فنكذب فيها لأحد ، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين ، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله : لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلاً .
وقوله : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ " من صلاة الاخرين . ومعنى الكلام : أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم بهما ، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربَى .
واختلفوا في الصلاة التي ذكرها الله تعالى في هذه الاية فقال : تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فقال بعضهم : هي صلاة العصر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعريّ فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأحلفهما بعد العصر باالله : ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته . قال : فأمضى شهادتهما .
حدثنا ابن بشار وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان بعد العصر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بمثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنكُمْ . . . إلى : فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا رجل مات بغربة من الأرض وترك تركته وأوصى بوصيته وشهد على وصيته رجلان ، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر . وكان يقال عندها تصير الأيمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسعيد بن جبير ، أنهما قالا في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " قالا : إذا حضر الرجل الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب ، فإذا قدما بتركته ، فإن صدّقهما الورثة قبل قولهما ، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر : بالله ما كذبنا ، ولا كتمنا ، ولا خُنّا ، ولا غَيّرنا .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن القطان ، قال : حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عامر : أن رجلاً توفي بدقوقا ، فلم يجد من يشهده على وصيته إلاّ رجلين نصرانيين من أهلها ، فأحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة : بالله ما كتما ولا غَيّرا ، وإن هذه الوصية . فأجازها .
وقال آخرون : بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وعليه ، قال : هذا في الحضر : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ في السفر إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه ، فيقبلان به ، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرجلين ، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان ، فذلك قوله : " تَحْبِسُونَهُما منْ بَعْدِ الصّلاةِ . . . إن ارْتَبْتُمْ " . قال عبد الله بن عباس : كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخوّنوهما ، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت له : إنهما لا يباليان صلاة العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما ، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما ، ويحلفان بالله لا نشتري ثمنا قليلاً ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذن لمن الاثمين ، أن صاحبهم لبهذا أوصى ، وإن هذه لتركته . فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ، ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما فإذا قال لهما ذلك ، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها .
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأن الله تعالى عرّف الصلاة في هذا الموضع بإدخال الألف واللام فيها ، ولا تدخلهما العرب إلاّ في معروف ، إما في جنس ، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين . فإذا كان كذلك ، وكانت الصلاة في هذا الموضع مجمعا على أنه لم يعن بها جميع الصلوات ، لم يجز أن يكون مرادا بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى ، لأن لهم صلوات ليست واحدة ، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك . فإذ كان ذلك كذلك ، صحّ أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيحا عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين لاعن بينهما بعد العصر دون غيرها من الصلوات ، كان معلوما أن التي عنيت بقوله : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ " هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه . هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت ، وذلك لقربه من غروب الشمس . وكان ابن زيد يقول في قوله : " لا نَشْتَري به ثَمَنا " ما :
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا " قال : نأخذ به رشوة .
القول في تأويل قوله تعالى : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إنّا إذًا لَمِنَ الاثِمِينَ " .
اختلفت القراءة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ بإضافة الشهادة إلى الله ، وخفض اسم الله تعالى يعني : لا نكتم شهادة الله عندنا . وذكر عن الشعبيّ أنه كان يقرؤه كالذي :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون ، عن عامر ، أنه كان يقرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً آللّهِ ، إنّا إذًا لَمِنَ الاثِمِينَ " بقطع الألف وخفض اسم الله . هكذا حدثنا به ابن وكيع .
وكأن الشعبيّ وجه معنى الكلام إلى أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة عندنا ، ثم ابتدأ يمينا باستفهام بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنا أو كتما شهادته عندهما لمن الاثمين . وقد رُوِي عن الشعبيّ في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية ، وذلك ما :
حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا عباد بن عباد ، عن ابن عون ، عن الشعبيّ ، أنه قرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً اللّهِ إنّا إذا لَمِنَ الاثِمِينَ " . قال أحمد ، قال أبو عبيد : تنوّن شهادة ، ويخفض «الله » على الاتصال . قال : وقد رواها بعضهم بقطع الألف على الاستفهام .
وحفظي أنا لقراءة الشعبيّ بترك الاستفهام . وقرأها بعضهم : «وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً اللّهِ » بتنوين الشهادة ونصب اسم «الله » ، بمعنى : ولا نكتم الله شهادة عندنا .
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ " بإضافة الشهادة إلى اسم «الله » وخفض اسم «الله » ، لأنها القراءة المستفيضة في قراءة الأمصار التي لا يتناكر صحتها الأمة . وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك : ولا نكتم شهادة الله وإن كان صاحبها بعيدا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت}، نزلت في بديل بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان، أحدهما يسمى تميم بن أوس الداري، وكان من لخم، وعدي بن بندا، فمات بديل وهم في البحر فرمى به في البحر، قال: {حين الوصية}، وذلك أنه كتب وصيته، ثم جعلها في متاعه، ثم دفعه إلى تميم وصاحبه، وقال لهما: أبلغا هذا المتاع إلى أهلي، فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاما من فضة مموها بالذهب، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية}، يقول: عند الوصية يشهدون وصيته. {اثنان ذوا عدل منكم} من المسلمين في دينهما، {أو آخران من غيركم}، يعني من غير أهل دينكم النصرانيين، تميم الداري وعدي بن بداء، {إن أنتم ضربتم في الأرض} يا معشر المسلمين للتجارة، {فأصابتكم مصيبة الموت}، يعني بديل بن أبي مارية حين انطلق تاجرا في البحر، وانطلق معه تميم وعدى صاحباه، فحضره الموت، فكتب وصيته، ثم جعلها في المتاع، فقال: أبلغا هذا المتاع إلى أهلي، فلما مات بديل، قبضا المتاع، فأخذا منه ما أعجبهما، وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوش مموه بالذهب، فلما رجعا من تجارتهما دفعا بقية المال إلى ورثته، ففقدوا بعض متاعه، فنظروا إلى الوصية، فوجدوا المال فيه تاما لم يبع منه، ولم يهب، فكلموا وتميما وصاحبه، فسألوهما: هل باع صاحبنا شيئا أو اشترى شيئا فخسر فيه، أو طال مرضه فأنفق على نفسه؟ فقال: لا، قالوا: فإنا قد فقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا، فقالا: ما لنا بما أبدى، ولا بما كان في وصيته علم، ولكنه دفع إلينا هذا المال، فبلغناكم إياه. فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت}، يعني بديل بن أبي مارية، {اثنان ذوا عدل منكم}، يعني من المسلمين عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، {أو آخران من غيركم} من غير أهل دينكم، يعني النصرانيين، {إن أنتم} معشر المسلمين {ضربتم في الأرض} تجارا {فأصابتكم مصيبة الموت}، يعني بديل بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، {تحسبونهما}، يعني النصرانيين تقيمونهما، {من بعد الصلاة} صلاة العصر، {فيقسمان بالله}، فيحلفان بالله، {إن ارتبتم}، يعني إن شككتم، نظيرها في النساء القصرى، أن المال كان أكثر من هذا الذي أتيناكم به، {لا نشتري به ثمنا}، يقول: لا نشتري بأيماننا عرضا من الدنيا، {ولو كان ذا قربى}، يقول: ولو كان الميت ذا قرابة منا، {ولا نكتم شهادة الله إنا إذا} إن كتمنا شيئا من المال، {لمن الآثمين} بالله عز وجل. فحلفهما النبي صلى الله عليه وسلم عند المنبر بعد صلاة العصر، فحلفا أنهما لم يخونا شيئا من المال، فخلى سبيلهما، فلما كان بعد ذلك، وجدوا الإناء الذي فقدوه عند تميم الداري، قالوا: هذا من آنية صاحبنا الذي كان أبدى بها، وقد زعمتما أنه لم يبع ولم يشتر ولم ينفق على نفسه، فقالا: قد كنا اشتريناه منه، فنسينا أن نخبركم به، فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم الثانية، فقالوا: يا رسول الله، إنا وجدنا مع هذين إناء من فضة من متاع صاحبنا، فأنزل الله عز وجل: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما}...
منسوخ، ولا تجوز اليوم شهادة كافر على مسلم، والذي نسخه قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282].
{فَإِنْ عُثِرَ} يقول: فإن اطلع {عَلَى أَنَّهُمَا اَسْتَحَقَّا إِثْماً} يعني الداريين، أي كتما حقا {فَآخَرَانِ} من أولياء الميت {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ اَلذِينَ اَسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ اَلاَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} فيحلفان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإن الذي نطلب قبل الداريين لحق {وَمَا اَعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذا لَّمِنَ اَلظَّـالِمِينَ} هذا قول الشاهدين أولياء الميت {ذَلِكَ أَدْنى أَنْ يَّأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ} يعني الداريين والناس أن يعودوا لمثل ذلك. يعني من كان في مثل حال الداريين من الناس،... والحجة فيما وصفت من أن يستحلف الناس فيما بين البيت والمقام، وعلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد العصر قول الله عز وجل: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ اِلصَّلَواةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}، وقال المفسرون: هي صلاة العصر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ": ليشهد بينكم "إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ": وقت الوصية، "اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ": ذوا رشد وعقل وحِجا من المسلمين. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ"؛ فقال بعضهم: عني به: من أهل ملتكم من المسلمين.
وقال آخرون: عني بذلك: ذوا عدل من حيّ الموصي.
واختلفوا في صفة الاثنين اللذين ذكرهما الله في هذه الآية ما هي، وما هما؟ فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي. وقال آخرون: هما وصيان.
وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان، قوله: "شَهادَةُ بَيْنِكُمْ": ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم.
وتأويل الذين قالوا: هما وصيان لا شاهدان، قوله: "شَهادَةُ بَيْنِكُمْ "بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريض، من قولك: شهدت وصية فلان، بمعنى حضرته.
وأولى التأويلين بقوله: "اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ" تأويل من تأوّله بمعنى: أنهما من أهل الملة دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ" فغير جائز أن يُصرف ما عمه الله تعالى إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون العائد من ذكرهم على العموم، كما كان ذكرهم ابتداء على العموم.
وأَوْلَى المعنيين بقوله: "شَهادَةُ بَيْنِكُمْ": اليمين، لا الشهادة التي يقوم بها من عنده شهادة لغيره لمن هي عنده على من هي عليه عند الحكام، لأنّا لا نعلم لله تعالى حكما يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزا صرف الشهادة في هذا الموضع إلى الشهادة التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة. وفي حكم الآية في هذه اليمين على ذوي العدل، وعلى من قام مقامهم في اليمين بقوله: "تَحْبِسُوَنهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسمِانِ باللّهِ" أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك من أن الشهادة فيه الأيمان دون الشهادة التي يقضي بها للمشهود له على المشهود عليه، وفساد ما خالفه.
فإن قال قائل: فهل وجدت في حكم الله تعالى يمينا تجب على المدّعي فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟ فإن قلت: لا، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله: "فإنْ عُثرَا على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما" هما المدعيين. وإن قلت بلى، قيل لك: وفي أيّ حكم الله تعالى وجدت ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني، وذلك في حكم الرجل يدّعي قِبَل رجل مالاً، فيقرّ به المدّعي عليه قبله ذلك ويدعي قضاءه، فيكون القول قول ربّ الدين، والرجل يعترف في يد الرجل السلعة، فيزعم المعترَفة في يده أنه اشتراها من المدّعي أو أن المدّعي وهبها له، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في هذا الموضع اليمين على المدّعيين اللذين عثرا على الجانيين فيما جنيا فيه...
"أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ"؛ يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت عدلان من المسلمين، أو آخران من غير المسلمين.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ"؛ فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم نحو الذي قلنا فيه. عن سعيد بن المسيب:"أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ "من أهل الكتاب... عن إبراهيم، قال: إن كان قربه أحد من المسلمين أشهدهم، وإلا أشهد رجلين من المشركين.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيّكم وعشيرتكم... وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام وذلك أن الله تعالى عرّف عباده المؤمنين عند الوصية شهادة اثنين من عدول المؤمنين أو اثنين من غير المؤمنين، ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم، أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين. فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائز صرف مغلق كلام الله تعالى إلا إلى أحسن وجوهه. وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى:"ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ "إنما هو من أهل دينكم وملتكم بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه. وإذا صحّ ذلك بما دللنا عليه، فمعلوم أن معنى قوله:"أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ "إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان الاخران اللذان من غير أهل ديننا يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدي وثن أو على أيّ دين كانا، لأن الله تعالى لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دون ملة بعد ألاّ يكونا من (غير) أهل الإسلام.
"إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ"؛ يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم أيها المؤمنون أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر الضارب في الأرض." فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ "يقول: فنزل بكم الموت. ووجه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، إن وجدا، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم، وإنما فعل ذلك من فعله، لأنه وجه معنى الشهادة في قوله: "شَهادَةُ بَيْنِكُمْ" إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيام صاحبها عند الحاكم، أو يبطلها...
ووَجّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير، وقالوا: إنما عني بالشهادة في هذا الموضع الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما وائتمان الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدّياه إلى ورثته بعد وفاته إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يأمن الرجل على ماله من رآه موضعا للأمانة، من مؤمن وكافر، في السفر والحضر.
"تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى"؛ يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم، أو كان أوصى إليهما، أو آخران من غيركم، إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم، فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال فأصابتكم مصيبة الموت، فأدّيا إلى ورثتكم ما ائتمنتموها وادّعوا عليهما خيانة خاناها مما ائتمنا عليه، فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما، يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف، وهو: فأصابتكم مصيبة الموت وقد أسندتم وصيتكم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة. "فَيُقْسِمَانِ بالله إنِ ارْتَبْتُمْ" يقول: يحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما ائتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها، أو تبديلها. والارتياب: هو الاتهام. "لا نَشْتَري به ثَمَنا" يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنا، يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه وعلى مال نذهب به أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وإليهم وصيتهم. والهاء في قوله «بِهِ» من ذكر الله، والمعني به الحلف والقَسَم ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به، فيعرف من معنى الكلام، واكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. "وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى" يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضا فنكذب فيها لأحد، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا.
"تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ" من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم بهما، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربَى.
واختلفوا في الصلاة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هي صلاة العصر.
وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال: تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأن الله تعالى عرّف الصلاة في هذا الموضع بإدخال الألف واللام فيها، ولا تدخلهما العرب إلاّ في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت الصلاة في هذا الموضع مجمعا على أنه لم يعن بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مرادا بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى، لأن لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك. فإذ كان ذلك كذلك، صحّ أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيحا عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين لاعن بينهما بعد العصر دون غيرها من الصلوات، كان معلوما أن التي عنيت بقوله: "تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ" هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس. وكان ابن زيد يقول في قوله: "لا نَشْتَري به ثَمَنا ": نأخذ به رشوة.
"وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إنّا إذًا لَمِنَ الاثِمِينَ".
اختلفت القراءة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ بإضافة الشهادة إلى الله، وخفض اسم الله تعالى يعني: لا نكتم شهادة الله عندنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وإذا كانت الآية نزلت في قصة تميم وصاحبه، وكانا نصرانيين، فإن ذلك يدل على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة لأن الله تعالى قال: (اثنان ذوا عدل منكم أو آخرين من غيركم) فمعنى الآية على هذا التأويل، والله أعلم، أن يكون الميت خلف تركته عند ذميين على ما ذكر في القصة، وقالا: ترك في أيدينا كذا وكذا، وادعى أكثر من ذلك، واستحلف المدعى عليهما قبلهم، وقوله: (تحبسونهما) على هذا التأويل هما [في الأصل وم: هو] المدعى عليهما.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
..وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد ليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله، وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم، يقولون معنى قوله، {منكم} من المؤمنين، ومعنى، {من غيركم} من الكفار، قال بعضهم ذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة، واختلفت هذه الجماعة المذكورة، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلاً حضرته المنية بدقوقا 917 ولم يجد أحداً من المؤمنين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية، ولا تجوز أيضاً في الوصية إلا إذا كانوا في سفر، ومذهب جماعة ممن ذكر، أنها منسوخة بقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} 918 وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز...
وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى: {منكم} يريد من عشيرتكم وقرابتكم، وقوله {أو آخران من غيركم} يريد من غير القرابة والعشيرة، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان، فإذا شهدا فإن لم يقع ارتياب مضت الشهادة، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين. وقال بعض الناس الآية منسوخة...
فهذا هو الاختلاف في معنى الآية وصورة حكمهما، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية، ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً، وذكر ذلك والرد عليه يطول، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع، والله المستعان، قوله {شهادة بينكم} قال قوم الشهادة هنا بمعنى الحضور، وقال الطبري: الشهادة بمعنى اليمين وليست بالتي ُتَؤَّدى. قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، والصواب أنها الشهادة التي تحفظ لتؤدى 921، ورفعهما بالابتداء والخبر في قوله {اثنان} قال أبو علي: التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقدره غيره أولاً كأنه قال «مقيم شهادة بينكم اثنان» وأضيفت الشهادة إلى «بين» اتساعاً في الظرف بأن يعامل معاملة الأسماء، كما قال تعالى: {لقد تقطع بينكم}...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ من طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لَوْ سَرَدْنَاهَا بِطُرُقِهَا، وَسَطَرْنَاهَا بِنُصُوصِهَا، وَكَشَفْنَا عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا بِالتَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ لَاتَّسَعَ الشَّرْحُ، وَطَالَ عَلَى الْقَارِئِ الْبَرْحُ، فَلِذَا نَذْكُرُ لَكُمْ من ذَلِكَ أَيْسَرَهُ وَوَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ أَكْثَرُهُ،
فَنَقُولُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، (عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ...} بَرِئَ مِنْهَا النَّاسُ غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ، وَمَعَهُ جَامُ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ، وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ، فَأَوْصَى إلَيْهِمَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ. قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهَا أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ، فَسَأَلُونَا عَنْهُ، فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا، وَمَا دَفَعَ إلَيْنَا غَيْرَهُ. قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْت بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ من ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَأَخْبَرْتُهُمْ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْت إلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...} إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَحَلَفَا، فَنُزِعَتْ الْخَمْسُمِائَةِ من عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ).
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ...
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا بِمَعْنَى حَلَفَ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى حَضَرَ لِلتَّحَمُّلِ. وَالثَّالِثُ: بِمَعْنَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. تَقُولُ: أَشْهَدُ عِنْدَك، أَيْ حَضَرْت لِأُؤَدِّيَ عِنْدَك مَا عَلِمْت، وَأَدَاؤُهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ بَعِيدٌ لَا دَرْكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِمَعْنَاهُ، وَلَا يُجْزِي غَيْرُهُ عَنْهُ...
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ}: وَمَعْنَى {حِينَ} وَقْتَ؛ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا أَرَدْتُمْ الْوَصِيَّةَ وَقَدْ مَرِضْتُمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ الْأَوَّلُ: حَالَ الْبِدَارِ إلَى السَّنَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ}. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ وَقْتِ ذَلِكَ وَسَبَبِهِ وَحَقِيقَةِ الْوَصِيَّةِ،...
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} يَعْنِي وَقَدْ أَسْنَدْتُمْ النَّظَرَ إلَيْهِمَا، وَاسْتَشْهَدْتُمُوهُمَا. أَوْ ارْتَبْتُمْ بِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سَرْدِ الْقَصَصِ وَالرِّوَايَاتِ وَذِكْرِ الْآثَارِ وَالْمَقَالَاتِ...
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا من بَعْدِ الصَّلَاةِ}: وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَصْلٌ من أُصُولِ الْحُكُومَةِ، وَحُكْمٌ من أَحْكَامِ الدِّينِ؟... وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ بِالزَّمَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَشَرَحْنَا أَنَّ حُكْمَ التَّغْلِيظِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَغْلِيظٌ بِالْأَلْفَاظِ. الثَّانِي: تَغْلِيظٌ بِالْمَكَانِ، كَالْمَسْجِدِ وَالْمِنْبَرِ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ، فَيَكُونُ لَهُ أَخْزَى، وَلِفَضِيحَتِهِ أَشْهَرُ. الثَّالِثُ: التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ، كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ "النُّورِ "إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ التَّغْلِيظَ يَكُونُ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: بِاللَّفْظِ. الثَّانِي: بِالتَّكْرَارِ. الثَّالِثُ: بِالْمُصْحَفِ. الرَّابِعُ: بِالْحَالِ. الْخَامِسُ: بِالْمَكَانِ. السَّادِسُ: بِالزَّمَانِ. أَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْأَلْفَاظِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تُجْزِئُهُ. الثَّانِي: الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ: أَمَّا رُبْعُ دِينَارٍ، وَالْقَسَامَةُ، وَاللِّعَانُ، فَلَا بُدَّ من أَنْ يَقُولَ فِيهِ: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَقَدْ شَاهَدْت الْقُضَاةَ من أَهْلِ مَذْهَبِهِ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، الطَّالِبُ الْغَالِبُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُدْرِكُ الْمُهْلِكُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. وَهَذَا مَا لَا آخِرَ لَهُ إلَّا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ اسْمًا، وَغَيْرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي حَلَفُوا بِهَا أَرْهَبُ وَأَعْظَمُ مَعْنًى من غَيْرِهَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي الصَّحِيحِ: (الْحَلِفُ بِاَللَّهِ وَبِاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ التَّغْلِيظُ، وَبِالْمُصْحَفِ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ بِدْعَةٌ مَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ من الصَّحَابَةِ، وَكُلُّ فَصْلٍ يُسْتَوْفَى بِمَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى...
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ}: قِيلَ: هُمَا الْوَصِيَّانِ إذَا اُرْتِيبَ بِقَوْلِهَما. وَقِيلَ: هُمَا الشَّاهِدَانِ إذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ وَارْتَابَ بِهِمَا الْحَاكِمُ حَلَّفَهُمَا. وَاَلَّذِي سَمِعْت -وَهُوَ بِدْعَةٌ- عَنْ ابن أَبِي لَيْلَى أَنه يَحْلِفَ الطَّالِبُ مَعَ شَاهِدَيْهِ أَنَّ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، وَحِينَئِذٍ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِالْحَقِّ.
وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدِي إذَا ارْتَابَ الْحَاكِمُ بِالْقَبْضِ لِلْحَقِّ فَيَحْلِفُ إنَّهُ لَبَاقٍ. وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. هَذَا فِي الْمُدَّعِي فَكَيْفَ يُحْبَسُ الشَّاهِدُ أَوْ يَحْلِفُ؟ هَذَا مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {بِاَللَّهِ}: وَهَذَا نَصٌّ من كِتَابِ اللَّهِ فِي تَرْكِ التَّغْلِيظِ بِالْأَلْفَاظِ...
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {بِهِ}: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي الْقَوْلَ الَّذِي قُلْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْهَاءَ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْمَعْنَى: لَا نَبِيعُ حَظَّنَا من اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْعَرْضِ. الثَّالِثُ: هُوَ ضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ، وَهُمْ الْوَرَثَةُ، وَهُمْ الْمُتَّهِمُونَ الَّذِينَ لَهُمْ الطَّلَبُ وَلَهُمْ التَّحْلِيفُ، وَالْحَاكِمُ يَقْتَضِي لَهُمْ وَيَنُوبُ عَنْهُمْ فِي إيفَاءِ الْحَقِّ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْقَوْلِ، فَبِهِ يَتَمَكَّنُ الْمَعْنَى وَلَا يُحْتَاجُ إلَى سِوَاهُ...
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أنَّهُمَا}: قِيلَ: هُمَا الشَّاهِدَانِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُمَا الْوَصِيَّانِ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ، وَيَخْتَلِفُ التَّقْدِيرُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إثْمًا}: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عُقُوبَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ غُرْمًا، وَظَاهِرُ الْإِثْمِ الْعُقُوبَةُ، لَكِنْ صَرَفَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ قَوْلُهُ: اسْتَحَقَّا، وَالْعُقُوبَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْمَعَاصِي، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ حَسْبَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ اسْتَوْجَبَا غُرْمًا بِطَرِيقَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ} فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا كَانَا اسْتَحَقَّاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْقَوْمَ ادَّعَوْا أَنَّهُ كَانَ لِلْمَيِّتِ دَعْوَى من انْتِقَالِ مِلْكٍ عَنْهُ إلَيْهِمَا بِبَعْضِ مَا تَزُولُ بِهِ الْأَمْلَاكُ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَآخَرَانِ}: إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ الْوَارِثَيْنِ كَانَا اثْنَيْنِ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَأَجْزَأَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ}: مَعْنَاهُ: مِمَّنْ كَانَ نَفَذَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ قَبْلَ ذَلِكَ بِوَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرَهُ، وَهُمْ الْوَرَثَةُ. وَمَنْ يَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُ عُلَمَائِنَا: إنَّ فِي قَوْلِهِ {عَلَيْهِمْ} ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا، وَلَا نَحْفِلُ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {اسْتَحَقَّ} مَعَ قَوْلِهِ: "عَلَى" مُتَلَائِمٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {الْأَوْلَيَانِ}: وَهَذَا فَصْلٌ مُشْكِلُ الْمَعْنَى مُشْكِلُ الْإِعْرَابِ، كَثُرَ فِيهِ الِاخْتِلَاطُ: أَمَّا إعْرَابُهُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ من الضَّمِيرِ فِي "يَقُومَانِ" وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَالْأَوْلَيَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَوَّلَيْنِ. وَهَذَا حَسَنٌ؛ لَكِنَّهُ فِيهِ رَدُّ الْبَعِيدِ إلَى الْقَرِيبِ فِي الْبَدَلِيَّةِ بَعْدَمَا حَالَ بَيْنَهُمَا من طَوِيلِ الْكَلَامِ، وَيَكُونُ فَاعِلُ "اُسْتُحِقَّ" -بِضَمِّ التَّاءِ- مُضْمَرًا تَقْدِيرُهُ الْحَقُّ أَوْ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْإِيصَاءُ أَوْ الْمَالُ. وَقِيلَ: فَاعِلُ اُسْتُحِقَّ عَائِدٌ عَلَى الْإِثْمِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الْغُرْمُ لِلْمَالِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ "الْأَوْلَيَانِ" فَاعِلٌ بِاسْتُحِقَّ، يُرِيدُ الْأَوْلَيَانِ بِالْيَمِينِ بِأَنْ يُحَلِّفَا مَنْ يَشْهَدُ بَعْدَهُمَا، فَإِنْ جَازَتْ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّينَ كَانَ الْأَوْلَيَانِ النَّصْرَانِيِّينَ، وَالْآخَرَانِ من غَيْرِ بَيْتِ [أَهْلِ] الْمَيِّتِ. هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ. وَلَا أَقُولُ بِهِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: من الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوَّلُ وَبِالْحَقِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا من قَوْلِهِ: آخَرَانِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ، تَقْدِيرُهُ فَالْأَوْلَيَانِ آخَرَانِ. وَالصَّحِيحُ من هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَأَكْمَلْنَا تَقْدِيرَ الْآيَةِ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ الْأَوَّلَيْنِ -وَهُوَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ- فَيُرْجَعُ إلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَرَأَ حَفْصٌ اسْتَحَقَّ بِمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ الْغَرِيبِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: {عَلَيْهِمْ}؛ فَقِيلَ فِيهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}؛ أَيْ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَهَذَا كَثِيرٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}. وَهَذِهِ دَعَاوَى وَضَرُورَاتٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ مُرَادُهُمْ فِي بَعْضِ مَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْنَى الْأَوْلَيَانِ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَوْلَى بِالشَّهَادَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْأَوْلَى بِالْمَيِّتِ من الْوَرَثَةِ. الثَّالِثُ: الْأَوْلَى بِتَحْلِيفِ غَيْرِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ؛ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي، وَهُوَ أَصَحُّ من الْأَوَّلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ من شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا} الْمَعْنَى: لَقَوْلُنَا أَحَقُّ من قَوْلِهِمَا. وَهَذَا الْقَوْلُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَأَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ لَا تَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الدَّعْوَى. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا كَانَتْ بِإِنَّ قَوْلِي أَصْدَقُ من قَوْلِك رُبَّمَا وَرَدَ فِي يَمِينِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مُدَّعِيهِ قَدْ كَذَبَ من كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَبَ هُوَ من وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَيَلْزَمُ التَّصْرِيحُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْكَذِبَ، وَتَحْصُلُ الْمُجَاهَرَةُ إنْ خَالَفَ، لِيَأْتِيَ بِالصِّدْقِ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَإِذَا صَرّحَ بِالْقَوْلِ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَنْفَعْهُ مَا نَوَى إذَا أَضْمَرَ من مَعْنَى الْيَمِينِ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُك عَلَيْهِ صَاحِبُك}. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَمَعْنًى قَوِيمٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَرَرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي بَقَاءِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ ارْتِفَاعِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حُكْمُهَا مَنْسُوخٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حُكْمُهَا ثَابِتٌ، فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَالَ: إنَّ الْيَمِينَ الْآنَ لَا تَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اُرْتِيبَ بِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ رِيبَةٌ وَلَا فِي حَالِهِ خُلَّةٌ لَمْ يُحْتَجْ إلَى الْيَمِينِ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَنُخْبَتُهُمْ. وَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَحَقَّقَهُ بِأَمْرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وَ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاءِ}. فَوَقَعَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَاقْتُضِيَتْ الْيَمِينُ مِنْهَا إنْ كَانَتْ فِيهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا ثَابِتَةٌ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَائِزَةٌ فِي السَّفَرِ؛ مِنْهُمْ أَحْمَدُ كَمَا تَقَدَّمَ يُجَوِّزُهَا فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَصَارَ بَعْضُ أَشْيَاخِنَا إلَى أَنَّ ذَلِكَ بَاقٍ بِالْيَمِينِ، وَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَجَهْلٌ بِالتَّأْوِيلِ، وَقُصُورٌ عَنْ النَّظَرِ، وَإِذَا أَسْقَطَ أَحْمَدُ الْيَمِينَ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَثْبُتُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ الْيَمِينُ، وَهِيَ هَاهُنَا يَمِينُ الْوَصِيَّيْنِ، كَمَا سُمِّيَتْ الْيَمِينُ فِي اللِّعَانِ شَهَادَةً.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْيَمِينِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ من أَجْلِ دَعْوَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُسْنَدِ إلَيْهِمَا الْوَصِيَّةُ بِالْخِيَانَةِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، مَا لَا يَبْرَأُ فِيهِ الْمُدَّعِي ذَلِكَ قِبَلَهُ إلَّا بِيَمِينٍ؛ فَإِنَّ نَقْلَ الْيَمِينِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ عَثَرَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي أَيْمَانِهِمَا بِإِثْمٍ، وَظَهَرَ عَلَى كَذِبِهِمَا فِي ذَلِكَ بِمَا ادَّعَوْا من مَالِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُمَا، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَانَةَ ظَهَرَتْ فِي أَدَاءِ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ حَلَفَا مَعَ الشَّهَادَةِ.
وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُمَا ادَّعَيَا بَيْعَ الْجَامِ مِنْهُمَا. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّأْوِيلُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَدَّيَا التَّرِكَةَ فِيمَا ذُكِرَ فِيهَا، وَانْقَلَبَا عَلَى سَتْرٍ وَسَلَامَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي الْجَامِ؛ إمَّا بِأَنَّهُ وُجِدَ يُبَاعُ، وَإِمَّا بِتَحَرُّجِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَتَأَثُّمِهِ وَأَدَائِهِ مَا كَانَ أَخَذَهُ مِنْهُ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ رِوَايَةٍ من تِلْكَ الرِّوَايَاتِ عَضَّدَتْهَا صِيغَةُ الْقِصَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسَرَدُوهَا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ مِنْهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ. أَمَّا إنَّهُ إذَا فَسَّرْت الْكَلَامَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاحْتَجْت إلَى تَجْوِيزٍ أَوْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ فَكُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ فِي ذَلِكَ من التَّأْوِيلَاتِ فَهُوَ أَرْجَحُ، وَكُلَّمَا كَانَ من خِلَافِ الْأُصُولِ فِيهِ أَقَلَّ فَهُوَ أَرْجَحُ، كَتَأْوِيلٍ فِيهِ إجَازَةُ شَهَادَةِ الْكَافِرِ وَإِحْلَافُ الشَّاهِدِ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي يُخَرَّجُ عَنْهُ هَذَا هُوَ أَرْجَحُ، وَلَا يَسْلَمُ تَأْوِيلٌ من اعْتِرَاضٍ؛ فَإِنَّ الْبَيَانَ من اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَحْكَامِ جَاءَ عَلَى صِفَةٍ غَرِيبَةٍ وَهُوَ سِيَاقُهُ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْقِصَّةِ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ بِانْتِقَالَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا}. وَرُبَّمَا كَانَ الْمُدَّعِي وَاحِدًا، فَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى: {فَآخَرَانِ} خَارِجًا مَخْرَجَ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا جَرَى من الْعَدَدِ فِي الْقِصَّةِ، وَالْوَاحِدُ كَالِاثْنَيْنِ فِيهَا؛ فَيَطْلُبُ النَّاظِرُ مَخْرَجًا أَوْ تَأْوِيلًا لِلَّفْظِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، فَيُدْخِلُ الْإِشْكَالَ عَلَى نَفْسِهِ من حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَلَا يُسَاحَلُ عَنْ هَذَا الْبَحْرِ أَبَدًا؛ وَكَذَلِكَ مَا جَرَى من التَّعْدِيدِ لَا يُمْنَعُ من كَوْنِ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، كَمَا فِي اللِّعَانِ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَذْكَرْ فِي اللِّعَانِ عَدَدًا، وَجَرَى ذِكْرُهُ هَاهُنَا لِاتِّفَاقِهِ فِي الْقِصَّةِ؛ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْعَدَالَةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَشْهَدَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ ائْتَمَنَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ: وَهُوَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَحَضَرَكُمْ الْمَرَضُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَأَرَدْتُمْ الْوَصِيَّةَ فَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ من قَرَابَتِكُمْ أَوْ آخَرَانِ من غَيْرِكُمْ فَإِنْ خَافَا فَاحْبِسُوهُمَا عَلَى الْيَمِينِ إنْ عَدِمْتُمْ الْبَيِّنَةَ. فَإِنْ تَبَيَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ خِيَانَتُهُمْ حَلَفَ مِمَّنْ حَلَفُوا لَهُ وَهُوَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ مَا يَجِبُ بِالْيَمِينِ}. وَعَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: {فَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ من الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَأَشْهِدُوا الْكُفَّارَ}، فَإِنْ أَدَّيَا مَا أُحْضِرَا لَهُ أَوْ ائْتُمِنَا عَلَيْهِ فَبِهَا وَنِعْمَت، وَإِنْ أَدْرَكَتْهُمْ تُهْمَةٌ أَوْ تَبَيَّنَتْ عَلَيْهِمْ خِيَانَةٌ، حَلَفُوا. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَإِنَّمَا قَبِلْنَا نَحْنُ شَهَادَةَ الْعَدْلِ فِي الْوَصِيَّةِ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ من قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ إذَا عُدِمَ الْمُسْلِمُونَ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، فَكُلُّ شَيْءٍ يَعْتَرِضُكُمْ من الْإِشْكَالِ عَلَى دَلِيلِنَا وَتَقْدِيرِنَا الَّذِي قَدَّرْنَاهُ آنِفًا، فَانْظُرُوهُ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا تَجِدُوهُ مُبَيَّنًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى...
والمراد بحضور الموت، مشارفته وظهور أمارات وقوعه، كقوله {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية} قالوا وقوله {إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية} دليل على وجوب الوصية، لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت غير زمان الوصية، وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين، وإنما تحصل هذه الملازمة عند وجوب الوصية. ثم قال تعالى: {اثنان ذوا عدل منكم} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية حذف، والمراد أن يشهد ذوا عدل منكم، وتقدير الآية: شهادة ما بينكم عند الموت الموصوف، هي أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوما. المسألة الثانية: اختلف المفسرون في قوله {منكم} على قولين: الأول: وهو قول عامة المفسرين أن المراد: اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين، أي من أهل دينكم وملتكم، وقوله {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} يعني أو شهادة آخرين من غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر، فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما خاطب سبحانه أهل ذلك الزمان بأنه نصب المصالح العامة كالبيت الحرام والشهر الحرام، وأشار بآية البحيرة وما بعدها إلى أن أسلافهم لا وفّروا عليهم مالهم ولا نصحوا لهم في دينهم، وختم ذلك بقهره للعباد بالموت وكشف الأسرار يوم العرض بالحساب على النقير والقطمير والجليل والحقير؛ عقب ذلك بآية الوصية إرشاداً منه سبحانه إلى ما يكشف سريرة مَنْ خان فيها علماً منه سبحانه أن الوفاء في مثل ذلك يقل وحثاً لهم على أن يفعلوا ما أمر سبحانه به لينصحوا لمن خلفوه بتوفير المال ويقتدي بهم فيما ختم به الآية من التقوى والسماع والبعد من الفسق والنزاع، فقال تعالى منادياً لهم بما عقدوا به العهد بينهم وبينه من الإقرار بالإيمان: {يا أيها الذين آمنوا} أي أخبروا عن أنفسهم بذلك {شهادة بينكم} هو كناية عن التنازع والتشاجر لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند ذلك"... ثم ذكر وقت الشهادة وسببها فقال: {إذا حضر} وقدم المفعول تهويلاً -كما ذكر في النساء- لأن الآية نزلت لحفظ ماله فكان أهم، فقال: {أحدكم الموت} أي أخذته أسبابه الموجبة لظنه.
ولما كان الإيصاء إذ ذاك أمراً متعارفاً، عرف فقال معلقاً بشهادة كما علق به {إذا} أو مبدلاً من {إذا} لأن الزمنين واحد: {حين الوصية} أي إن أوصى، ثم أخبر عن المبتدأ فقال: {اثنان} أي شهادة بينكم في ذلك الحين شهادة اثنين {ذوا عدل منكم} أي من قبيلتكم العارفين بأحوالكم {أو آخران} أي ذوا عدل {من غيركم} أي إن لم تجدوا قريبين يضبطان أمر الوصية من كل ما للوصي وعليه، وقيل: بل هما الوصيان أنفسهما احتياطاً بجعل الوصي اثنين، وقيل: آخران من غير أهل دينكم، وهو خاص بهذا الأمر الواقع في السفر للضرورة لا في غيره ولا في غير السفر؛ ثم شرط هذه الشهادة بقوله: {إن أنتم ضربتم} أي بالأرجل {في الأرض} أي بالسفر، كأن الضرب بالأرجل لا يسمى ضرباً إلا فيه لأنه موضع الجد والاجتهاد {فأصابتكم} وأشار إلى أن الإنسان هدف لسهام الحدثان بتخصيصه بقوله: {مصيبة الموت} أي أصابت الموصي المصيبةُ التي لا مفرّ منها ولا مندوحة عنها.
ولما كان قد استشعر من التفصيل في أمر الشهود مخالفة لبقية الشهادات، فكان في معرض السؤال عن الشهود: ماذا يفعل بهم؟ قال مستأنفاً: {تحبسونهما} أي تدعونهما إليكم وتمنعونهما من التصرف لأنفسهما لإقامة ما تحملاه من هذه الواقعة وأدائه؛ ولما كان المراد إقامة اليمين ولو في أيسر زمن، لا استغراق زمن البعد بالحبس، أدخل الجار فقال: {من بعد الصلاة} أي التي هي أعظم الصلوات؛ فكانت بحيث إذا أطلقت معرفة انصرفت إليها وهي الوسطى وهي العصر، ثم ذكر الغرض من حبسهما فقال: {فيقسمان بالله} أي الملك الذي له تمام القدرة وكمال العلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا، فإن كانا مسلمين فلا يمين، وعن غيره، إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما، وإن كان الوصيين فلا؛ ثم شرط لهذا الحلف شرطاً فقال اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه: {إن ارتبتم} أي وقع بكم شك فيما أخبرا به عن الواقعة؛ ثم ذكر المقسم عليه بقوله: {لا نشتري به} أي هذا الذي ذكرناه {ثمناً} أي لم نذكره ليحصل لنا به عرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة، وليس قصدنا به إلا إقامة الحق {ولو كان} أي الوصي الذي أقسمنا لأجله تبرئة له {ذا قربى} أي لنا، أي إن هذا الذي فعلناه من التحري عادتنا التي أطعنا فيها
{كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله} [النساء: 135] -الآية، لا أنه فعلنا في هذه الواقعة فقط {ولا نكتم شهادة الله} أي هذا الذي ذكرناه لم نبدل فيه لما أمر الله به من حفظ الشهادة وتعظيمها، ولم نكتم شيئاً وقع به الإشهاد، ولا نكتم فيما يستقبل شيئاً نشهد به لأجل الملك الأعظم المطلع على السرائر كما هو مطلع على الظواهر؛ ثم علل ذلك بما لقنهم إياه ليكون آخر كلامهم، كل ذلك تغليظاً وتنبيهاً على أن ذلك ليس كغيره من الأيمان، فقال تذكيراً لهم وتحذيراً من التغيير: {إنا إذاً} أي إذا فعلنا شيئاً من التبديل أو الكتم {لمن الآثمين}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إنه تعالى لما ذكرنا في آخر الآية السابقة بأن مرجعنا إليه بعد الموت وأنه يحاسبنا ويجازينا ناسب أن يرشدنا في إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وإلى العناية بالإشهاد عليها لئلا تضيع. وأما مفرداتها التي يحسن التذكير بمعناها قبل تفسير النظم الكريم فمنها (الشهادة) وهي كالشهود حضور الشيء مع مشاهدته بالبصر أو البصيرة أو مطلقا – كما قال الراغب – قال: لكن الشهود بالحضور المجرد أولى، والشهادة مع المشاهدة أولى... والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر... و»شهدت» يقال على ضربين أحدهما جار مجرى العلم وبلفظه تقام الشهادة ويقال «أشهد بكذا» ولا يرضى من الشاهد أن يقول: «أعلم» بل يحتاج أن يقول «أشهد» والثاني يجري مجرى القسم فيقول: «أشهد بالله أن زيدا منطلق» فيكون قسما، ومنهم من يقول: إن قال: «أشهد» ولم يقل «بالله» يكون قسما، ويجري «علمت» مجراه في القسم فيجاب بجواب القسم، نحو قول الشاعر: ولقد علمت لتأتين منيتي.اه. مخلصا. وقد ترد بمعنى الإقرار بالشيء. و (البين): أمر اعتباري يفيد صلة أحد الشيئين بالآخر أو الأشياء من زمان أو مكان أو حال أو عمل، وقالوا إنه يطلق على الوصل والفرقة، ومن الثاني قولهم «ذات البين» للعداوة والبغضاء. قال تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} [الأنفال: 1] أي ما بينكم من عداوة أو فساد، وهو أمر معنوي متصل بين الأفراد. ومنها: {ضربتم في الأرض} [النساء: 101] أي سافرتم وتقدم في سورة النساء. ومنها: (تحبسونهما) وهو من الحبس بمعنى إمساك الشيء ومنعه من الانبعاث. والحبس مصنع الماء التي يمنع فيه من الجريان. ومنها: (عثر) وهو من العثور على الشيء بمعنى الاطلاع عليه بالاتفاق من غير سبق طلب له أو من غير حسبان، أو عثره عليه – أوقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك. وأصله من عثر (كقعد) عثارا وعثورا إذا سقط. وأما معنى الآيات وتفسير نظمها فنبينه بما يلي:
{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} أي حكم ما يقع بينكم من الشهادة أو كيفيته إذا نزلت بأحدكم أسباب الموت ومقدماته وأراد حينئذ أن يوصي هو أن يشهد اثنان الخ أو الشهادة المشروعة بينكم في ذلك هي شهادة اثنين من رجالكم ذوي العدل والاستقامة، وذلك بأن يشهدهما الموصي على وصيته سواء ائتمنهما على ما يوصي به كما في واقعة سبب النزول أم لا، ويترتب على إشهاده إياهما أن يشهدا بذلك، ومن إيجاز الآية أن عبارتها تدل على الإشهاد والشهادة جميعا. والمراد بقوله «منكم» من المؤمنين وهو قول الجمهور، وقيل من أقاربكم وروي عن الحسن والزهري وأخذ به كثير من الفقهاء...
{أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فأصابتكم مصيبة الموت} أي أو شهادة شهيدين آخرين من غير المسلمين أو من الأجانب إن كنتم مسافرين ونزلت بكم مقدمات الموت وأردتم الإيصاء. وفي الكلام تأكيد شديد للوصية وللإشهاد عليها {تحبسونهما من بعد الصلاة} استئناف بياني كأن السامع لما تقدم يقول وكيف يشهدان؟ فأجيب بهذا الجواب أي تمسكون الشهيدين اللذين أشهدا على الوصية من بعد الصلاة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض، والبعد عن المجتمع والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله...
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث: أن على من يحس بدنو أجله، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين. فأما إذا كان ضاربا في الأرض، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين. فإن ارتاب المسلمون -أو ارتاب أهل الميت- في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة -حسب عقيدتهما- ليحلفا بالله، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر، ولو كان ذا قربى، ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه.. وإلا كانا من الآثمين.. وبذلك تنفذ شهادتهما...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله {إن ارتبتم} تظافرت أقوال المفسّرين على أنّ هذا شرط متّصل بقوله {تحبسونهما} وما عطف عليه. واستغني عن جواب الشرط لدلالة ما تقدّم عليه ليتأتّى الإيجاز، لأنّه لو لم يقدّم لقيل: أو آخران من غيركم فإن ارتبتم فيهما تحبسونهما إلى آخره. فيقتضي هذا التفسير أنّه لو لم تَحصل الريبة في صدقهما لما لزم إحْضارهما من بعد الصلاة وقسمهما، فصار ذلك موكولاً لِخيَرة الولي. وجملة الشرط معترضة بين فعل القسم وجوابه. والوجه عندي أن يكون قوله {إن ارتبتم} من جملة الكلام الذي يقوله الشاهدان، ومعناه أنّ الشاهدين يقولان: إن ارتبتم في شهادتنا فنحن نقسم بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم الشهادة، أي يقولان ذلك لاطمئنان نفس المُوصي، لأنّ العدالة مظنّة الصدق مع احتمال وجود ما ينافيها ممّا لا يُطّلع عليه فأكّدت مظنّة الصدق بالحلف؛ فيكون شُرع هذا الكلام على كلّ شاهد ليسْتوي فيه جميع الأحوال بحيث لا يكون توجيه اليمين في بعض الأحوال حَرجاً على الشاهدين الذين توجّهت عليهما اليمينُ من أنّ اليمين تعريض بالشكّ في صدقهما، فكان فرض اليمين من قِبَل الشرع دافعاً للتحرّج بينهما وبين الوليّ، لأنّ في كون اليمين شرطاً من عند الله معذرة في المطالبة بها، كما قال جمهور فقهائنا في يمين القضاء التي تتوجّه على من يثبت حقّاً على ميّت أو غائب من أنّها لازمة قبل الحكم مطلقاً ولو أسقطها الوارث الرشيد. ولم أقف على مَن عرّج على هذا المعنى من المفسّرين إلاّ قول الكواشي في « تلخيص التفسير»: « وبعضُهم يقف على {يقسمان} ويبتدئ {بالله} قسماً ولا أحبّه»، وإلاّ ما حكاه الصفاقسي في « مُعربَه» عن الجرجاني « أنّ هنا قولاً محذوفاً تقديره: فيقسمان بالله ويَقُولان». ولم يظهر للصفاقسي ما الذي دعَا الجرجاني لِتقدير هذا القول. ولا أراه حمله عليه إلاّ جَعْلُ قوله {إن ارتبتم} من كلام الشاهديْن. وجوابُ الشرط محذوف يدلّ عليه جواب القسم، فإنّ القسم أولى بالجواب لأنّه مقدّم على الشرط. وقوله {لا نشتري به ثمناً} الخ، ذلك هو المقسم عليه. ومعنى {لا نشتري به ثمناً} لا نعتاض بالأمر الذي أقسمنا عليه ثمناً، أي عوضاً، فضمير به، عائد إلى القسم المفهوم من {يقسمان}. وقد أفاد تنكير {ثمناً} في سياق النفي عمومَ كلّ ثمن. والمراد بالثمن العوَض، أي لا نبدّل ما أقسمنا عليه بعوض كائناً ما كان العوضُ، ويجوز أن يكون ضمير {به} عائداً إلى المقسم عليه وهو ما استشهدا عليه من صيغة الوصي بجميع ما فيها. وقوله: {ولو كان ذا قُربى} حال من قوله {ثمناً} الذي هو بمعنى العوض، أي ولو كان العوض ذا قربى، أي ذا قربى منّا، و« لو» شرط يفيد المبالغة فإذا كان ذا القربى لا يَرْضيانه عوّضاً عن تبديل شهادتهما فأوْلى ما هو دون ذلك. وذلك أنّ أعظم ما يدفع المرء إلى الحيف في عرف القبائل هو الحميّة والنصرة للقريب، فذلك تصغر دونه الرّشى ومنافع الذات. والضمير المسْتتر في {كان} عائد إلى قوله {ثَمناً}. ومعنى كون الثمن، أي العوض، ذَا قربى أنّه إرضاء ذي القربى ونفعه فالكلام على تقدير مضاف، وهو من دلالة الاقتضاء لأنّه لا معنى لجعل العوض ذات ذي القربى، فتعيّن أنّ المراد شيء من علائقه يعيّنه المقام. ونظيره {حُرِّمت عليكم أمّهاتكم} [النساء: 23]. وقد تقدّم وجه دلالة مثل هذا الشرط ب (لو) وتسميتها وصلية عند قوله تعالى: {ولو افتدى به} من سورة آل عمران (91). وقوله {ولا نكتم} عطف على {لا نشتري}، لأنّ المقصود من إحلافهما أن يؤدّيا الشهادة كما تلقّياها فلا يغيّرا شيئاً منها ولا يكتماها أصلاً. وإضافة الشهادة إلى اسم الجلالة تعظيم لخطرها عند الشهادة وغيره لأنّ الله لمّا أمر بأدائها كما هي وحَضّ عليها أضافها إلى اسمه حفظاً لها من التغيير، فالتصريح باسمه تعالى تذكير للشاهد به حينَ القسم. وفي قوله {ولا نكتم} دليل على أنّ المراد بالشهادة هنا معناها المتعارف، وهو الإخبار عن أمر خاصّ يعرِض في مثله الترافعُ. وليس المراد بها اليمين كما توهّمه بعض المفسّرين فلا نطيل بردّه فقد ردّه اللفظ. وجملة {إنَّا إذاً لمن الآثمين} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّها جواب سؤال مقدّر بدليل وجود {إذنْ}، فإنّه حرفُ جواب: استشعر الشاهدان سؤالاً من الذي حَلفا له بقولهما: لا نشتري به ثمناً ولا نكتم شهادة الله، يقول في نفسه: لعلّكما لا تَبِرّان بما أقسمتما عليه، فأجابا: إنّا إذَنْ لَمِن الآثمين، أي إنّا نَعلم تبعة عدم البرّ بما أقسمنا عليه أن نكون من الآثمين، أي ولا نرضى بذلك. والآثمُ: مرتكب الإثم. وقد علم أنّ الإثم هو الحنث بوقوع الجملة استئنافاً مع « إذن» الدالّة على جواب كلام يختلج في نفس أولياء الميّت...
الحق – سبحانه – كما ساس ودبر حياة المؤمن الدنيوية، دبر وتول – جل شأنه – حياته الأخروية ليلفته إلى أنه يجب عليه ألا ينظر إلى حياته العاجلة فقط ولكن عليه أن يدبر أمر نفسه فيما يستقبله من أمر الحياة الآخرة، ففي لحظة مواجهة الموت عليه ألا ينسى الوصية إن كان مدينا لأحد أو كان له دين عند أحد. وكذلك إن سافر الإنسان ضربا في الأرض فعليه أن يوصي حتى لا يضيع على ورثته حقا لهم، أو يسدد ما عليه من دين ليبرئ ذمته، وأن يشهد على وصيته اثنين من المسلمين، أما إذا كان الإنسان يصاحب في السفر أناسا غير مسلمين فعليه أيضا أن يشهدهم على الوصية، ولم يترك الحق لنا في هذا الأمر أي عذر، بل لا بد من شهادة اثنين. والشهادة هي الأمر المشهود في الحاضر،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في أجواء الشهادة على الوصية وهذا نداءٌ للمؤمنين حول الشهادة على الوصيَّة، فقد أراد الله للحقوق الّتي بين النَّاس أن لا تضيع ولا تخضع للصُّدف في طبيعة وسائل الإثبات، فجعل الشهادة وسيلةً لتأكيد الحقّ عندما تتحرّك النوازع الذاتية لتدفع الإنسان إلى الانحراف والوقوع في قبضة الهوى والطمع، فأراد أن يحمي الإنسان من نفسه، فلا يستسلم لهواه، ويحمي الحقّ من العدوان، فلا يسقط أمام حالات الخيانة، فإذا عرف مَنْ عليه الحقّ أنَّ هناك شهوداً، كان ذلك ضمانة له من الانحراف، وإذا عرف مَنْ له الحق أنَّ له الحجّة في حقّهِ، كان ذلك موجباً للاطمئنان والثقة بالمستقبل. وقد ركّزت هذه الآيات على حالةٍ خاصة من جملة الحالات التي تفرض الإتيان بالشهود، وهي الحالة الّتي يصبح فيها الإنسان في مواجهة استحقاق الموت،...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من أهم المسائل التي يؤكّدها الإِسلام هي مسألة حفظ حقوق الناس وأموالهم وتحقيق العدالة الاجتماعية هذه الآيات تبيّن جانباً من التشريعات الخاصّة بذلك، فلكيلا تغمط حقوق ورثة الميت وأيتامه الصغار، يصدر الأمر للمؤمنين قائلا: (يا أيّها الذين آمنوا شهادة بينكم إِذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل). المقصود بالعدل هنا العدالة، وهي تجنب الذنوب الكبيرة ونظائرها، ولكن يحتمل من معنى الآية أيضاً أنّ يكون المقصود من العدالة: الأمانة في الشؤون المالية، إِلاّ إِذا ثبت بدلائل أُخرى ضرورة توفر شروط أُخرى في الشاهد...
وعلى الرغم من عدم وجود ما يفهم من الآية أنّ اختيار الوصي والشاهد من غير المسلمين مشروط بعدم وجودهما من المسلمين، فهو واضح، لأنّ الاستعاضة تكون عندما لا تجد من المسلمين من توصيه، كما أنّ ذكر قيد السفر يفيد هذا المعنى أيضاً، وعلى الرغم من أنّ (أو) تفيد «التخيير» عادة، إِلاّ أنّها هنا وفي كثير من المواضع الأُخرى تفيد «الترتيب»، أي اخترهما أوّلا من المسلمين، فإن لم تجد، فاخترهما من غير المسلمين. وغني عن القول أنّ المقصود من غير المسلمين هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى طبعاً، لأنّ الإِسلام لم يقم وزناً في أية مناسبة للمشركين وعبدة الأصنام مطلقاً...
ولابدّ أن نلاحظ ما يلي: أوّلا: إِنّ هذه التفاصيل في أداء الشهادة إِنّما تكون عند الشك والتردد. وثانياً: لا فرق بين المسلم وغير المسلم في هذا كما يبدو من ظاهر الآية، وإِنّما هو في الحقيقة وسيلة لإِحكام أمر حفظ الأموال في إِطار الاتهام، وليس في هذا ما يناقض القبول بشهادة عدلين بغير تحليف، لأنّ هذا يكون عند انتفاء الشك في الشاهدين، لذلك فلا هو ينسخ الآية ولا هو مختص بغير المسلمين (تأمل بدقّة). ثالثاً: الصّلاة بالنسبة لغير المسلمين يقصد بها صلاتهم التي يتوجهون فيها إلى الله ويخشونه، أمّا بالنسبة للمسلمين فيقول بعض: إِنّها خاصّة بصلاة العصر، وفي بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) إِشارة إلى ذلك، إِلاّ أنّ ظاهر الآية هو الإِطلاق ويشمل الصلوات جميعها، ولعل ذكر صلاة العصر في رواياتنا يعود إلى جانبه الاستحبابي، إِذ أنّ الناس يشتركون أكثر في صلاة العصر، ثمّ ان وقت العصر كان الوقت المألوف للتحكيم والقضاء بين المسلمين. رابعاً: اختيار وقت الصّلاة للشهادة يعود إلى أنّ المرء في هذا الوقت يعيش آثار الصّلاة التي (تنهى عن الفحشاء والمنكر) وأنّه في هذا الظرف الزماني والمكاني يكون أقرب إلى الحقّ.