{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ }
كان النبي صلى الله عليه وسلم من كمال حرصه على هداية الخلق يبذل لهم غاية ما يقدر عليه من النصيحة ، ويتلطف بهدايتهم ، ويحزن إذا لم ينقادوا لأمر الله ، فكان من الكفار ، من تمرد عن أمر الله ، واستكبر على رسل الله ، وترك الهدى ، عمدا وعدوانا ، فمنهم : اليهود والنصارى ، أهل الكتاب الأول ، الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم عن يقين ، لا عن جهل ، فلهذا أخبره الله تعالى أنك لو { أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ } أي : بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو إليه ، { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } أي : ما تبعوك ، لأن اتباع القبلة ، دليل على اتباعه ، ولأن السبب هو شأن القبلة ، وإنما كان الأمر كذلك ، لأنهم معاندون ، عرفوا الحق وتركوه ، فالآيات إنما تفيد وينتفع بها من يتطلب الحق ، وهو مشتبه عليه ، فتوضح له الآيات البينات ، وأما من جزم بعدم اتباع الحق ، فلا حيلة فيه .
وأيضا فإن اختلافهم فيما بينهم ، حاصل ، وبعضهم ، غير تابع قبلة بعض ، فليس بغريب منهم مع ذلك أن لا يتبعوا قبلتك يا محمد ، وهم الأعداء حقيقة الحسدة ، وقوله : { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } أبلغ من قوله : " وَلَا تَتَّبِعْ " لأن ذلك يتضمن أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بمخالفتهم ، فلا يمكن وقوع ذلك منه ، ولم يقل : " ولو أتوا بكل آية " لأنهم لا دليل لهم على قولهم .
وكذلك إذا تبين الحق بأدلته اليقينية ، لم يلزم الإتيان بأجوبة الشبه الواردة عليه ، لأنها لا حد لها ، ولأنه يعلم بطلانها ، للعلم بأن كل ما نافى الحق الواضح ، فهو باطل ، فيكون حل الشبه من باب التبرع .
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ } إنما قال : " أهواءهم " ولم يقل " دينهم " لأن ما هم عليه مجرد أهوية{[104]} نفس ، حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين ، ومن ترك الدين ، اتبع الهوى ولا محالة ، قال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }
{ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } بأنك على الحق ، وهم على الباطل ، { إِنَّكَ إِذًا } أي : إن اتبعتهم ، فهذا احتراز ، لئلا تنفصل هذه الجملة عما قبلها ، ولو في الأفهام ، { لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : داخل فيهم ، ومندرج في جملتهم ، وأي ظلم أعظم ، من ظلم ، من علم الحق والباطل ، فآثر الباطل على الحق ، وهذا ، وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم ، فإن أمته داخلة في ذلك ، وأيضا ، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالما مع علو مرتبته ، وكثرة حسناته{[105]} فغيره من باب أولى وأحرى .
( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) . .
فهم في عناد يقوده الهوى ، وتؤرثه المصلحة ، ويحدوه الغرض . . وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه ، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة . . وهذا وهم . . إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه ! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم ؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر ، بشتى الطرق وشتى الوسائل . عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة . يحاربونه وجها لوجه ، ويحاربونه من وراء ستار . ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار . . وهم دائما عند قول الله تعالى لنبيه الكريم : ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) .
وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الاعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له ، يقرر حقيقة شأن النبي [ ص ] وموقفه الطبيعي :
ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلا . واستخدام الجملة الأسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول [ ص ] تجاه هذا الأمر . وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه . فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه ؛ ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها ؛ ولن تتبع منهجا إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة . . هذا شأنها ما دامت مسلمة ؛ فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء . . إنما هي دعوى . .
ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض ؛ فهم ليسوا على وفاق ، لأن الأهواء تفرقهم :
( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ) . .
والعداء بين اليهود والنصارى ، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة ، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء .
وما كان للنبي [ ص ] وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب ، وقد علم الحق في الأمر ، أن يتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم :
( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) . .
ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم ، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود . .
إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه ؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه . ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم ، وبهذه المواجهة والتحذير . . ( إنك إذا لمن الظالمين ) . .
إن الطريق واضح ، والصراط مستقيم . . فإما العلم الذي جاء من عند الله . وإما الهوى في كل ما عداه . وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله . وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب . وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد .
وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين ، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة ، تستدعي هذه الشدة في التحذير ، وهذا الجزم في التعبير .
يخبر تعالى{[2938]} عن كُفر اليهود وعنادهم ، ومخالفتهم ما{[2939]} يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به ، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم{[2940]} كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ولهذا قال هاهنا : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } .
وقوله { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ] } إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به ، وأنه كما هم مُسْتَمْسكون{[2941]} بآرائهم وأهوائهم ، فهو أيضًا مستمسك{[2942]} بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، وما كان{[2943]} متوجها إلى بيت المقدس ؛ لأنها{[2944]} قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى{[2945]} . ثم حذر [ الله ]{[2946]} تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى ؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره . ولهذا قال مخاطبا للرسول ، والمراد الأمة : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 145 ] .