تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } أي : خرجوا من المسجد ، حرصًا على ذلك اللهو ، و [ تلك ] التجارة ، وتركوا الخير ، { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } تخطب الناس ، وذلك [ في ] يوم جمعة ، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، إذ قدم المدينة ، عير تحمل تجارة ، فلما سمع الناس بها ، وهم في المسجد ، انفضوا من المسجد ، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالًا لما لا ينبغي أن يستعجل له ، وترك أدب ، { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } من الأجر والثواب ، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة الله .

{ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } التي ، وإن حصل منها بعض المقاصد ، فإن ذلك قليل منغص ، مفوت لخير الآخرة ، وليس الصبر على طاعة الله مفوتًا للرزق ، فإن الله خير الرازقين ، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب .

وفي هذه الآيات فوائد عديدة :

منها : أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين ، يجب عليهم السعي لها ، والمبادرة والاهتمام بشأنها .

ومنها : أن الخطبتين يوم الجمعة ، فريضتان{[1099]}  يجب حضورهما ، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين ، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له .

ومنها : مشروعية النداء ليوم الجمعة ، والأمر به .

ومنها : النهى عن البيع والشراء ، بعد نداء الجمعة ، وتحريم ذلك ، وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه ، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا في الأصل ، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب ، فإنه لا يجوز في تلك الحال .

ومنها : الأمر بحضور الخطبتين{[1100]}  يوم الجمعة ، وذم من لم يحضرهما ، ومن لازم ذلك الإنصات لهما .

ومنها : أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله ، وقت دواعي النفس لحضور اللهو [ والتجارات ] والشهوات ، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات ، وما لمؤثر رضاه على هواه .

تم تفسير سورة الجمعة ، ولله الحمد والثناء{[1101]} .


[1099]:- في ب: فريضة.
[1100]:- كذا في ب، وفي أ: الخطبة.
[1101]:- في ب: بمن الله وعونه والحمد لله رب العالمين.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل : ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين ) . .

عن جابر - رضي الله عنه - قال : " بينا نحن نصلي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذ أقبلت عير تحمل طعاما ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فنزلت : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) . . "

وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة . وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله ( والله خير الرازقين ) . .

وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ . ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق . فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها . وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود ، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة ، وعدم النكوص من منتصف الطريق . والله المستعان

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } أي : على المنبر تخطب . هكذا ذكره غير واحد من التابعين ، منهم : أبو العالية ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وقتادة .

وزعم مقاتل بن حيان : أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم ، وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر إلا القليل منهم . وقد صَحّ بذلك الخبر ، فقال الإمام أحمد :

حدثنا ابن إدريس ، عن حُصَين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : قَدمَت عيرٌ المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا }

أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سالم ، به{[28860]}

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا هُشَيم ، عن حُصَين ، عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عيرٌ إلى المدينة ، فابتدرها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ، لسال بكم الوادي نارًا " ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } وقال : كان في الاثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما{[28861]} .

وفي قوله : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما . وقد رَوَى مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرَة قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما ، يقرأ القرآن ويذكر الناس .

ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يُعلَم وهو : أن هذه القصة قد قيل : إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل : حدثنا محمود بن خالد ، عن الوليد ، أخبرني أبو معاذ بُكَير بن مَعروف ، أنه سمع مُقَاتل بن حَيَّان يقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحيةَ بن خليفة قد قدمَ بتجارة {[28862]} يعني : فانفضوا ، ولم يبق معه إلا نفر يسير .

وقوله : { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } أي : الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة { خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : لمن توكل عليه ، وطلب الرزق في وقته .


[28860]:- (4) المسند (3/313) وصحيح البخاري برقم (4899) وصحيح مسلم برقم (863).
[28861]:- (1) مسند أبي يعلى (3/468).
[28862]:- (2) المراسيل برقم (62).