{ فَرِيقًا } منكم { هَدَى } اللّه ، أي : وفقهم للهداية ، ويسر لهم أسبابها ، وصرف عنهم موانعها . { وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } أي : وجبت عليهم الضلالة بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية .
ف { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً } فحين انسلخوا من ولاية الرحمن ، واستحبوا ولاية الشيطان ، حصل لهم النصيب الوافر من الخذلان ، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران . { وَهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } لأنهم انقلبت عليهم الحقائق ، فظنوا الباطل حقا والحق باطلا ، وفي هذه الآيات دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة ، حيث ذكر تعالى أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول ، وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص ، وفيه دليل على أن الهداية بفضل اللّه ومَنِّه ، وأن الضلالة بخذلانه للعبد ، إذا تولى - بجهله وظلمه - الشيطانَ ، وتسبب لنفسه بالضلال ، وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضالٌّ ، أنه لا عذر له ، لأنه متمكن من الهدى ، وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى .
وقد بدأوا الرحلة فريقين : آدم وزوجه . والشيطان وقبيله . . وكذلك سيعودون . . الطائعون سيعودون فريقاً مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله . . والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله ، يملأ الله منهم جهنم ، بولائهم لإبليس وولايته لهم . وهم يحسبون أنهم مهتدون .
لقد هدى الله من جعل ولايته لله . وأضل من جعل ولايته للشيطان . . وهاهم أولاء عائدين فريقين :
( فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة . إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) . ها هم أولاء عائدين . في لمحة تضم طرفي الرحلة ! على طريقة القرآن ، التي يتعذر أن تتحقق في غير أسلوب القرآن !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىَ وَفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ إِنّهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبا على الله : ما أمر ربي بما تقولون ، بل أمَرَ رَبي بالقِسْطِ يعني : بالعدل . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ أمَرَ رَبي بالقِسْطِ بالعدل .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قُلْ أمَرَ رَبي بالقِسْطِ والقسط : العدل .
وأما قوله : وأقِيمُوا وَجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم : معناه : وجهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ إلى الكعبة حيثما صليتم في الكنيسة وغيرها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَأقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : إذا صليتم فاستقبلوا الكعبة في كنائسكم وغيرها .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ هو المسجد : الكعبة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا خالد بن عبد الرحمن ، عن عمر بن ذرّ ، عن مجاهد في قوله : وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : الكعبة حيثما كنت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : أقيموها للقبلة هذه القبلة التي أمركم الله بها .
وقال آخرون : بل عني بذلك : واجعلوا سجودكم لله خالصا دون ما سواه من الاَلهة والأنداد . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : في الإخلاص أن لا تدعوا غيره ، وأن تخلصوا له الدين .
قال أبو جعفر : وأولى هذين التأويلين بتأويل الاَية ما قاله الربيع ، وهو أن القوم أمروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم ، لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام ، وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصا ، لا مُكاءً ولا تصدية .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية ، لأن الله إنما خاطب بهذه الاَية قوما من مشركي العرب لم يكونوا أهل كنائس وبِيَع ، وإنما كانت الكنائس والبيع لأهل الكتابين ، فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بيعة : وجّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بيعة .
وأما قوله : وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فإنه يقول : واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة ، لا تخلطوا ذلك بشرك ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكا . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَادْعُوهُ مُخْلِصيِنَ لَه الدّين قال : أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل ، ثم توجهون إلى البيت الحرام .
القول في تأويل قوله تعالى : كَما بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَريقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمْ الضّلالَةِ .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : كَما بَدأكُمْ تَعُودُونَ فقال بعضهم : تأويله : كما بدأكم أشقياء وسعداء ، كذلك تُبعثون يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ قال : إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ، كما قال جلّ ثناؤه : هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، قال : حدثنا أصحابنا ، عن ابن عباس : كمَا بَدأكُم تَعُودُونَ قال : يبعث المؤمن مؤمنا ، والكافر كافرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن الضريس ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن رجل ، عن جابر ، قال : يُبعثون على ما كانوا عليه ، المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : عادوا إلى علمه فيهم ، ألم تسمع إلى قول الله فيهم : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ ؟ ألم تسمع قوله : فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ ؟ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : كمَا بَدأكُمْ تَعُودون قال : رُدّوا إلى علمه فيهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو همام الأهوازي ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، في قوله : كمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ قال : من ابتدأ الله خلقه على الشّقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ثم صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه . ومن ابتدىء خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء ، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدىء عليه خلقهم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن وفاء بن إياس أبي يزيد ، عن مجاهد : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : يبعث المسلم مسلما ، والكافر كافرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي يزيد ، عن مجاهد : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : يبعث المسلم مسلما ، والكافر كافرا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : كمَا بَداكُمْ تَعُودُونَ قال : كما كتب عليكم تكونون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهُمْ الضّلالَةُ يقول : كما بدأكم تعودون كما خلقناكم ، فريق مهتدون وفريق ضالّ ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتم .
حدثنا ابن بشار ، قل : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن سفيان ، عن جابر ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «تُبْعَثُ كُلّ نَفْسٍ على ما كانَتْ عَلَيْهِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو داود الحفري ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : كما كُتبَ عليكم تكونون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : يبعث المؤمن مؤمنا ، والكافر كافرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ شقيّا وسعيدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : كما خلقكم ولم تكونوا شيئا تعودون بعد الفناء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن عوف ، عن الحسن : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : كما بدأكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم ، كذلك يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئا ، ثم ذهبوا ثم يعيدهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى يقول : كما خلقناكم أوّل مرّة كذلك تعودون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ يحييكم بعد موتكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كمَا بَدأكُمْ تَعودُونَ قال : كما خلقهم أوّلاً ، كذلك يعيدهم آخرا .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، القول الذي قاله من قال معناه : كما بدأكم الله خلقا بعد أن لم تكونوا شيئا تعودون بعد فنائكم خلقا مثله ، يحشركم إلى يوم القيامة لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِمَ بما فِي هذه الاَية قوما مشركين أهل جاهلية لا يؤمنون بالمعاد ولا يصدّقون بالقيامة ، فأمره أن يدعوهم إلى الإقرار بأن الله باعثهم يوم القيامة ومُثيب من أطاعه ومعاقب من عصاه ، فقال له : قل لهم : أمر ربي بالقسط ، وأن أقيموا وجوهكم عند كلّ مسجد ، وأن ادعوه مخلصين له الدين ، وأن أقرّوا بأن كما بدأكم تعودون فترك ذكر «وأن أقرّوا بأن » كما ترك ذكر «أن » مع «أقيموا » ، إذ كان فيما ذكر دلالة على ما حذف منه . وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لأن يؤمر بدعاء من كان جاحدا النشور بعد الممات إلى الإقرار بالصفة التي عليها يُنشر من نُشر ، وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك من كان بالبعث مصدّقا ، فأما من كان له جاحدا فإنما يُدعى إلى الإقرار به ثم يُعَرّف كيف شرائط البعث . على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي .
حَدثنَاه محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «يُحْشَر النّاسُ عُرَاةً غُرْلاً ، وأوّل مَن يُكْسَى إبْرَاهِيمُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ » ثمّ قَرأ : كمَا بَدأْنا أولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلينَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المُغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة ، فقال : «يا أيّها النّاسُ إنّكُمْ تُحْشَرُونَ إلى اللّهِ حُفاةً غُرْلاً كمَا بَدأنْا أولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ » .
ما يبين صحة القول الذي قلنا في ذلك ، من أن معناه : أن الخلق يعودون إلى الله يوم القيامة خلقا أحياء كما بدأهم في الدنيا خلقا أحياء ، يقال منه : بدأ الله الخلق يَبْدَؤهم وأبدأهم يُبْدِئهم إبداء بمعنى خلقهم ، لغتان فصيحتان . ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه وجرى به فيهم قضاؤه ، فقال : هدى الله منهم فريقا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون ، وحقّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد ، باتخاذهم الشيطان من دون الله وليّا .
وإذا كان التأويل هذا ، كان الفريق الأوّل منصوبا بإعمال هَدَى فيه ، والفريق الثاني بوقوع قوله حقّ على عائد ذكره في عليهم ، كما قال جلّ ثناؤه : يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمِينَ أعَدّ لَهُمْ عَذَابا ألِيما . ومن وجّه تأويل ذلك إلى أنه كما بدأكم في الدنيا صنفين : كافرا ، ومؤمنا ، كذلك تعودون في الاَخرة فريقين : فَرِيقا هَدَى وَفَريقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلالَةُ نصب «فريقا » الأوّل بقوله : «تعودون » ، وجعل الثاني عطفا عليه . وقد بيّنا الصواب عندنا من القول فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّهُمُ اتّخذُوا الشّياطِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أنّهُمْ مُهْتَدُونَ .
يقول تعالى ذكره : إن الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة ، باتخاذهم الشياطين نُصَراء من دون الله وظهراء ، جهلاً منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحقّ ، وأن الصواب ما أتوه وركبوا . وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذّب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادا منه لربه فيها ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنه هاد وفريق الهدى فرقٌ ، وقد فرّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الاَية .
و { فريقاً } نصب ب { هدى } ، والثاني منصوب بفعل تقديره : وعذب فريقاً أو أضل «فريقاً حق عليهم » ، وقال ابن عباس أيضاً وأبو العالية ومحمد بن كعب ومجاهد أيضاً وسعيد بن جبير والسدي وجابر بن عبد الله وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم : المراد بقوله { كما بدأكم تعودون } الإعلام بأن أهل الشقاء والكفر في الدنيا الذين كتب عليهم هم أهل الشقاء في الآخرة وأهل السعادة والإيمان الذين كتب لهم في الدنيا هم أهلها في الآخرة لا يتبدل من الأمور التي أحكمها ودبرها وأنفذها شيء ، فالوقف في هذا التأويل في قوله { تعودون } غير حسن ، و { فريقاً } على هذا التأويل نصب على الحال والثاني عطف على الأول ، وفي قراءة أبي بن كعب «تعودون فريقين فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة » ، والضمير في { إنهم } عائد على الفريق الذين حق عليهم الضلالة ، و { أولياء } معناه : أنصاراً وأصحاباً وإخواناً ، { ويحسبون } معناه يظنون يقال : حسبت أحسب حسباناً وحسباً ومحسبة ، قال الطبري : وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أن الله تعالى لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب ، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر «أنهم اتخذوا » بفتح الألف .
{ فريقاً } الأوّلُ والثّاني منصوبان على الحال : إمَّا من الضّمير المرفوع في { تعودون } ، أي ترجعون إلى الله فريقين ، فاكتُفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلِهما بالتّفصيل الدّال على الإجمال تعجيلاً بذكر التّفصيل لأنّ المقام مقام ترغيب وترهيب ، ومعنى { فريقاً هدى } : أنّ فريقاً هداهم الله في الدّنيا وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة ، أي في الدّنيا ، كما دلّ عليه التّعليل بقوله : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } ، وإمّا من الضّمير المستتر في قوله : { مخلصين } أي ادْعُوه مخلصين حال كونكم فريقين : فريقاً هداه الله للإخلاص ونبذِ الشّرك ، وفريقاً دام على الضّلال ولازم الشّرك .
وجملة : { هدى } في موضع الصّفة لفريقاً الأوّل ، وقد حذف الرّابط المنصوب : أي هداكم الله ، وجملة : { حق عليهم الضلالة } صفة { فريقاً } الثّاني .
وهذا كلّه إنذار من الوقوع في الضّلالة ، وتحذير من اتّباع الشّيطان ، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى ، كما دلّ عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله : { هدى } فيعلم السّامعون أنّهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال : { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة : 22 ] وأنّ الفريق الخاسر هم الذين حَقّت عليه الضّلالة واتّخذوا الشّياطين أولياء من دون الله كما قال : { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } [ المجادلة : 19 ] . وتقديم { فريقاً } الأوّل والثّاني على عامليهما للاهتمام بالتّفصيل .
ومعنى : { حق عليهم الضلالة } ثبتت لهم الضّلالة ولزموها . ولم يقلعوا عنها ، وذلك أنّ المخاطبين كانوا مشركين كلّهم ، فلمّا أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين : فريقاً هداه الله إلى التّوحيد ، وفريقاً لازم الشّرك والضّلالة ، فلم يطرأ عليهم حال جديد .
وبذلك يظهر حسن موقع لفظ : { حق } هنا دون أن يقال أضلّه الله ، لأنّ ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم ، كما قال تعالى في نظيره : { فمنهم من هدى اللَّه ومنهم من حقت عيله الضلالة } [ النحل : 36 ] ثمّ قال { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } [ النحل : 37 ] ، فليس تغيير الأسلوب بين : { فريقاً هدى } وبين { وفريقاً حق عليهم الضلالة } تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله ، كما توهمه صاحب « الكشاف » ، لأنّه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة ، ولكنّ اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال .
وجُرد فعل حقّ عن علامة التّأنيث لأنّ فاعله غير حقيقي التّأنيث ، وقد أظهرت علامة التّأنيث في نظيره في قوله تعالى : { ومنهم من حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ] .
وقوله : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } استئناف مراد به التّعليل لجملة { حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ] ، وهذا شأن ( إنّ ) إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للرّبط والتّعليل وتغني غَنَاء الفاء ، كما تقدّم غيرَ مرّة .
والمعنى أنّ هذا الفريق ، الذي حَقت عليهم الضّلالة ، لمّا سمعوا الدّعوة إلى التّوحيد والإسلام ، لم يطلبوا النّجاة ولم يتفكّروا في ضلال الشّرك البيِّن ، ولكنّهم استوحوا شياطينهم ، وطابت نفوسهم بوسوستهم ، وائتمروا بأمرهم ، واتّخذوهم أولياء ، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتّخاذهم الشّياطين أولياء من دون الله .
وعطف جملة : { ويحسبون } على جملة : { اتخذوا } فكان ضلالهم ضلالاً مركباً ، إذ هم قد ضلّوا في الائتمار بأمر أيمّة الكفر وألياء الشّياطين ، ولمّا سمعوا داعي الهُدى لم يتفكّروا ، وأهملوا النّظر ، لأنّهم يحسبون أنّهم مهتدون لا يتطرق إليهم شكّ في أنّهم مهتدون ، فلذلك لم تخطر ببَالهم الحاجة إلى النّظر في صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم والحسبان الظنّ ، وهو هنا ظن مجرّد عن دليل ، وذلك أغلب ما يراد بالظنّ وما يرادفه في القرآن .
وعطف هذه الجملة على التي قبلها ، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقّت عليهم الضّلالة ، لقصد الدّلالة على أنّ ضلالهم حاصل في كلّ واحد من الخبرين ، فولاية الشّياطين ضلالة ، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضاً ، سواء كان ذلك كلّه عن خطأ أو عن عناد ، إذ لا عذر للضّال في ضلاله بالخطأ ، لأنّ الله نصب الأدلّة على الحقّ وعلى التّمييز بين الحقّ والباطل .