{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي : تواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد .
{ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي : ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا ، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا .
وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق ، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية .
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال ؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان :
( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) . . والكبر له جلاله ، وضعف الكبر له إيحاؤه ؛ وكلمة( عندك ) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق ، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . ( وقل لهما قولا كريما ) وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام . . ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) وهنا يشف التعبير ويلطف ، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا ، ولا يرفض أمرا . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام والاسستسلام . ( وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) فهي الذكرى الحانية . ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان ، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان . وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ، ورعاية الله أشمل ، وجناب الله أرحب . وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء .
قال الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن بريدة عن أبيه : أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي [ ص ] هل أديت حقها ? قال : لا . ولا بزفرة واحدة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وكن لهما ذليلاً رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن لله معصية ، ولا تخلفهما فيما أحبّا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : لا تمتنع من شيء يُحبانه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعي ، قال : سمعت هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَاخْفِض لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحبّاه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : لا تمتنع من شيء أحباه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : هو أن لا تمتنع من شيء يريدانه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المقرىء أبو عبد الرحمن ، عن حرملة بن عمران ، عن أبي الهداج ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : ما قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : ألم تر إلى قول العبد المذنب للسيد الفظّ الغليظ .
والذّلّ بضم الذال والذّلّة مصدران من الذليل ، وذلك أن يتذلل ، وليس بذليل في الخلقة من قول القائل : قد ذَلَلت لك أذلّ ذلة وذلاً ، وذلك نظير القلّ والقلة ، إذا أسقطت الهاء ضمت الذال من الذّلّ ، والقاف من القُلّ ، وإذا أثبتت الهاء كُسِرت الذال من الذّلة ، والقاف من القِلّة ، لما قال الأعشى :
*** وَمَا كُنْتُ قُلاّ قبلَ ذلكَ أزْيَبَا ***
يريد : القلة . وأما الذّل بكسر الذال وإسقاط الهاء فإنه مصدر من الذّلول من قولهم : دابة ذَلول : بينة الذلّ ، وذلك إذا كانت لينة غير صعبة . ومنه قول الله جلّ ثناؤه : هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً يُجمع ذلك ذُلُلاً ، كما قال جلّ ثناؤه : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكَ ذُلُلاً . وكان مجاهد يتأوّل ذلك أنه لا يتوعّر عليها مكان سلكته .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق والشام وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ بضمّ الذال على أنه مصدر من الذليل . وقرأ ذلك سعيد بن جبير وعاصم الجَحْدَرِيّ : «جنَاحَ الذّلّ » بكسر الذال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا بهز بن أسد ، قال : حدثنا أبو عَوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ : «وَاخْفِضْ لَهُما جُناحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : كن لهما ذليلاً ، ولا تكن لهما ذلولاً .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : أخبرني عمر بن شقيق ، قال : سمعت عاصما الجحدري يقرأ : «وَاخْفِضْ لَهُما جنَاجَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ » قال : كن لهما ذليلاً ، ولا تكن لهما ذَلولاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عمر بن شقيق ، عن عاصم ، مثله .
قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل الذي تأوّله عاصم كان ينبغي أن تكون قراءته بضم الذال لا بكسرها .
حدثنا نصر وابن بشار وحُدثت عن الفراء ، قال : ثني هشيم ، عن أبي بشر جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، أنه قرأ : «وَاخفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ » . قال الفرّاء : وأخبرني الحكيم بن ظهير ، عن عاصم بن أبي النّجود ، أنه قرأها الذّلّ أيضا ، فسألت أبا بكر فقال : الذّلّ قرأها عاصم .
وأما قوله : وَقُلْ رَبّ ارْحمْهُما كمَا رَبّيَانِي صَغِيرا فإنه يقول : ادع الله لوالديك بالرحمة ، وقل ربّ ارحمهما ، وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك ، كما تعطّفا عليّ في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا ، حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُلْ رَبّ ارْحَمْهُما كمَا رَبّيانِي صَغِيرا هكذا عُلّمتم ، وبهذا أمرتم ، خذوا تعليم الله وأدبه .
ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو مادّ يديه رافع صوته يقول : «مَنْ أدْرَكَ وَالِدَيهِ أوْ أحَدَهُما ثُمّ دَخَلَ النّارَ بَعْدَ ذلكَ فَأبْعَدَهُ اللّهُ وأسْحَقَهُ » . ولكن كانوا يرون أنه من بَرّ والديه ، وكان فيه أدنى تُقي ، فإن ذلك مُبْلِغه جسيم الخير . وقال جماعة من أهل العلم : إن قول الله جلّ ثناؤه : وَقُل رَبّ ارحَمْهُما كمَا رَبّيانِي صَغِيرا منسوخ بقوله : ما كانَ للنّبِيّ والّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَو كانُوا أُولي قُربَى من بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُم أنّهُم أصْحابُ الجَحِيمِ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقُل رَبّ ارحَمْهُما كمَا رَبّيانِي صَغِيرا ثم أنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا : ما كانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَو كانُوا أُولي قُربَى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، قال في سورة بني إسرائيل إمّا يَبْلُغانّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أو كِلاهُما . . . إلى قوله وَقُل رَبّ ارْحَمْهُما كمَا رَبّيانِي صَغِيرا فنسختها الاَية التي في براءة ما كانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولي قُرْبَى . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس وَقُلْ رَبّ ارْحَمْهُما . . . الاَية ، قال : نسختها الاَية التي في براءة ما كانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكينَ . . . الاَية .
وقد تحتمل هذه الاَية أن تكون وإن كان ظاهرها عامّا في كلّ الاَباء بغير معنى النسخ ، بأن يكون تأويلها على الخصوص ، فيكون معنى الكلام : وقل ربّ ارحمهما إذا كانا مؤمنين ، كما رَبياني صغيرا ، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء . وعَنَى بقول ربياني : نَمّيَاني .
{ واخفض لهما جناح الذّل } تذلل لهما وتواضع فيهما ، وجعل للذل جناحا كما جعل لبيد في قوله :
وغداة ريحٍ قد كشفت وقرة *** إذ أصبحت بيد الشمال زمامُها
للشمال يداً أو للقرة زماماً ، وأمره بخفضه مبالغة أو أراد جناحه كقوله تعالى : { واخفض جناحك للمؤمنين } . وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة كما أضيف حاتم إلى الجود ، والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل . وقرئ " الذل " بالكسر وهو الانقياد والنعت منه ذلول . { من الرحمة } من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما بالأمس . { وقل ربّ ارحمهما } وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية ، ولا تكتف برحمتك الفانية وان كانا كافرين لان من الرحمة أن يديهما : { كما ربّياني صغيرا } رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين . روي : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما . قال : لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما ) .
وقوله { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث{[7526]} لهما نفسك وخلقك ، وبولغ بذكر { الذل } هنا ولم يذكر في قوله { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }{[7527]} وذلك بحسب عظم الحق هنا ، وقرأ الجمهور «الذُّل » بضم الذال ، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير «الذِل » بكسر الذال ، ورويت عن عاصم بن أبي النجود ، و «الذل » في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول{[7528]} ، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
«أبعده الله وأسحقه » قالوا من يا رسول الله ؟ قال : «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له »{[7529]} وقوله { من الرحمة } ، { من } هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً ، ويصح أن يكون لابتداء الغاية ، ثم أمر الله عبادة بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقاً لهما وحناناً عليهما ، وهذا كله في الأبوين المؤمنين ، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى ، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ ، وليس هذا موضع نسخ .