ولما بين هذه المخلوقات العظيمة قال : { فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : اسأل منكري خلقهم بعد موتهم . { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا } أي : إيجادهم بعد موتهم ، أشد خلقا وأشق ؟ . { أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } من [ هذه ] المخلوقات ؟ فلا بد أن يقروا أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس .
فيلزمهم إذا الإقرار بالبعث ، بل لو رجعوا إلى أنفسهم وفكروا فيها ، لعلموا أن ابتداء خلقهم من طين لازب ، أصعب عند الفكر من إنشائهم بعد موتهم ، ولهذا قال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ } أي : قوي شديد كقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ }
وبعد ذكر الملائكة . وذكر السماوات والأرض وما بينهما . وذكر الكواكب التي تزين السماء الدنيا . وذكر الشياطين المردة والقذائف التي تلاحقها . . يكلف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يسألهم أهم أشد خلقاً أم هذه الخلائق ? وإذا كانت هذه الخلائق أشد وأقوى ففيم يدهشون لقضية البعث ويسخرون منها ، ويستبعدون وقوعها ، وهي لا تقاس إلى خلق تلك الخلائق الكبرى :
فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا ? إنا خلقناهم من طين لازب . بل عجبت ويسخرون . وإذا ذكروا لا يذكرون . وإذا رأوا آية يستسخرون : وقالوا : إن هذا إلا سحر مبين . أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? .
فاستفتهم واسألهم إذا كانت الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والشياطين والكواكب والشهب كلها من خلق الله . فهل خلقهم هم أشد وأصعب من خلق هذه الأكوان والخلائق ?
ولا ينتظر منهم جواباُ ، فالأمر ظاهر ؛ إنما هو سؤال الاستنكار والتعجيب من حالهم العجيب . وغفلتهم عما حولهم ، والسخرية من تقديرهم للأمور . ومن ثم يعرض عليهم مادة خلقهم الأولى . وهي طين رخو لزج من بعض هذه الأرض ، التي هي إحدى تلك الخلائق :
( إنا خلقناهم من طين لازب ) . .
فهم قطعاً ليسوا أشد خلقاً من تلك الخلائق ! وموقفهم إذن عجيب . وهم يسخرون من آيات الله ، ومن وعده لهم بالبعث والحياة . وسخريتهم هذه تثير العجب في نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهم في موقفهم سادرون :
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَم مّنْ خَلَقْنَآ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاّزِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاستفت يا محمد هؤلا المشركين الذي يُنكرون البعث بعد الممات والنشور بعد البلاء : يقول : فسَلْهم : أهم أشدّ خلقا ؟ يقول : أخلقُهم أشدّ ؟ أم يخلق من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسموات والأرض ؟ .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : «أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ خَلَقْنا ؟ قال : السموات والأرض والجبال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك أنه قرأ : «أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » ؟ . وفي قراءة عبد الله بن مسعود «عَدَدْنا » يقول : رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبّ المَشارِقِ يقول : أهم أشدّ خلقا ، أم السموات والأرض ؟ يقول : السموات والأرض أشدّ خلقا منهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة «فاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أشَدّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنا » من خَلْق السموات والأرض ، قال الله : لَخَلَقُ السّمَواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ . . . الاَية .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أشَدّ خَلْقا قال يعني المشركين ، سلهم أهم أشدّ خلقا أمْ مَنْ خَلَقْنا .
وقوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يقول : إنا خلقناهم من طين لاصق . وإنما وصفه جلّ ثناؤه باللّزوب ، لأنه تراب مخلوط بماء ، وكذلك خَلْق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء والتراب إذا خُلط بماء صار طينا لازبا ، والعرب تُبدل أحيانا هذه الباء ميما ، فتقول : طين لازم ومنه قول النجاشي الحارثي :
بَنَى اللّؤْمُ بَيْتا فاسْتَقَرّتْ عِمادُهُ *** عليكُمْ بَنِي النّجّارِ ضَرْبَةَ لازِمِ
ومن اللازب قول نابغة بني ذُبيان :
وَلا يَحْسِبُونَ الخَيْرَ لا شَرّ بَعْدهُ *** وَلا يَحْسَبُونَ الشّرّ ضَرْبَةَ لازِبِ
وربما أبدلوا الزاي التي في اللازب تاء ، فيقولون : طين لاتب ، وذُكر أن ذلك في قَيس زعم الفراء أن أبا الجرّاح أنشده :
صُدَاعٌ وَتَوْصِيمُ العِظامِ وَفَتْرَةٌ *** وَغَثْيٌ معَ الإشْراقِ في الجوْفِ لاتِبَ
بمعنى : لازم ، والفعل من لازب : لَزِبَ يَلْزُب ، لزْبا ولُزوبا ، وكذلك من لاتب : لَتَبَ يَلْتُب لُتُوبا . وبنحو الذي قلنا في معنى لازِبِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيري ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : هو الطين الحرّ الجيد اللزج .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : اللازب : الجيد .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : اللازب : اللّزج ، الطيب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ يقول : ملتصق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : من التراب والماء فيصير طينا يَلْزَق .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : اللازب : اللّزِج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ واللازب : الطين الجيد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ واللازب : الذي يَلْزَق باليد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : لازم .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : حدثنا جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله : مِن طِينٍ لازِبٍ قال : هو اللازق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال : اللازب : الذي يلتصق كأنه غِراء ، ذلك اللازب .
{ فاستفتهم } فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم . { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب . و { من } لتغليب العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك . وقراءة من قرأ " أم من عددنا " ، وقوله : { إنا خلقناهم من طين لازب } فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود ، وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء ، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد ، وقد علموا أن الإنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة ، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك ، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولا وقدرته ذاتية لا تتغير .
الاستفتاء نوع من أنواع السؤال وكأنه سؤال من يهتبل بقوله ويجعل حجة ، وكذلك هي أقوالهم في هذا الفصل لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الملائكة والجن والسماوات والأرض والمشارق وغير ذلك هو أشد هؤلاء المخاطبين ، وبأن الضمير في { خلقنا } يراد به ما تقدم ذكره ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما وفي مصحف ابن مسعود «أم من عددنا » يريد من { الصافات } وغيرها { والسماوات والأرض وما بينهما } [ الصافات : 1 ] ، وكذلك قرأ الأعمش «أمَن » مخففة الميم دون { أم }{[9833]} .
ثم أخبر تعالى إخباراً جزماً عن خلقه لآدم الذي هو أبو البشر وأضاف الخلق من الطين إلى جميع الناس من حيث الأب مخلوق منه ، وقال الطبري : خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً ، واللازب أي يلزم ما جاوره ويلصق به ، وهو الصلصال كالفخار ، وعبر ابن عباس وعكرمة عن «اللازب » بالجر الكريم الجيد وحقيقة المعنى ما ذكرناه ، يقال ضربه لازم وضربة لازب بمعنى واحد .