{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي : كال لكل واحد من إخوته ، ومن جملتهم أخوه هذا . { جَعَلَ السِّقَايَةَ } وهو : الإناء الذي يشرب به ، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ } أوعوا متاعهم ، فلما انطلقوا ذاهبين ، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن ، لم يعلم بحقيقة الحال .
ومن ثم جعله السياق أول عمل لأنه كان أول خاطر . وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب ! ويطوي السياق كذلك فترة الضيافة ، وما دار فيها بين يوسف وإخوته ، ليعرض مشهد الرحيل الأخير . فنطلع على تدبير يوسف ليحتفظ بأخيه ، ريثما يتلقى إخوته درسا أو دروسا ضرورية لهم ، وضرورية للناس في كل زمان ومكان :
( فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ؛ ثم أذن مؤذن : أيتها العير إنكم لسارقون . قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ؟ قالوا : نفقد صواع الملك ، ولمن جاء به حمل بعير ، وأنا به زعيم . قالوا : تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ، وما كنا سارقين . قالوا : فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ؟ قالوا : جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، كذلك نجزي الظالمين . فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه - كذلك كدنا ليوسف ، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ، إلا أن يشاء الله ، نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم - قالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم . قال : أنتم شر مكانا . والله أعلم بما تصفون . قالوا : يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ، فخذ أحدنا مكانه ، إنا نراك من المحسنين . قال : معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . إنا إذن لظالمون ) . .
وهو مشهد مثير ، حافل بالحركات والانفعالات والمفاجآت ، كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة وانفعالا ، غير أن هذا صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي الأخاذ .
فمن وراء الستار يدس يوسف كأس الملك - وهي عادة من الذهب - وقيل : إنها كانت تستخدم للشراب ، ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الأخرى في كيل القمح ، لندرته وعزته في تلك المجاعة . يدسها في الرحل المخصص لأخيه ، تنفيذا لتدبير خاص ألهمه الله له وسنعلمه بعد قليل .
ثم ينادي مناد بصوت مرتفع ، في صيغة إعلان عام ، وهم منصرفون :
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَهّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمّ أَذّنَ مُؤَذّنٌ أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ } .
يقول : ولما حمّل يوسف إبل إخوته ما حَملها من الميرة وقضى حاجتهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا جَهّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ يقول : لما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم .
وقوله : جَعَلَ السّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ يقول : جعل الإناء الذي يكيل به الطعام في رحل أخيه . والسقاية : هي المشربة ، وهي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك ويكيل به الطعام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا عبد الواحد ، عن يونس ، عن الحسن أنه كان يقول : الصّواع والسقاية سواء ، هو الإناء الذي يشرب فيه .
قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : السقاية والصّواع شيء واحد ، كان يشرب فيه يوسف .
قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : السقاية الصّواع الذي يشرب فيه يوسف .
حدثنا محمد بن الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : جَعَلَ السّقَايَةَ قال : مَشْرَبة الملك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أخِيهِ وهو إناء الملك الذي كان يشرب فيه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلكِ ولِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وهي السقاية التي كان يشرب فيها الملك يعني مَكّوكه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : جَعَلَ السّقَايَةَ وقوله : صُوَاعَ المَلِكِ قال : هما شيء واحد ، السقاية والصواع شيء واحد يشرب فيه يوسف .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : جَعَلَ السّقايَةَ فِي رَحْلِ أخِيهِ : هو الإناء الذي كان يشرب فيه الملك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أخِيهِ قال : السقاية : هو الصّواع ، وكان كأسا من ذهب فيما يذكرون .
قوله : فِي رَحْلِ أخِيهِ فإنه يعني : في متاع أخيه ابن أمه وأبيه وهو بنيامين ، وكذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فِي رَحْلِ أخِيهِ : أي في متاع أخيه .
وقوله : ثُمّ أذّنَ مُؤَذّنٌ يقول : ثم نادى مناد ، وقيل : أعلم مُعْلِم ، أيّتُها العِيرُ : وهي القافلة فيها الأحمال إنّكُمْ لَسارِقُونَ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : فَلَمّا جَهّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أخِيهِ والأخ لا يشعر ، فلما ارتحلوا أذّن مؤذّن قبل أن ترتحل العير : إنّكُمْ لَسارِقُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم جهزهم بجهازهم ، وأكرمهم وأعطاهم وأوفاهم ، وحمل لهم بعيرا بعيرا ، وحمل لأخيه بعيرا باسمه كما حمل لهم ، ثم أمر بسقاية الملك ، وهو الصواع ، وزعموا أنها كانت من فضة ، فجُعلت في رحل أخيه بنيامين . ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا وأمعنوا من القرية ، أمر بهم فأُدركوا ، فاحتُبِسوا ، ثم نادى مناد : أيّتُها العيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ قفوا وانتهى إليهم رسوله ، فقال لهم فيما يذكرون : ألم نكرم ضيافتكم ، ونوفكم كيلكم ، ونحسن منزلتكم ، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم ، وأدخلناكم علينا في بيوتنا ومنازلنا ؟ أو كما قال لهم ، قالوا : بلى ، وما ذاك ؟ قال : سِقاية الملك فقدناها ، ولا نتهم عليها غيركم . قالوا تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَما كُنّا سارِقِينَ .
وقوله : أيّتُها العِيرُ قد بيّنا فيما مضى معنى العِير ، وهو جمع لا واحد له من لفظه . وحُكي عن مجاهد أن عِير بني يعقوب كانت حَمِيرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : أيّتُها العِيرُ قال : كانت حميرا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني رجل ، عن مجاهد ، في قوله : أيّتُها العِيرُ إنّكُمْ لسَارِقُونَ قال : كانت العِير حميرا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.