{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
أي : ولا يظن الذين يبخلون ، أي : يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله ، من المال والجاه والعلم ، وغير ذلك مما منحهم الله ، وأحسن إليهم به ، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده ، فبخلوا بذلك ، وأمسكوه ، وضنوا به على عباد الله ، وظنوا أنه خير لهم ، بل هو شر لهم ، في دينهم ودنياهم ، وعاجلهم وآجلهم { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } أي : يجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم ، يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح ، " إن البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك ، أنا كنزك " وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك ، هذه الآية .
فهؤلاء حسبوا أن بخلهم نافعهم ، ومجد عليهم ، فانقلب عليهم الأمر ، وصار من أعظم مضارهم ، وسبب عقابهم .
{ ولله ميراث السماوات والأرض } أي : هو تعالى مالك الملك ، وترد جميع الأملاك إلى مالكها ، وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ولا دينار ، ولا غير ذلك من المال .
قال تعالى : { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون } وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب الغائي ، الموجب كل واحد منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله .
أخبر أولا : أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة ، ليس ملكا للعبد ، بل لولا فضل الله عليه وإحسانه ، لم يصل إليه منه شيء ، فمنعه لذلك منع لفضل الله وإحسانه ؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى : { وأحسن كما أحسن الله إليك }
فمن تحقق أن ما بيده ، فضل من الله ، لم يمنع الفضل الذي لا يضره ، بل ينفعه في قلبه وماله ، وزيادة إيمانه ، وحفظه من الآفات .
ثم ذكر ثانيا : أن هذا الذي بيد العباد كلها ترجع إلى الله ، ويرثها تعالى ، وهو خير الوارثين ، فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك .
ثم ذكر ثالثا : السبب الجزائي ، فقال : { والله بما تعملون خبير } فإذا كان خبيرا بأعمالكم جميعها -ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات ، والعقوبات على الشر- لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به الثواب ، ولا يرضى بالإمساك الذي به العقاب .
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض ، والله بما تعملون خبير . لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل : قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم ، إن كنتم صادقين ؟ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )
لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة ، عم تعنيهم ، ومن تحذرهم البخل ، وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات ، في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .
والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول [ ص ] ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول [ ص ] والإنفاق في سبيل الله .
وقد نزل هذا التحذير التهديدي ، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد [ ص ] ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم ، ومن كذب تعلاتهم ؛ ونزلت معه المواساة للرسول [ ص ] عن تكذيبهم ، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل ، الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل :
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير )
إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم ، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم ، يحفظ لهم أموالهم ، فلا تذهب بالإنفاق .
والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم ( يبخلون بما آتاهم الله من فضله ) . . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا . . ولا جلودهم . . ! فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا " من فضله " شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل ، وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث : ( ولله ميراث السماوات والأرض ) . . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله . ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته فيبقى مدخرا لهم عنده ، بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة !
{ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لّهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لّهُمْ سَيُطَوّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ يَبخَلونَ } بالياء من يحسبنّ وقرأته جماعة أخر : «وَلا تَحسَبنّ » بالتاء .
ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : لا يحسبنّ الباخلون البخل هو خيرا لهم . فاكتفى بذكر يبخلون من البخل ، كما تقول : قدم فلان فسررت به ، وأنت تريد فسررت بقدومه ، وهو عماد . وقال بعض نحويي أهل البصرة : إنما أراد بقوله : «وَلا تَحسَبنّ الّذِينَ يَبخَلونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ » لا تحسبن البخل هو خيرا لهم ، فألقى الاسم الذي أوقع عليه الحسبان به وهو البخل ، لأنه قد ذكر الحسبان ، وذكر ما آتاهم الله من فضله ، فأضمرهما إذ ذكرهما ، قال : وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا ، قال : { لا يَستَوِي مِنكُمْ مَنْ انْفَقَ مِنْ قَبْل الفَتْحِ وَقاتَلَ } ولم يقل : ومن أنفق من بعد الفتح ، لأنه لما قال : { أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ } كان فيه دليل على أنه قد عناهم .
وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة ، أن «من » في قوله : { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ } في معنى جمع . ومعنى الكلام : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم ، فكيف من أنفق من بعد الفتح ، فالأول مكتف . وقال في قوله : { لا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خيْرا لَهُمْ } محذوف ، غير أنه لم يحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف ، لأن «هو » عائد البخل ، و«خيرا لهم » عائد الأسماء ، فقد دلّ هذان العائدان على أن قبلهما اسمين ، واكتفى بقوله : يبخلون ، من البخل . قال : وهذا إذا قرىء بالتاء ، فالبخل قبل الذين ، وإذا قرىء بالياء ، فالبخل بعد الذين ، وقد اكتفى بالذين يبخلون من البخل ، كما قال الشاعر :
إذَا نُهِيَ السّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ *** وخالَفَ وَالسّفيهُ إلى خِلافِ
كأنه قال : جرى إلى السفه ، فاكتفى عن السفه بالسفيه ، كذلك اكتفى بالذين يبخلون من البخل .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالتاء بتأويل : ولا تحسبنّ أنت يا محمد بخل الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله ، هو خيرا لهم ، ثم ترك ذكر البخل ، إذ كان في قوله هو خيرا لهم ، دلالة على أنه مراد في الكلام ، إذ كان قد تقدّمه قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضلِهِ } .
وإنما قلنا قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء ، لأن المحسبة من شأنها طلب اسم وخبر ، فإذا قرىء قوله : { وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالياء لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله : { هُوَ خَيْرا لَهُمْ } خبرا عنه ، وإذا قرىء ذلك بالتاء كان قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } اسما له ، قد أدّى عن معنى البخل الذي هو اسم المحسبة المتروك ، وكان قوله : { هُوَ خَيْرا لَهُمْ } خبرا لها ، فكان جاريا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح . فلذلك اخترنا القراءة بالتاء في ذلك على ما بيناه ، وإن كانت القراءة بالياء غير خطأ ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب .
وأما تأويل الاَية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك : ولا تحسبنّ يا محمد ، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال ، فلا يخرجون منه حقّ الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات هو خيرا لهم عند الله يوم القيامة ، بل هو شرّ لهم عنده في الاَخرة . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُو شَرّ لَهُمْ » : هم الذين آتاهم الله من فضله ، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ، ولم يؤدّوا زكاتها .
وقال آخرون : بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني عمي ، ثني أبي ، قال : قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » . . . إلى { سُيَطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } يعني بذلك : أهل الكتاب أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » قال : هم يهود ، إلى قوله : { وَالكتاب المُنِير } .
وأولى التأويلين بتأويل هذه الاَية التأويل الأوّل وهو أنه معنيّ بالبخل في هذا الموضع : منع الزكاة لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأوّل قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : البخيل الذي منع حقّ الله منه أنه يصير ثعبانا في عنقه ، ولقول الله عقيب هذه الاَية : { لَقَدْ سَمِعَ اللّهْ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أغْنِياءُ } فوصف جلّ ثناؤه قول المشركين من اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقير .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخَلِوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { سَيُطَوّقُونَ } : سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاة طوقا في أعناقهم ، كهيئة الأطواق المعروفة . كالذي :
حدثني الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة ، عن أبي مالك العبدي ، قال : ما من عبد يأتيه ذو رحم له يسأله من فضل عنده فيبخل عليه إلا أخرج له الذي بخل به عليه شجاعا أقرع . وقال : وقرأ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ » . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة ، عن رجل ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِيَ ذَا رَحِمِهِ فَيَسألُهُ فَضْلٍ جَعَلَهُ الله عِنْدَهُ فَيَبْخَلَ بِهِ عَلَيْهِ إلاّ أُخْرِجَ مِنْ لَهُ مِنْ جَهَنّمَ شُجاعٌ يَتَلَمّظُ حتى يُطَوّقَهُ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم ، قال : حدثنا داود ، عن أبي قزعة حجر بن بيان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ فَيَسألَهُ مِنْ فَضْلٍ أعْطاهُ اللّهُ إيّاهُ فَيَبْخَلَ بِهِ عَلَيْهِ ، إلاّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ شُجاعٌ مِنَ النّارِ يَتَلَمّظُ حتى يُطَوّقَهُ » ثم قرأ : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » حتى انتهى إلى قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } .
حدثني زياد بن عبيد الله المرّي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، وحدثني محمد بن عبد الله الكلابي ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد ، واللفظ ليعقوب جميعا ، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا يَأْتِي رَجُلٌ مَوْلاهُ فَيَسألَهُ مِنْ فَضْل مالٍ عِنْدَهُ فَيَمْنَعُهُ إيّاهُ إلاّ دَعا لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ شُجاعا يَتَلَمّظُ فَضْلَهُ الّذِين مَنَعَ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : ثعبان ينقر رأس أحدهم ، يقول : أنا مالك الذي بخلت به .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا وائل يحدّث أنه سمع عبد الله ، قال في هذه الاَية : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : شجاع يلتوي برأس أحدهم .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، قال : حدثنا خلاد بن أسلم ، قال أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، بمثله ، إلا أنهما قالا : قال شجاع أسود .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : يجيء ماله يوم القيامة ثعبانا ، فينقر رأسه فيقول : أنا مالك الذي بخلت به ، فينطوي على عنقه .
حُدثت عن سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا جامع بن شداد وعبد الملك بن أعين ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ أحَدٍ لا يُؤَدّي زَكاةَ مالِهِ إلاّ مُثّلَ لَهُ شُجاعٌ أقْرَعُ يُطَوّقُهُ » ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ » . . . الاَية .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما { سَيُطَوّقون ما بَخِلُوا بِهِ } فإنه يجعل ماله يوم القيامة شجاعا أقرع يطوّقه ، فيأخذ بعنقه ، فيتبعه حتى يقذفه في النار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم ، عن أبي وائل ، قال : هو الرجل الذي يرزقه الله مالاً ، فيمنع قرابته الحقّ الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية فيطوّقها ، فيقول : مالي ولك ؟ فيقول : أنا مالك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق ، قال : سألت ابن مسعود عن قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : يطوّقون شجاعا أقرع ، ينهش رأسه .
وقال آخرون : معنى ذلك : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } فيجعل في أعناقهم طوقا من نار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوقا من النار .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الاَية : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوقا من نار .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : { سَيُطَوّقُونَ } قال : طوقا من نار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : طوق من نار .
وقال آخرون : معنى ذلك : سيحمل الذين كتموا نبوّه محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود ما كتموا من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } ألم تسمع أنه قال : { يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } يعني : أهل الكتاب ، يقول : يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان .
وقال آخرون : معنى ذلك : سيكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ } قال : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به ، إلى قوله : { وَالكِتابِ المُنِير } .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { سَيُطَوّقونَ } سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة .
وأولى الأقوال بتأويل هذه الاَية التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله : { سَيُطَوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ } للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد أعلم بما عنى الله تبارك وتعالى بتنزيله منه عليه الصلاة والسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وِللّهِ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه الحيّ الذي لا يموت ، والباقي بعد فناء جميع خلقه .
فإن قال قائل : فما معنى قوله : { لَهُ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ } والميراث المعروف : هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده ؟ قيل : إن معنى ذلك ما وصفنا من وصفه نفسه بالبقاء ، وإعلام خلقه أنه كتب عليهم الفناء . وذلك أن ملك المالك إنما يصير ميراثا بعد وفاته ، فإنما قال جلّ ثناؤه : { ولِلّهِ مِيراثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ } إعلاما بذلك منه عباده أن أملاك جميع خلقه منتقلة عنهم بموتهم ، وأنه لاأحد إلا وهو فان سواء ، فإنه الذي إذا هلك جميع خلقه ، فزالت أملاكهم عنهم لم يبق أحد يكون له ما كانوا يملكونه غيره .
وإنما معنى الاَية : لا تحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ، بعد ما يهلكون ، وتزول عنهم أملاكهم في الحين الذي لا يملكون شيئا ، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه . ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل ، وغيرهم من سائر خلقه ، ذو خبرة وعلم ، محيط بذلك كله ، حتى يجازي كلاّ منهم على قدر استحقاقه ، المحسن بالإحسان ، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره .