{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَىَ بِهِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { إنّ الذينَ كفرُوا } أي جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يصدّقوا به ، وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم . { وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ } يعني : وماتوا على ذلك من جحود نبوّته ، وجحود ما جاء به . { فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرض ذَهَبا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } يقول : فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جزاء ولا رشوة على ترك عقوبته على كفره ، ولا جعل على العفو عنه ، ولو كان له من الذهب قدر ما يملأ الأرض من مشرقها إلى مغربها ، فَرَشَا وجزى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضا مما الله محلّ به من عذابه ، لأن الرّشا إنما يقبلها من كان ذا حاجة إلى ما رُشي ، فأما من له الدنيا والآخرة ، فكيف يقبل الفدية ، وهو خلاق كل فدية افتدى بها مفتد عن نفسه أو غيره ؟ وقد بينا أن معنى الفدية¹ العوض والجزاء من المفتدى منه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ثم أخبر عزّ وجلّ عما لهم عنده ، فقال : { أولَئِكَ } يعني : هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار ، { لهم عَذَابٌ ألِيمٌ } يقول : لهم عند الله في الآخرة عذاب موجع ، { وما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } يعني : وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره ، فيستنقذه من الله ومن عذابه ، كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذاه ومكروهه . وقد :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يُجاءُ بالكافر يَوْمَ القِيامَةِ فيُقالُ لَهُ : أرأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا ، أكُنْتَ مُفْتَدِيا بِهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ ، قال : فَيُقالُ لَقَدْ سُئِلْتَ ما هُوَ أيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ » ، فذلك قوله : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقَبْلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن ، قوله : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا } قال : هو كل كافر .
ونصب قوله «ذهبا » على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منه ، وهو قوله : «ملء الأرض » ، كقول القائل : عندي قدر زقّ سمنا وقدر رطل عسلاً ، فالعسل مبين به ما ذكر من المقدار ، وهو نكرة منصوبة على التفسير للمقدار والخروج منه .
وأما نحويو البصرة ، فإنهم زعموا أنه نصب الذهب لاشتغال الملء بالأرض ، ومجيء الذهب بعدهما ، فصار نصبها نظير نصب الحال ، وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شغل بفاعله فينصب ، كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شغل بفاعله ، قالوا : ونظير قوله : { مِلْءُ الأرْض ذَهَبا } في نصب الذهب في الكلام : لي مثلك رجلاً ، بمعنى : لي مثلك من الرجال . وزعموا أن نصب الرجل لاشتغال الإضافة بالاسم ، فنصب كما ينصب المفعول به لاشتغال الفعل بالفاعل ، وأدخلت الواو في قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } لمحذوف من الكلام بعده دلّ عليه دخول الواو ، كالواو في قوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ } . وتأويل الكلام : وليكون من الموقنين ، أريناه ملكوت السموات والأرض ، فكذلك ذلك في قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } ، ولو لم يكن في الكلام واو ، لكان الكلام صحيحا ، ولم يكن هنالك متروك وكان : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به .
استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم ، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرّر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدَناً . وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفراً الذين ماتوا على الكفر ، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى أعيدت ليبنى عليها قوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } . وأياً مّا كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرّف بلام الاستغراق .
والفاء في قوله : { فلن يقبل } مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أنّ الصلة هي علة عدم قبول التوبة ، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم } [ آل عمران : 90 ] لأنّهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم ، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرّح به ، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر ( إن ) وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة { فلن يقبل من أحدهم } إلى آخرها معترضة بين اسم ( إنّ ) وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] وتكون جملة { أولئك لهم عذاب أليم } خبر ( إنّ ) .
ومعنى { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا ؛ ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتُوا وهم كفار . والمِلْء بكسر الميم ما يملأ وعاءً ، ومِلء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذّرة ، لأنّ الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدّرة ، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء ، وعدد الحصى ، ومُيز هذا المقدار بذَهباً لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري :
* وقارنتْ نَجْحَ المساعي خَطْرتُه *
وقوله : { ولو افتدى به } جملة في موقع الحال ، والواو واو الحال ، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به ، وحرف ( لو ) للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب ، ولكثرته قال كثير من النحاة : إنّ لو وإن الشرطيتين في مثله مجرّدتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلاّ المبالغة ، ولَقبوهُما بالوصليتين : أي أنّهما لِمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد . وتردّدوا أيضاً في إعراب الجملة الواقعة هذَا الموقع ، وفي الواو المقترنة بها ، والمحققون على أنّها واو الحال وإليه مَال الزمخشري ، وابنُ جنّي ، والمرزوقي . ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضدّ الشرط المذكور : كقوله تعالى : { كونوا قوّامين بالقسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم } [ النساء : 135 ] . ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف ، ذكره الرضي رادّاً عليه ، وليس حقيقاً بالردّ : فإنّ للاستئناف البياني موقعاً مع هذه الواو .
هذا وإنّ مواقع هذه الواو تؤذن بأنّ الشرط الذي بعدها شرط مفروضٌ هو غاية ما يتوقّع معه انتفاء الحكم الذي قبلها ، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب :
لَيْسَ الجمالُ بمِئْزَرٍ *** فاعْلَمْ وإنْ رُدِّيتَ بُرْدا
ولذلك جرت عادة النحاة أن يقدّروا قبلها شرطاً هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله : وإنْ رُدّيت بُردا إنْ لم تُرَدَّ بُردا بل وإن رُدِّيتَ بردا وكذا قول النابغة "
سأكْعَمُ كَلبي أَن يَريبَك نبحُه *** ولو كنْتُ أرْعى مُسْحلانِ فَحَامِرا
ولأجل ذلك ، ورد إشكال على هذه الآية : لأنّ ما بعد { ولو } فيها هو عين ما قبلها ، إذ الافتداء هو عين بَذل مِلْءِ الأرض ذهباً ، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولَو افتدى به ، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية : فقال الزجّاج المعنى لن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهباً ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة ، أي لا يفديهم شيء من العذاب ، وهذا الوجه بعيد ، إذ لا يقدر أنّ في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه ، وقال قوم : الواو زائدة ، وقال في « الكشاف » : هو محمول على المعنى كأنه قيل : فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى مِلء الأرض ذهباً ، يريد أنّ كلمة بمِلء الأرض في قوة كلمة فدية واختُصر بعد ذلك بالضمير ، قال ويجوز أن يقدر كلمة ( مثل ) قبل الضمير المجرور : أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفَه كقوله : { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به } [ الزمر : 47 ] .
وعندي أنّ موقع هذا الشرط في الآية جارٍ على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ، محقّق أو مقدّر ، يتوهمه المتكلم من المخاطَب فيريد تقريره ، فلا يقتضي أنّ شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله ، بل قد يكون كذلك ، وقد يكون السؤال مجرّد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمّنه الحكم تثبيتاً على المتكلم على حدّ قولهم : « ادْرِ ما تقول » فيجيب المتكلم بإعادة السوال تقريراً له وإيذاناً بأنه تكلم عن بينة ، نعم إنّ الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة ، وهو من شواهد هذا :
قالت بناتُ العَمِّ يا سلمَى وإنْ *** كَان فَقيراً مُعْدِمَا قالتْ وإنْ
وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير :
لا تأخُذَنِّي بأقوال الوُشاة ولم *** أذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فيّ الأقاويل
وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أوَ لَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } [ الزمر : 43 ] فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك .
فقوله : { ولو افتدى به } جواب سؤالِ متعجِّبٍ من الحكم وهو قوله : { فلن يقبل من أحدهم } فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حدّ بيت كعب . فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرّد التأكيد .
ويجوز أن يكون الشرط عطفاً على محذوف دلّ عليه افتدى : أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً يجعله رَهينة . ولو بذلُه فدية ، لأنّ من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رَهناً إلى أن يقع الصلح أو العفو ، وكذلك في الديون ، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رَهائن منهم كما قال الحارث :
واذْكروا حِلْف ذي المَجاز وما قُدِّ *** م فيه العُهُودُ والكُفَلاء
ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أنّ مُحمد بن مَسلمة قال لأبي رافع : « نرهنك السلاح واللاّمة » .
وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } فذلكة للمراد من قوله : { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم } [ آل عمران : 90 ] الآيتين .
وقوله : { وما لهم من ناصرين } تكميل لنفي أحوال الغَناء عنهم وذلك أنّ المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال ، وقد يكفُله من يوثق بكفالتهم ، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة ، وكلٌّ من الكفيل والشفيع ناصر .