تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }

تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي ، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا ، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة ، وتنزعج منه أولو العقول .

فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد ، بل ولا مثله ، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم ، أي : فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم ، بما فيها من العذاب العظيم ، والخزي المهين ، وسخط الجبار ، وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسار . فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته .

وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار ، أو حرمان الجنة .

وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين . والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق : شمس الدين بن القيم رحمه الله في " المدارج " فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال : وقالت فِرقَة : هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه .

وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها ، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص .

فالتوبة مانع بالإجماع ، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها ، والحسنات العظيمة الماحية مانعة ، والمصائب الكبار المكفرة مانعة ، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص ، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين .

ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه ، وإعمالا لأرجحها .

قالوا : وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما . وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا ، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه ، ويكون الحكم للأغلب منهما .

فالقوة مقتضية للصحة والعافية ، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة ، وفعل القوة والحكم للغالب منهما ، وكذلك قوى الأدوية والأمراض . والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب ، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه ، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له .

ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار ، وعكسه ، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه . ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله ، حتى كأنه يشاهده رأي عين .

ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه ، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك ، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه ، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره .

وهذا يقين الإيمان ، وهو الذي يحرق السيئات ، كما تحرق النار الحطب ، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات ، وإن وقعت منه وكثرت ، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه ، وهذا من أحب الخلق إلى الله . انتهى كلامه قدس الله روحه ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يقتل مؤمنا عامدا قتله ، مريدا إتلاف نفسه ، { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } يقول : فثوابه من قتله إياه جهنم ، يعني : عذاب جهنم ، { خَالدا فيها } يعني : باقيا فيها . والهاء والألف في قوله : «فيها » من ذكر جهنم . { وَغَضبَ اللّهِ عَلَيْهِ } يقول : وغضب الله بقتله إياه متعمدا ، { وَلَعَنَهُ } يقول : وأبعده من رحمته وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما ، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره .

واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحقّ صاحبه أن يسمّى متعمدا بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلاً بحدّ حديد يجرح بحدّه ، أو يَبْضَع ويقطع ، فلم يقلع عنه ضربا به ، حتى أتلف نفسه ، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه أنه عامد قتله . ثم اختلفوا فيما عدا ذلك ، فقال بعضهم : لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : العمد : السلاح أو قال : الحديد قال : وقال سعيد بن المسيب : هو السلاح .

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : العمد ما كان بحديدة ، وما كان بدون حديدة فهو شبه العمد ، لا قود فيه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : العمد ما كان بحديدة ، وشبه العمد : ما كان بخشبة ، وشبه العمد لا يكون إلا في النفس .

حدثني أحمد بن حماد الدولابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، قال : من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بالعصيّ فهو خطأ ديته دية الخطأ ، ومن قتل عمدا فهو قود يديه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ومغيرة ، عن الحارث وأصحابه في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضا حتى يموت ، قال : أسأل الشهود أنه ضربه ، فلم يزل مريضا من ضربته حتى مات ، فإن كان بسلاح فهو قود ، وإن كان بغير ذلك فهو شبه العمد .

وقال آخرون : كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد ، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة عن عبيد بن عمير ، أنه قال : وأيّ عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن إبراهيم ، قال : إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود .

وعلة من قال كلّ ما عدا الحديد خطأ ، ما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي عازب ، عن النعمان بن بشير ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كُلّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلاّ السّيْفَ ، وَلِكُلّ خَطَأٍ أرْشٌ » .

وعلة من قال : حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد ، ما :

حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن يهوديّا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين ، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقتله بين حجرين .

قالوا : فأقاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر وذلك غير حديد . قالوا : وكذلك حكم كلّ من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به ، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : كل من ضرب إنسانا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه ، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شيء¹ للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها } فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه : فجزاؤه جهنم إن جازاه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : هو جزاؤه ، وإن شاء تجاوز عنه .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن يسار ، عن أبي صالح : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : جزاؤه جهنم إن جازاه .

وقال آخرون : عُني بذلك رجل بعينه كان أسلم ، فارتدّ عن إسلامه وقتل رجلاً مؤمنا¹ قالوا : فمعنى الاَية : ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلاّ قتله ، فجزاؤه جهنم خالدا فيها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة ، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الدية قبلها ، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله . قال ابن جريج وقال غيره : ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار ، ثم بعث مِقْيَسا وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيّدا ، فضرب به الأرض ، ورضخ رأسه بين حجرين ، ثم أُلفي يتغنى :

قَتَلْتُ بِهِ فِهْرا وَحَمّلْتُ عَقْلَهُ ***سَرَاةَ بني النّجّار أرْبابِ فارعِ

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أظُنّهُ قَدْ أحْدَثَ حَدَثا ، أمَا وَاللّهِ لَئِنْ كانَ فَعَلَ لا أُؤَمّنُهُ فِي حِلّ وَلا حَرَمٍ ، وَلا سِلْمٍ وَلا حَرْبٍ » فقتل يوم الفتح¹ قال ابن جريج : وفيه نزلت هذه الاَية { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . الاَية .

وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من تاب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو حدثني الحكم ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ، ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد ، فقال : إلا من ندم .

وقال آخرون : ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل ، على ما وصفه في كتابه ، ولم يجعل له توبة من فعله . قالوا : فكلّ قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار ، ولا توبة له . وقالوا : نزلت هذه الاَية بعد التي في سورة الفرقان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن يحيى الجاري ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كفّ بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأني له التوبة والهدي ، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : «ثَكِلَتْهُ أُمّهُ ! رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمّدا ، جاءَ يَوْمَ القِيامَة آخِذا بِيَمِينِه أوْ بِشِمالِهِ ، تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ دَما ، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرّحْمَنِ ، يَلْزَمُ قاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى يقولُ : سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَتَنِي » . والذي نفسي عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الاَية فما نسختها من آية حتى قُبِض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدهما من برهان .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد ، عن عمرو بن قيس ، عن يحيى بن الحارث التيمي ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحا ؟ فقال : وأنّى له التوبة ! .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا همام عن يحيى ، عن رجل ، عن سالم ، قال كنت جالسا مع ابن عباس ، فسأله رجل فقال : أرأيت رجلاً قتل مؤمنا متعمدا أين منزله ؟ قال : جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنّي له الهدى ثكلته أمه ! والذي نفسي بيده لسمعته يقول يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ مُعَلّقا رأسُهُ باحْدَى يَدَيْهِ ، إمّا بِيَمِينِهِ أوْ بِشِمَالِهِ ، آخِذا صَاحِبَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ حِيالَ عَرْضِ الرّحْمَنِ يَقُولُ : يا رَبّ سَلْ عَبْدَكَ هَذَا عَلامَ قَتَلَنِي ؟ » فما جاء نبيّ بعد نبيكم ، ولا نزل كتاب بعد كتابكم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا عمان بن زريق ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فوالله لقد أنزلت على نبيكم ثم ما نسخها شيء ، ولقد سمعته يقول : { وَيْلٌ لِقاتِلِ المُؤْمِنِ ، يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَة آخِذا رأسَهُ بِيَدِهِ ثم ذكر الحديث نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أي عديّ ، عن سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي عبد الرحمن بن أبزي : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } فقال : لم ينسخها شيء . وقال في هذه الاَية : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما } قال : نزلت في أهل الشرك .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين ، فذكر نحوه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو حُدثت عن سعيد بن جبير ، أن عبد الرحمن بن أبزي أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين التي في النساء : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } . . . . إلى آخر الاَية ، والتي في الفرقان : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما } . . . إلى : { وَيخْلُدْ فِيهِ مُهانا } قال ابن عباس : إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له . وأما التي في الفرقان ، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة : فقد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ وأتينا الفواحش ، فما ينفعنا الإسلام ؟ قال : فنزلت { إلاّ مَنْ تابَ } . . . الاَية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : ما نسخها شيء .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هي من آخر ما نزلت ما نسخها شيء .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فدخلت إلى ابن عباس فسألته ، فقال : لقد نزلت في آخر ما نزل من القرآن وما نسخها شيء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس معاوية بن قرّة ، قال : أخبرني شهر بن حوشب ، قال : سمعت ابن عباس يقول : نزلت هذه الاَية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّم } بعد قوله : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا } بسنة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرّة ، عن ابن عباس ، قال : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : نزلت بعد : { إلاّ مَنْ تَابَ } بسنة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس ، قال : ثني من سمع ابن عباس يقول : في قاتل المؤمن نزلت بعد ذلك بسنة ، فقلت لأبي إياس : من أخبرك ؟ فقال : شهر بن حوشب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي حصين ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } قال : ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر الله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني عمي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . الاَية ، قال عطية : وسئل عنها ابن عباس ، فزعم أنها نزلت بعد الاَية التي في سورة الفرقان بثمان سنين ، وهو قوله : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ } . . . إلى قوله : { غَفُورا رَحِيما } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مطرف ، عن أبي السفر ، عن ناجية ، عن ابن عباس ، قال : هما المبهمتان : الشرك ، والقتل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله وقتل النفس التي حرّم الله¹ لأن الله سبحانه يقول : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أشياخه الكوفيين ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن ابن مسعود في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إنها لمحكمة ، وما تزداد إلا شدة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثني هياج بن بسطام ، عن محمد بن عمرو ، عن موسى بن عقبة ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر .

حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : ثني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، قا : قال ابن عباس : يأتي المقتول يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه وأوداجه تشخب دما ، يقول : يا ربّ دمي عند فلان ! فيؤخذان فيسندان إلى العرش ، فما أدري ما يقضي بينهما . ثم نزع بهذه الاَية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها } . . . الاَية . قال ابن عباس : والذي نفسي بيده ما نسخها الله جلّ وعزّ منذ أنزلها على نبيكم عليه الصلاة والسلام .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت ، عن زيد بن ثابت ، قال : سمعت أباك يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة بسنة أشهر ، قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . إلى آخر الاَية ، بعد قوله : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ } . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد ، قال : سمعت أباك في هذا المكان بمني يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة ، قال : أراه بستة أشهر ، يعني : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } بعد : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : ما نسخها شيء منذ نزلت ، وليس له توبة .

قال أبو جعفر : وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه إنْ جزاه جهنم خالدا فيها ، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله ، فلا يجازيهم بالخلود فيها ، ولكنه عزّ ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار ، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله : { يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا } .

فإن ظنّ ظانّ أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الاَية ، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه ، لأن الشرك من الذنوب ، فإن الله عزّ ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } والقتل دون الشرك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل ، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس ، وإنّما أخّر لتهويل أمره ، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ } [ النساء : 92 ] .

والمتعمّد : القاصد للقتل ، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب . والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس ، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء . ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء : القتل نوعان عمد وخطأ ، وهو الجاري على وفق الآية ، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد ، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية ، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه . وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة{[217]} وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار ، ولم يُعرف قاتله ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل ، دية أخيه ، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله ، واستاق الإبل ، وانصرف إلى مكة كافراً ، وأنشد في شأن أخيه :

قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَــه *** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع{[218]}

حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أوّلَ راجع

وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة ، فقتِل بسوق مكة .

وقوله : { خالداً فيها } مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً ، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله ، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر ، على قول علمائنا من أهل السنّة ، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث ، وهو استعمال عربي . قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :

ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه *** يَرُدّ مَلْكاً وللأرضِ عامِرا

ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج ، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر ، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة .

وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً ، كما تَرِد على غيرها من الكبائر ، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية : فروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس : أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة ، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به ، أخذاً بهذه الآية ، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال : آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس ، فسألتُه عنها ، فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية .

هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء ، فلم يأخذ بطريق التأويل . وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس : فحمله جماعة على ظاهره ، وقالوا : إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل ، فقد نَسخَت الآياتِ التي قبلها ، التي تقتضي عموم التوبة ، مثل قوله : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 116 ] ، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله { واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، ومثل قوله : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 68 ، 69 ] . والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره ، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة . فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه ، وهو طولُ المدّة في العقاب ، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد ، وكيف يُحرم من قبول التوبة ، والتوبةُ من الكفر ، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة ، فكيف بما هو دونه من الذنوب .

وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر ، لئلاّ يجترىء الناس على قتل النفس عمداً ، ويرجون التوبة ، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال : « ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمّداً توبة » فقال : « لاَ إلاّ النار » ، فلمّا ذهب قال له جلساؤه « أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة » فقال : « إنّي لأحْسِبُ السائل رجلاً مغضَباً يريد أن يقتل مؤمناً » ، قل : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك . وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفساً يقول له : « توبتُك مقبولة » وإذا سأله من لم يقتل ، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس ، قال له : لا توبةَ للقاتل .

وأقول : هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت ، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره ، دون تأويل ، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز ، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة ، بخلاف بقية آي الوعيد ، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة ، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد : من محامِل التأويل ، أو الجمععِ بين المتعارضات ، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان ( 68 ، 69 ) :

{ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { إلاّ من تاب } لأنّ قوله : ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة ، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر ، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها . ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير : إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء . ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا ، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون ، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة . وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، بناء على أنّ عموم { من يشاء } نَسَخ خصوصَ القتل . وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسٍ بن صُبابة ، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر ، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ « من » شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن ؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه . وهذه كلّها ملاجىء لا حاجة إليها ، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها ، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به ، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر . على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود . إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض . وهو الوعيد ، لا أنواعه . وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة . وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه ، والتعويل عليه .


[217]:مقيس بميم مكسورة وقاف وتحتية بوزن منبر . وصبابة بصاد مهملة وبائين موحدتين قيل هو اسن أمه.
[218]:فارع اسم حصن في المدينة لبني النجار.