{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا }
أي : كل مَنْ أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى وصغير وكبير ، { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة { مِنَ النَّبِيِّينَ } الذين فضلهم الله بوحيه ، واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق ، ودعوتهم إلى الله تعالى { وَالصِّدِّيقِينَ } وهم : الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل ، فعلموا الحق وصدقوه بيقينهم ، وبالقيام به قولا وعملا وحالا ودعوة إلى الله ، { وَالشُّهَدَاءِ } الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فقتلوا ، { وَالصَّالِحِينَ } الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت أعمالهم ، فكل من أطاع الله تعالى كان مع هؤلاء في صحبتهم { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } بالاجتماع بهم في جنات النعيم والأُنْس بقربهم في جوار رب العالمين .
ثم ذكر جلّ ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام من الكرامة الدائمة لديه والمنازل الرفيعة عنده . فقال : وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولَئكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ والشّهَداءِ وَالصّالِحينَ } . . . الاَية .
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلََئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ عَلِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يطع الله والرسول بالتسليم لأمرهما ، وإخلاص الرضا بحكمهما ، والانتهاء إلى أمرهما ، والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله ، فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من أنبيائه وفي الاَخرة إذا دخل الجنة . { والصّدّيقِينَ } وهم جمع صدّيق .
واختلف في معنى الصدّيقين ، فقال بعضهم : الصدّيقون : تُبّاعُ الأنبياء الذين صدّقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم . فكأن «الصدّيق فعيل » على مذهب قائلي هذه المقالة من الصدق ، كما يقال رجل سكّير من السكر ، إذا كان مدمنا على ذلك ، وشِرّيب وخِمّير .
وقال آخرون : بل هو فعيل من الصدقة . وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو تأويل من قال ذلك¹ وهو ما :
حدثنا به سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، عن موسى بن يعقوب ، قال : أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن زمعة ، عن أمها كريمة بنت المقداد ، عن ضباعة بنت الزبير ، وكانت تحت المقداد عن المقداد ، قال : قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم : شيء سمعته منكْ شككت فيه ! قال : «إذَا شَكّ أَحَدُكُمْ فِي الأمْرِ فَلْيَسأَلْني عنه ! » قال : قلت قولك في أزواجك : إني لأرجو لهنّ من بعدي الصدّيقين ؟ قال : «مَنْ تَعْنُونَ الصّدّيقين ؟ » قلت : أولادنا الذين يهلكون صغارا . قال : «لا ، وَلِكنِ الصّدّيقين هُمُ المُصَدّقُونَ » .
وهذا خبر لو كان إسناده صحيحا لم نستجز أن نعدوه إلى غيره ، ولو كان في إسناده بعض ما فيه . فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالصدّيق أن يكون معناه المصدّق قوله بفعله ، إذ كان الفعيل في كلام العرب إنما يأتي إذا كان مأخوذا من الفعل بمعنى المبالغة ، إما في المدح وإما في الذمّ ، ومنه قوله جلّ ثناؤه في صفة مريم : { وأمّهُ صِدّيقَةٌ } . وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا ، كان داخلاً من كان موصوفا بما قلنا في صفة المتصدّقين والمصدّقين¹ { والشّهَدَاءِ } وهم جمع شهيد : وهو المقتول في سبيل الله ، سمي بذلك لقيامه بشهادة الحقّ في جنب الله حتى قتل . { والصّالِحِينَ } وهم جمع صالح : وهو كلّ من صلحت سريرته وعلانتيه .
وأما قوله جلّ ثناؤه : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا } فإنه يعني : وحسن هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم رفقاء في الجنة . والرفيق في لفظ الواحد بمعنى الجميع ، كما قال الشاعر :
نَصَبْنَ الهَوَى ثُمّ ارْتَمَيْنَ قُلوبَنا ***بأسْهُمِ أعْدَاءٍ وَهُن صَدِيقُ
بمعنى : وهنّ صدائق . وأما نصيب «الرفيق » فإن أهل العربية مختلفون فيه ، فكان بعض نحويي البصرة يرى أنه منصوب على الحال ، ويقول : هو كقول الرجل : كرم زيد رجلاً ، ويعدل به عن معنى : نعم الرجل ، ويقول : إنّ نعم لا تقع إلى على اسم فيه ألف ولام أو على نكرة . وكان بعض نحويي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير وينكر أن يكون حالاً ، ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول : كرم زيد من رجل ، وحسن أولئك من رفقاء¹ وأن دخول «مِن » دلالة على أن الرفيق مفسره . قال : وقد حكي عن العرب : نعمتم رجالاً ، فدلّ على أن ذلك نظير قوله : وحَسنُتم رفقاء . وهذا القول أولى بالصواب للعلة التي ذكرنا لقائليه . وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت لأن قوما حزنوا على فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرا أن لا يروه في الاَخرة . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل من الأنصار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يا فُلانُ مالي أرَاكَ مَحْزُونا » ؟ قال : يا نبيّ الله شيء فكرت فيه . فقال : «ما هُوَ ؟ » قال : نحن نغدو عليك ونروح ، ننظر في وجهك ونجالسك ، غدا ترفع مع النبيين فلا تصل إليك ! فلم يردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئا . فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الاَية : { وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ وَالصّديقِينَ وَالشّهَدَاءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا قال : فبعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم فبشّره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا ، فإنك لو قد متّ رُفعت فوقنا فلم نرك ! فأنزل الله : { وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ } . . . الاَية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُلَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ } ذكر لنا أن رجالاً قالوا : هذا نبيّ الله نراه في الدنيا ، فأما في الاَخرة فيرفع فلا نراه ! فأنزل الله : { وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ } . . . إلى قوله : { رَفِيقا } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ } . . . الاَية ، قال : قال ناس من الأنصار : يا رسول الله ، إذا أدخلك الله الجنة فكنت في أعلاها ونحن نشتاق إليك ، فكيف نصنع ؟ فأنزل الله : { وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرّسُولَ } . . . الاَية ، قال : إن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : قد علمنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدّقه ، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا ؟ فأنزل الله في ذلك فقال : إن الأعلين ينحدرون إلى من هم أسفل فيجتمعون في رياضها ، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ، ويُثْنون عليه ، وينزل لهم أهل الدرجات ، فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدّعون به ، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه .
لما ذكر الله الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم ، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله ، وهذه الآية تفسير قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم }{[4140]} وقالت طائفة إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان ، يا رسول الله إذا مت ومتنا كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت هذه الآية ، وحكى مكي عن عبد الله هذا ، أنه لما مات النبي عليه السلام ، قال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده ، فعمي ، وذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو نحوه ، حكاه الطبري عن ابن جبير وقتادة والسدي .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى - أنهم معهم - أنهم في دار واحدة ، ومتنعم واحد ، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله ، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول ، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم ، وعلى قدر فضل الله على من شاء ، و «الصدّيق » فعيل من الصدق ، وقيل من الصدقة ، وروي عن النبي عليه السلام : ( الصديقون المتصدقون ){[4141]} ، والشهداء المقتولون في سبيل الله ، هم المخصوصون بفضل الميتة{[4142]} ، وهم الذي فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم ، وسمعوا بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة ، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته ، ولكن لفظ ، { الشهداء } في هذه الآية يعم أنواع الشهداء ، و { رفيقاً } موحد في معنى الجمع ، كما قال : { ثم يخرجكم طفلاً }{[4143]} ونصبه على التمييز ، وقيل على الحال ، والأول أصوب ، وقرأ أبو السمال ، «وحسْن » بسكون السين ، وذلك مثل شجر بينهم .
تذييل لجملة : { وإذن لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً } [ النساء : 67 ] وإنّما عطفت باعتبار إلحاقها بجملة : { ومن يطع الله والرسول } على جملة { ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به } [ النساء : 66 ] . وجيء باسم الإشارة في جملة جواب الشرط للتنبيه على جدارتهم بمضمون الخبر عن اسم الإشارة لأجل مضمون الكلام الذي قبل اسم الإشارة . والمعيّة معيّة المنزلة في الجنة وإن وإن كانت الدرجات متفاوتة .
ومعنى { من يطع } من يتّصف بتمام معنى الطاعة ، أي أن لا يعصي الله ورسوله . ودلّت ( مع ) على أنّ مكانة مدخولها أرسخ وأعرف ، وفي الحديث الصحيح " أنت مع من أحببت " . والصديّقون هم الذين صدَّقوا الأنبياء ابتداء ، مثل الحواريين والسابقين الأوّلين من المؤمنين . وأمّا الشهداء فهم من قُتلوا في سبيل إعلاء كلمة الله . والصالحون الذين لزمتهم الاستقامة .
و ( حَسُنَ ) فعل مراد به المدح ملحق بنعم ومضمّن معنى التعجّب من حسنهم ، وذلك شأن فَعُل بضم العين من الثلاثي أن يدلَّ على مدح أو ذمّ بحسب مادّته مع التعجّب . وأصل الفعل حَسَنَ بفتحتين فحوّل إلى فعُل بضمّ العين لقصد المدح والتعجّب . و { أولئك } فاعل { حسن } . و { رفيقا } تمييز ، أي ما أحسنهم حسنوا من جنس الرفقاء . والرفيق يستوي فيه الواحد والجمع ، وفي حديث الوفاة « الرفيقَ الأعلى » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن يطع الله والرسول}: نزلت في رجل من الأنصار يسمى: عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي رأى الأذان في المنام مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما: إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك، فلم ينفعنا شيء حتى نرجع إليك، فذكرت درجاتك في الجنة، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة؟ فأنزل الله عز وجل: {ومن يطع الله والرسول} {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين} بالنبوة، {والصديقين} بالتصديق، وهم أول من صدق بالأنبياء، عليهم السلام، حين عاينوهم، {والشهداء}: القتلى في سبيل الله بالشهادة، {والصالحين}: المؤمنين أهل الجنة، {وحسن أولئك رفيقا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم ذكر جلّ ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام من الكرامة الدائمة لديه والمنازل الرفيعة عنده. فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولَئكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ والشّهَداءِ وَالصّالِحينَ}: ومن يطع الله والرسول بالتسليم لأمرهما، وإخلاص الرضا بحكمهما، والانتهاء إلى أمرهما، والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله، فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من أنبيائه وفي الآخرة إذا دخل الجنة. {والصّدّيقِينَ} وهم جمع صدّيق.
فقال بعضهم: الصدّيقون: تُبّاعُ الأنبياء الذين صدّقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. فكأن «الصدّيق» فعيل على مذهب قائلي هذه المقالة من الصدق، كما يقال رجل سكّير من السكر، إذا كان مدمنا على ذلك، وشِرّيب وخِمّير.
وقال آخرون: بل هو فعيل من الصدقة. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو تأويل من قال ذلك وهو ما: حدثنا به سفيان بن وكيع، قال: حدثنا خالد بن مخلد، عن موسى بن يعقوب، قال: أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أمها كريمة بنت المقداد، عن ضباعة بنت الزبير، وكانت تحت المقداد عن المقداد، قال: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: شيء سمعته منك شككت فيه! قال: «إذَا شَكّ أَحَدُكُمْ فِي الأمْرِ فَلْيَسأَلْني عنه!» قال: قلت قولك في أزواجك: إني لأرجو لهنّ من بعدي الصدّيقين؟ قال: «مَنْ تَعْنُونَ الصّدّيقين؟» قلت: أولادنا الذين يهلكون صغارا. قال: «لا، وَلِكنِ الصّدّيقين هُمُ المُصَدّقُونَ».
وهذا خبر لو كان إسناده صحيحا لم نستجز أن نعدوه إلى غيره، ولو كان في إسناده بعض ما فيه. فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالصدّيق أن يكون معناه المصدّق قوله بفعله، إذ كان الفعيل في كلام العرب إنما يأتي إذا كان مأخوذا من الفعل بمعنى المبالغة، إما في المدح وإما في الذمّ، ومنه قوله جلّ ثناؤه في صفة مريم: {وأمّهُ صِدّيقَةٌ}. وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا، كان داخلاً من كان موصوفا بما قلنا في صفة المتصدّقين والمصدّقين.
{والشّهَدَاءِ} وهم جمع شهيد: وهو المقتول في سبيل الله، سمي بذلك لقيامه بشهادة الحقّ في جنب الله حتى قتل. {والصّالِحِينَ} وهم جمع صالح: وهو كلّ من صلحت سريرته وعلانيته.
{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا}: وحسن هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم رفقاء في الجنة. والرفيق في لفظ الواحد بمعنى الجميع...
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لأن قوما حزنوا على فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرا أن لا يروه في الآخرة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما جرى ذكر الطاعة فيما تقدم والحض عليها، اقتضى ذكر طاعة الله، وطاعة الرسول، والوعد عليها. وقيل: إنه وعد بأمر مخصوص على الطاعة من مرافقة النبيين ومن ذكر معهم وهو أعم فائدة.
ومعنى قوله: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين "أنه يستمتع برؤية النبيين وزيارتهم، والحضور معهم. فلا ينبغي أن يتوهم من أجل أنهم في أعلى عليين أنه لا يراهم...
أحدهما -المداوم على ما يوجبه التصديق بالحق.
الثاني- أن الصديق هو المتصدق بما يخلص له من عمل البر. والأول أظهر...
والشهداء: جمع شهيد. وهو المقتول في سبيل الله. وفي تسميته شهيدا قولان: أحدهما -لأنه قام بشهادة الحق حتى قتل في سبيل الله.
والآخر- أنه من شهداء الآخرة بما ختم له من القتل في سبيل الله.
وليست الشهادة هي القتل، لأنها معصية، ولكنها حال المقتول في إخلاص القيام بالحق لله مقرا به، وداعيا إليه. وقيل: الشهادة هي الصبر على ما أمره الله به من قتال عدوه والانقياد له. فأما الصبر على الألم بترك الانين فليس بممنوع، بل هو مباح إذا لم يقل ما يكرهه الله. وقال الجبائي: الشهداء جمع شهيد. وهم الذين جعلهم الله شهداء في الآخرة. فهم عدول الآخرة. وهذا على مذهبه بعيد، لأن أهل الجنة كلهم عدول عنده، لأن من ليس بعدل لا يدخل الجنة. والله تعالى وعد من يطيعه ويطيع رسوله بأنه يحشره مع هؤلاء. فينبغي أن يكونوا غير الموعود لهم...
وإلا يصير تقديره إنهم مع نفوسهم. والصالح: من استقامت نفسه بحسن عمله. والمصلح المقوم لعمل يحسنه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الصديقون: أفاضل صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم كأبي بكر الصديق رضي الله عنه وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم. وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة، حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} فيه معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقاً لاستقلاله بمعنى التعجب... والرفيق: كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أن يكون مفرداً، بين به الجنس في باب التمييز.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومعنى -أنهم معهم- أنهم في دار واحدة، ومتنعم واحد، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من شاء، و «الصدّيق» فعيل من الصدق، وقيل من الصدقة، وروي عن النبي عليه السلام: (الصديقون المتصدقون)، والشهداء المقتولون في سبيل الله، هم المخصوصون بفضل الميتة، وهم الذي فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم، وسمعوا بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته، ولكن لفظ، {الشهداء} في هذه الآية يعم أنواع الشهداء،
ظاهر قوله: {ومن يطع الله والرسول} يوجب الاكتفاء بالطاعة الواحدة، لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل به في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة. قال القاضي: لا بد من حمل هذا على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة.
وعندي فيه وجه آخر، وهو أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {ومن يطع الله} أي ومن يطع الله في كونه إلها، وطاعة الله في كونه إلها هو معرفته والإقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه الآية تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد؛
فالأول: هو أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى، وبعدها عن التكدر بمحبة عالم الأجسام أتم كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل.
والثاني: أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل والهداية إلى الصراط المستقيم.
ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الذي وقع به في الختم لا بد أن يكون أشرف وأعلى مما قبله، ومعلوم أنه ليس المراد من كون هؤلاء معهم هو أنهم يكونون في عين تلك الدرجات، لأن هذا ممتنع، فلا بد وأن يكون معناه أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا لسبب الحب الشديد، فإذا فارقت هذا العالم ووصلت إلى عالم الآخرة بقيت تلك العلائق الروحانية هناك، ثم تصير تلك الأرواح الصافية كالمرايا المجلوة المتقابلة، فكأن هذه المرايا ينعكس الشعاع من بعضها على بعض، وبسبب هذه الانعكاسات تصير أنوارها في غاية القوة، فكذا القول في تلك الأرواح فإنها لما كانت مجلوة بصقالة المجاهدة عن غبار حب ما سوى الله، وذلك هو المراد من طاعة الله وطاعة الرسول، ثم ارتفعت الحجب الجسدانية أشرقت عليها أنوار جلال الله، ثم انعكست تلك الأنوار من بعضها إلى بعض وصارت الأرواح الناقصة كاملة بسبب تلك العلائق الروحانية، فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه...
ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين، كون الكل في درجة واحدة، لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وإنه لا يجوز. بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه، فهذا هو المراد من هذه المعية...
اعلم أنه تعالى ذكر النبيين، ثم ذكر أوصافا ثلاثة: الصديقين والشهداء والصالحين، واتفقوا على أن النبيين مغايرون للصديقين والشهداء والصالحين، فأما هذه الصفات الثلاثة فقد اختلفوا فيها، قال بعضهم: هذه الصفات كلها لموصوف واحد، وهي صفات متداخلة فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقا وشهيدا وصالحا. وقال الآخرون: بل المراد بكل وصف صنف من الناس، وهذا الوجه أقرب لأن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه، وكما أن النبيين غير من ذكر بعدهم، فكذلك الصديقون يجب أن يكونوا غير من ذكر بعدهم وكذا القول في سائر الصفات.
الصفة الأولى: الصديق: وهو اسم لمن عادته الصديق، ومن غلب على عادته فعل إذا وصف بذلك الفعل قيل فيه فعيل، كما يقال: سكير وشريب وخمير، والصديق صفة كريمة فاضلة من صفات المؤمنين، وكفى الصدق فضيلة أن الإيمان ليس إلا التصديق، وكفى الكذب مذمة أن الكفر ليس إلا التكذيب...
إذا عرفت هذا فنقول: للمفسرين في الصديق وجوه:
الأول: أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق، والدليل عليه قوله تعالى: {والذين ءامنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون}.
الثاني: قال قوم: الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
الثالث: أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فصار في ذلك قدوة لسائر الناس.
وإذا كان الأمر كذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف أما بيان أنه سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه قد اشتهرت الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما عرضت الإسلام على أحد إلا وله نبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم» دل هذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم لما عرض الإسلام على أبي بكر قبله أبو بكر ولم يتوقف، فلو قدرنا أن إسلامه تأخر عن إسلام غيره لزم أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصر حيث أخر عرض الإسلام عليه، وهذا لا يكون قدحا في أبي بكر، بل يكون قدحا في الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفر، ولما بطل نسبة هذا التقدير إلى الرسول علمنا أنه صلى الله عليه وسلم أنه ما قصر في عرض الإسلام عليه، والحديث دل على أن أبا بكر لم يتوقف البتة، فحصل من مجموع الأمرين أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أسبق الناس إسلاما، أما بيان أنه كان قدوة لسائر الناس في ذلك فلأن بتقدير أن يقال: إن إسلام علي كان سابقا على إسلام أبي بكر، إلا أنه لا يشك عاقل أن عليا ما صار قدوة في ذلك الوقت، لأن عليا كان في ذلك الوقت صبيا صغيرا، وكان أيضا في تربية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان شديد القرب منه بالقرابة، وأبو بكر ما كان شديد القرب منه بالقرابة وإيمان من هذا شأنه يكون سببا لرغبة سائر الناس في الإسلام...
الصفة الثانية: الشهادة:... لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر، والذي يدل عليه وجوه:
الأول: أن هذه الآية دالة على أن مرتبة الشهادة مرتبة عظيمة في الدين، وكون الإنسان مقتول الكافر ليس فيه زيادة شرف، لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله.
الثاني: أن المؤمنين قد يقولون: اللهم ارزقنا الشهادة، فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل وأنه غير جائز، لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر، فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر، الثالث: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: المبطون شهيد والغريق شهيد.
فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى الفاعل، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث أنه بذل نفسه في نصرة دين الله، وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة، كما قال: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}...
الصفة الثالثة: الصالحون: والصالح هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وفي عمله، فإن الجهل فساد في الاعتقاد، والمعصية فساد في العمل، واذا عرفت تفسير الصديق والشهيد والصالح ظهر لك ما بين هذه الصفات من التفاوت، وذلك لأن كل من كان اعتقاده صوابا وكان عمله طاعة وغير معصية فهو صالح، ثم أن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل، وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل وأخرى بالسيف، وقد لا يكون الصالح موصوفا بكونه قائما بهذه الشهادة، فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا، وليس كل من كان صالحا شهيدا، فالشهيد أشرف أنواع الصالح، ثم أن الشهيد قد يكون صديقا وقد لا يكون: ومعنى الصديق الذي كان أسبق إيمانا من غيره، وكان إيمانه قدوة لغيره، فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا، وليس كل من كان شهيدا كان صديقا، فثبت أن أفضل الخلق هم الأنبياء عليهم السلام، وبعدهم الصديقون، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة، وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما رغب في العمل بمواعظه، وكان الوعد قد يكون لغلظ في الموعوظ، وكان ما قدمه في وعظه أمراً مجملاً؛ رغب بعد ترقيقه بالوعظ في مطلق الطاعة التي المقام كله لها، مفصلاً إجمال ما وعد عليها فقال: {ومن يطع الله} أي في امتثال أوامره والوقوف عند زواجره مستحضراً عظمته -طاعة هي على سبيل التجدد والاستمرار {والرسول} أي في كل ما أراده، فإن منصب الرسالة يقتضي ذلك، لا سيما من بلغ نهايتها {فأولئك} أي العالو الرتبة العظيمو الشرف {مع الذين أنعم} أي بما له من صفات الجلال والجمال {عليهم} أي معدود من حزبهم، فهو بحيث إذا أراد زيارتهم أو رؤيتهم وصل إليها بسهولة، لا أنه يلزم أن يكون في درجاتهم وإن كانت اعماله قاصرة. ثم بينهم بقوله: {من النبيين} أي الذين أنبأهم الله بدقائق الحكم، وأنبؤوا الناس بحلائل الكلم، بما لهم من طهارة الشيم والعلو والعظم {والصديقين} أي الذين صدقوا أول الناس ما أتاهم عن الله وصدقوا هم في أقوالهم وأفعالهم، فكانوا قدوة لمن بعدهم {والشهداء} أي الذين لم يغيبوا أصلاً عن حضرات القدس ومواطن الأنس طرفة عين، بل هم مع الناس بجسومهم ومع الله سبحانه وتعالى بحلومهم وعلومهم سواء شهدوا لدين الله بالحق، ولسواه بالبطلان بالحجة أو بالسيف، ثم قتلوا في سبيل الله {والصالحين} أي الذين لا يعتريهم في ظاهر ولا باطن بحول الله فساد أصلاً، وإلى هذا يشير كلام العارف الشيخ رسلان حيث قال: ما صلحت ما دامت فيك بقية لسواه، وقد تجتمع الصفات الأربع في شخص وقد لا تجتمع، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أحق الأمة بالصديقية وإن قلنا: إن علياً وزيداً رضي الله تعالى عنهما أسلما قبله، لأنه- لكبره وكونه لم يكن قبل الإسلام تابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم -كان قدوة لغيره، ولذلك كان سبباً لإسلام ناس كثير وأولئك كانوا سبباً لإسلام غيرهم، فكان له مثل أجر الكل، وكان فيه حين إسلامه قوة الجهاد في الله سبحانه وتعالى بالمدافعة عن النبي صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك من الأفعال الدالة على صدقه، ولملاحظة هذه الأمور كانت رتبتها تلي رتبة النبوة، ولرفع الواسطة بينهما وفق الله سبحانه وتعالى هذه الأمة التي اختارها بتولية الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ودفنه إلى جانبه، ومن عظيم رتبتهم تنويه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بهم فقال:"مع الرفيق الأعلى" روى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة "
وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة، فسمعته يقول: {مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فعلمت أنه خيّر.
ولما أخبر أن المطيع مع هؤلاء، لم يكتف بما أفهم ذكرهم من جلالهم وجلال من معهم، بل زاد في بيان علو مقامهم ومقام كل من معهم بقوله: {وحسن} أي وما أحسن {أولئك} أي العالو الأخلاق السابقون يوم السباق {رفيقاً} من الرفق، وهو لغة: لين الجانب ولطافة الفعل، وهو مما يستوي واحده وجمعه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الصراط المستقيم في الآية السابقة هو الصراط الذي سار عليه عباد الله المصطفون الأخيار الذين أنعم الله عليهم بمعرفة الحق واتباعه وعمل الخيرات واجتناب الفواحش والمنكرات، وهم الأصناف الأربعة في قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول} الخ وكان الظاهر بادي الرأي أن يقال: ولهديناهم صراطا مستقيما، صراط أولئك الذين أنعم الله عليهم. أو فكانوا مع الذين أنعم الله عليهم، أو ما هو بهذا المعنى. ولكن أعيد ذكر طاعة الله ورسوله، لأنه هو الأصل المراد في السياق الذي تكون سعادة صحبة من أنعم الله عليهم جزاء له. أي إن كل من يطيع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه المبين في الآيات من قوله: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} إلى قوله: {ولهديناهم صراطا مستقيما}، {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}. وما قيل من أن الطاعة تصدق بامتثال أمر واحد مرة واحدة وما يبني عليه من الجواب هو مما اعتادوه من اختراع الإيرادات والأجوبة عنها وإن كان السياق يأباها فهذه الطاعة هي التي يدخل فيها إيثار حكم الله ورسوله على حكم الطاغوت من أهل الأهواء، وهي التي علمنا بها أن العمل من أركان الإيمان الصحيح أو شرط له لتوقفه على الإذعان في الظاهر والباطن لحكم الله ورسوله بحيث لا يكون في نفس المؤمن حرج منه ويسلم له تسليما، ويدخل في ذلك امتثال أمر الله ورسوله ولو في تعريض النفس للقتل والخروج من الديار والأوطان.
ذهب بعض المفسرون إلى أن الصديقين والشهداء والصالحين أوصاف متداخلة لموصوف واحد، فالمؤمنون الكاملون فريقان: الأنبياء والمتصفون بالصفات الثلاثة، وهذا وجه ضعيف. والصواب المغايرة بينهم كما هو ظاهر العطف على ما في صفاتهم من العموم والخصوص. وقد اختلفوا في تعريفهم. وهاك ما لا كلفة فيه ولا جناية على اللغة.
الصديقون: جمع صديق وهو من غلب عليه الصدق وعرف به كالسكير، لمن غلب عليه السكر. قال الراغب الصديق من كثر منه الصدق وقيل بل يقال لمن لا يكذب قط وقيل لمن لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق، وقيل بل لمن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بقوله. قال: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا} وقال أي في المسيح {وأمه صديقة} [المائدة:75] وقال: {من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فالصديقون هم قوم دوين الأنبياء في الفضيلة على ما بينت ذلك في الذريعة إلى مكارم الشريعة.
الصديقون هم الذين زكت فطرتهم، واعتدلت أمزجتهم، وصفت سرائرهم، حتى أنهم يميزون بين الحق والباطل والخير والشر بمجرد عروضه لهم، فهم يصدقون بالحق على أكمل وجه، ويبالغون في صدق اللسان والعمل، كما نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بمجرد ما بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عرف أنها الحق وقبلها وصدق بها فصدق النبي في قوله وعمله أكمل الصدق، ويليه في ذلك جميع السابقين الأولين فإنهم انقادوا إلى الإسلام بسهولة قبل أن تظهر الآيات وثمرات الإيمان تمام الظهور، كعثمان بن عفان بن مظعون وعد آخرين من السابقين ودرجة هؤلاء قريبة من مرتبة النبوة بل الأنبياء صديقون وزيادة.
وأقول: ما نقلناه عن الراغب والأستاذ من كون الصديقية هي المرتبة التي تلي مرتبة النبوة في الكمال البشري قد صرح به كثير من العلماء. وللغزالي كلام كثير فيه. ولا غرو فالصدق في القول والعمل أس الفضائل، كما أن الكذب والنفاق أس الرذائل، واختار الأستاذ الإمام أخذ الصديق من التصديق وهو المبالغة في تصديق الأنبياء وكمال الإيمان بهم، ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه صديقا. وقد وردت الأحاديث الصحاح والتي دون الصحاح في تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس. وفي حديث ابن مسعود عند الديلمي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له نظرة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم) وعن ابن عباس عند أبي نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال (ما كلمت في الإسلام أحدا إلا أبى لي وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله وسارع إليه) وسندهما ضعيف.
وقد عد بعض المستشرقين على أبي بكر رضي الله عنه المسارعة إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وعدم التلبث به، وحسب أن ذلك من السذاجة وضعف الروية، وينقض حسبانه كل ما عرف من سيرة أبي بكر في الجاهلية والإسلام فإنه كان من أجود الناس رأيا، وأنفذهم بصيرة، وأصحهم حكما، وأقلهم خطأ، وإنما يعرف قيمة الصدق الصادقون، وقدر الشجاعة الشجعان، وحقائق الحكمة الحكماء، فلما كانت مرتبة أبي بكر قريبة من مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم في الصدق وتحري الحق وإيثاره على الباطل، وإن ركب في سبيله الصعاب وتقحم في الأخطار، كان السابق إلى تصديقه، وبذل ماله ونفسه في نصره، وقد سمى الله الدين صدقا في قوله: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} [الزمر:32] نعم إن الصادق يكون أسرع إلى تصديق غيره عادة، فإن كان بليدا أو ساذجا غِرًّا صدق غيره في كل شيء، وإن كان ذكيا مجربا كأبي بكر لم يصدق إلا ما هو معقول. ومن كان كبير العقل قوي الحدس يدرك لأول وهلة ما لا يصل إليه غيره إلا بعد السنين الطوال، وكان أبو بكر من أعلم العرب بتاريخ العرب وأنسابها وأخلاقها وظهر أثر هذا في سياسته أيام خلافته ولا سيما في المرتدين ومانعي الزكاة، فلولاه لانتكث فتل الإسلام وغلبته عصبية الجاهلية، أفهكذا تكون السذاجة وضعف الرأي والروية؟ أم ذلك ما أملاه على ذلك المستشرق كره المخالف ووسوس به شيطان العصبية؟
الشهداء: جمع شهيدّ، وبين الرازي أنه لا يجوز أن يراد بالشهيد هنا من قتله الكفار في الحرب، لأن الشهادة مرتبة عالية عظيمة في الدين: "وكون الإنسان مقتول الكافر ليس فيه زيادة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله تعالى"، ولأن المؤمنين يدعون الله تعالى أن يرزقهم الشهادة ولا يجوز أن يطلبوا منه أن يسلط عليهم الكفار يقتلونهم، ولأنه ورد إطلاق لفظ الشهيد على المبطون والمطعون والغريق. قال: "فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل بل نقول الشهيد فعيل بمعنى الفاعل، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط وهم الذين ذكرهم الله في قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط} [آل عمران:18] ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد، من حيث إنه بذل نفسه في نصرة دين الله وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة كما قال: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة:143].
وقال الأستاذ الإمام: الشهداء هم الذين أمرنا الله تعالى أن نكون منهم في قوله: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة:143] وهم أهل العدل والإنصاف الذين يؤيدون الحق بالشهادة لأهله بأنهم محقون، ويشهدون على أهل الباطل أنهم مبطلون، ودرجتهم تلي درجة الصديقين. والصديقون شهداء وزيادة.
وأقول إن الشهادة التي تقوم بها حجة أهل الحق على أهل الباطل تكون بالقول والعمل والأخلاق والأحوال. فالشهداء هم حجة الله تعالى على المبطلين في الدنيا والآخرة بحسن سيرتهم. وتقدم القول في ذلك في تفسير: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة:143] من الجزء الثاني، وتفسير (14:2) من الجزء الرابع. ويروى عن سيدنا علي أنه قال إن الأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة. ويتوهم أسرى الاصطلاحات، ورهائن القيود المستحدثات، أن حجج الله تعالى في الأرض هم علماء الرسوم حملة الشهادات، الذين حذقوا النقاش في العبارات، والجدل في مصارعة الشبهات، وجمع النقول في تلفيق المصنفات. كلا إن حجج الله تعالى من الناس هم أعلام الحق والفضيلة، ومُثُلُ العدل والخير، فمنهم العالم المستقل بالدليل وإن سخط المقلدون، والحاكم المقيم للعدل وإن كثر حوله الجائرون، والمصلح لما فسد من الأخلاق والآداب وإن غلب المفسدون، والباذل لروحه حتى يقتل في سبيل الحق وإن حجم الجبناء والمراءون.
الصالحون: هم الذين صلحت نفوسهم وأعمالهم ولم يبلغوا أن يكونوا حججا ظاهرين كالذين قبلهم لأنه ليس لهم من العلم والعمل المتعدي نفعه إلى غيرهم ما يحتج به على المبطلين، والجائرين عن الصراط المستقيم، وقال الأستاذ الإمام: هم الذين صلحت أعمالهم في الغالب ويكفي أن تغلب حسناتهم على سيئاتهم وأن لا يصروا على الذنب وهم يعلمون.
هؤلاء الأصناف الأربعة هم صفوة الله من عباده وقد كانوا موجودين في كل أمة، ومن أطاع الله والرسول من هذه الأمة كان منهم، وحشر يوم القيامة معهم، لأنه وقد ختم الله النبوة والرسالة لابد أن يرتقي في الاتباع إلى درجة أحد الأصناف الثلاثة: الصديقين والشهداء والصالحين {وحسن أولئك رفيقا} أي أن مرافقة أولئك الأصناف هي في الدرجة التي يرغب العاقل فيها لحسنها. وفي الكشاف أن في هذه الجملة معنى التعجب كأنه قيل ما أحسن أولئك رفيقا، والرفيق كالصديق والخليط الصاحب، والأصحاب يرتفق بعضهم ببعض. واستعملت العرب الرفيق والرسول والبريد مفردا استعمال الجمع أو الجنس ولهذا حسن الإفراد هنا، وقيل تقدير الكلام وحسن كل فريق من أولئك رفيقا.
وهل يرافق كل فريق فريقه، إذ كان مشاكله وضريبه، أم يتصل كل منهم بمن فوقه ولو بعض الاتصال، الذي يكون في حال دون حال؟ الظاهر الثاني وهو ما يشير إليه التعبير بالفضل في الآية التالية.
روى الطبراني وابن مردويه بسند قال السيوطي لا بأس به عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية: {ومن يطع الله والرسول} وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق أن سبب نزولها قول الصحابة: يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنك لو قد مت لرفعت فوقنا ولم نرك. وأخرج عن عكرمة قال أتى فتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة لا نراك فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت معي في الجنة إن شاء الله تعالى) اه وهذه الروايات ضعيفة السند، فإن كان لها أصل فالمراد أن الآية نزلت في سياقها المتصلة به بعد شيء من هذه الأسئلة.
وأما معنى هذه الروايات فيؤيده حديث أبي قرصانة مرفوعا (من أحب قوما حشره الله معهم) رواه الطبراني والضياء وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة، وفي معناه حديث أنس عن أحمد والشيخين وغيرهم "المرء مع من أحب".
وقد يغر كثير من المنافقين والفاسقين أنفسهم بدعوى محبة الله ورسوله، وإنما آية المحبة الطاعة. والآية قد جعلت هذه المعية جزاء لطاعة. وفي آية أخرى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران:30] فراجع تفسيرها في الجزء الثاني.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي نهاية هذه الجولة، ونهاية هذا الدرس، يعود السياق إلى الترغيب؛ واستجاشة القلوب؛ والتلويح للأرواح بالمتاع الحبيب.. متاع الصحبة في الآخرة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين. (ومن يطع الله والرسول، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقا! ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليمًا).. إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب، فيه ذرة من خير؛ وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة، في جوار الله الكريم.. وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي.. إنما هي من فضل الله. فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها.. إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم...
ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة؛ وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه.. وهو صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم. فتنزل هذه الآية: فتندي هذا الوجد؛ وتبل هذه اللهفة.. الوجد النبيل...