وأما من جهة قالة الناس ، فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر ، أن تقول على وجه الإشارة : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ْ } أي : سكوتا { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ْ } أي : لا تخاطبيهم بكلام ، لتستريحي من قولهم وكلامهم . وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة ، وإنما لم تؤمر بخطابهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها ، ولا فيه فائدة ، وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد ، أعظم شاهد على براءتها ، . فإن إتيان المرأة بولد من دون زوج ، ودعواها أنه من غير أحد ، من أكبر الدعاوى ، التي لو أقيم عدة من الشهود ، لم تصدق بذلك ، فجعلت بينة هذا الخارق للعادة ، أمرا من جنسه ، وهو كلام عيسى في حال صغره جدا ، ولهذا قال تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمََنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : فكلي من الرطب الذي يتساقط عليك ، واشربي من ماء السريّ الذي جعله ربك تحتك ، لا تخشي جوعا ولا عطشا وَقَرّي عَيْنا يقول : وطيبي نفسا وَافرحي بولادتك إياي ولا تحزني . ونصبت العين لأنها هي الموصوفة بالقرار . وإنما معنى الكلام : ولتقرِر عينك بولدك ، ثم حوّل الفعل عن العين إلى المرأة صاحبة العين ، فنصبت العين إذ كان الفعل لها في الأصل على التفسير ، نظير ما فعل بقوله : فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا وإنما هو : فإن طابت أنفسهن لكم . وقوله : وَضَاقَ بِهِم ذَرْعا ومنه قوله : «يُساقِطْ عَلَيْكِ رُطُبا جَنِيّا » إنما هو يساقط عليك رطب الجذع ، فحوّل الفعل إلى الجِذع ، في قراءة من قرأه بالياء . وفي قراءة من قرأه : تُساقِطْ بالتاء ، معناه : يساقط عليك رطب النخلة ، ثم حوّل الفعل إلى النخلة .
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله : وقَرّي فأما أهل المدينة فقرأوه : وَقَرّي بفتح القاف على لغة من قال : قَرِرت بالمكان أَقَرّ به ، وقَرِرت عينا ، أَقَرّ به قُرورا ، وهي لغة قريش فيما ذكر لي وعليها القراءة . وأما أهل نجد فإنها تقول قررت به عينا أقربه قرارا وقررت بالمكان أقر به ، فالقراءة على لغتهم : «وَقرِي عَيْنا » بكسر القاف ، والقراءة عندنا على لغة قريش بفتح القاف .
وقوله : فإمّا تَرِيَنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا يقول : فإن رأيت من بني آدم أحدا يكلمك أو يسائلك عن شيء من أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما يقول : فقولي : إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألاّ أكلم أحدا من بني آدم اليوم فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا .
وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في هذه الاَية إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما صمتا .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : صمتا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : يعني بالصوم : الصمت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيميّ ، قال : سمعت أنسا قرأ : «إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما وَصَمْتا » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما أما قوله : صَوْما فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام ، إلا مِن ذكر الله ، فقال لها ذلك ، فقالت : إني أصوم من الكلام كما أصوم من الطعام ، إلا من ذكر الله فلما كلموها أشارت إليه ، فقالوا : كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا فأجابهم فقال : إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ حتى بلغ ذلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمْ قَوْلَ الحَقّ الّذِي فِيهِ يَمترُونَ .
واختلفوا في السبب الذي من أجله أمرها بالصوم عن كلام البشر ، فقال بعضهم : أمرها بذلك لأنه لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة ، وذلك أنها جاءت وهي أيّم بولد بالكفّ عن الكلام ليكفيها فأمرت الكلام ولدها . . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الاَخر ، فقال : ما شأنك ؟ فقال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم ، فقال عبد الله : كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدّقها أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها السلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد لما قال عيسى لمريم لا تَحْزَنِي قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة ، أيّ شيء عذري عند الناس يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا فقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا قال : هذا كله كلام عيسى لأمه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا فإني سأكفيك الكلام .
وقال آخرون : إنما كان ذلك آية لمريم وابنها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال في بعض الحروف : صمتا ، وذلك أنك لا تلقي امرأة جاهلة تقول : نذرت كما نذرت مريم ، ألا تكلم يوما إلى الليل ، وإنما جعل الله تلك آية لمريم ولابنها ، ولا يحلّ لأحد أن ينذر صمت يوم إلى الليل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، فقرأ : إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما وكانت تقرأ في الحرف الأوّل : صمتا ، وإنما كانت آية بعثها الله لمريم وابنها .
وقال آخرون : بل كانت صائمة في ذلك اليوم ، والصائم في ذلك الزمان كان يصوم عن الطعام والشراب وكلام الناس ، فأذن لمريم في قدر هذا الكلام ذلك اليوم وهي صائمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا يكلمك فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إنْسِيّا فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي ، فقيل لها : لا تزيدي على هذا .
وقوله { فكلي واشربي وقري } الآية ، قرأ الجمهور «وقَري » بفتح الكاف ، وحكى الطبري قراءة «وقِري » بكسر القاف ، وقرة العين مأخوذة من القر وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد المس ودمع الحزن سخن المس ، وضعفت فرقة هذا وقالت : الدمع كله سخن وإنما معنى قرة العين أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت به العين . وقال الشيباني { قري عيناً } معناه نامي ، حضها على الأكل والشرب والنوم . وقوله { عيناً } نصب على التمييز ، والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فينقل ذلك الى ذي العين وينصب الذي كان فاعلاً في الحقيقة على التفسير ، ومثله طبت نفساً وتفقأت شحماً وتصببت عرقاً ، وهذا كثير .
وقرأ الجمهور «ترين » وأصله ترءيين حذفت النون للجزم ، ثم نقلت حركة الهمزة الى الراء ، ثم قلبت الياء الأولى ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان الألف والياء{[7941]} ، فحذفت الألف فجاء ترى وعلى هذا النحو هو قول الأفوه : [ السريع ]
أما ترى رأسي أزرى به . . . {[7942]} ثم دخلت النون الثقيلة ، فكسرت الياء لاجتماع ساكنين منها ومن النون ، وإنما دخلت النون هنا بتوطئة «ما » كما توطئ لدخولها أيضاً لام القسم . وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «ترءين » بالهمزة ، وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة «ترينَ » بسكون الياء وفتح النون خفيفة ، قال أبو الفتح : وهي شاذة{[7943]} ، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها ، وتبين الآية فيقوم عذرها ، وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية وهو قول الجمهور . وقالت فرقة معنى { فقولي } بالإشارة لا بالكلام والا فكأن التناقض بين في أمرها . وقرأ ابن عباس وأنس بن مالك «إني نذرت للرحمن وصمت »{[7944]} . وقال قوم معناه { صوماً } عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
«خيل صيام »{[7945]} وأخرى غير صائمة . . . وقال ابن زيد والسدي : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام ، وقرأت فرقة «إني نذرت للرحمن صمتاً » ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتاً ، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق والكلام . قال المفسرون : أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج .
جملة { فَكُلِي } وما بعدها فذلكة للجمل التي قبلها من قوله { قد جعل ربك تحتك سرياً } أي فأنت في بحبوحة عيش .
وقرّة العين : كناية عن السرور بطريق المضادة ، لقولهم : سَخِنت عينه إذا كثر بكاؤه ، فالكناية بضد ذلك عن السرور كناية بأربع مراتب . وتقدم في قوله تعالى : { وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك } [ القصص : 9 ] . وقرّة العين تشمل هناء العيش وتشمل الأنس بالطفل المولود . وفي كونه قرّة عين كناية عن ضمان سلامته ونباهة شأنه .
وفتح القاف في { وقَرّي عيناً } لأنه مضارع قررت عينه من باب رضي ، أدغم فنقلت حركة عين الكلمة إلى فائها في المضارع لأن الفاء ساكنة .
{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولى إِنِّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } .
هذا من بقية ما ناداها به عيسى ، وهو وحي من الله إلى مريم أجراه على لسان الطفل ، تلقيناً من الله لمريم وإرشاداً لقطع المراجعة مع من يريدُ مجادلتها ، فعلّمها أن تنذر صوماً يقارنه انقطاع عن الكلام ، فتكون في عبادة وتستريح من سؤال السائلين ومجادلة الجهلة .
وكان الانقطاع عن الكلام من ضروب العبادة في بعض الشرائع السالفة ، وقد اقتبسه العرب في الجاهلية كما دلّ عليه حديث المرأة من أحمس التي حجّت مُصمتة . ونسخ في شريعة الإسلام بالسنة ، ففي « الموطأ » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال : ما بال هذا ؟ فقالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلسَ ويصوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليُتم صيامه " وكان هذا الرجل يدعَى أبا إسرائيل .
وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم ، فقال لها : « إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمي » . وفي الحديث أن امرأة من أحْمَسَ حجّت مُصمتة ، أي لا تتكلّم . فالصمت كان عبادة في شرع من قبلنا وليس هو بشرع لنا لأنه نسخه الإسلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم « مروه فليتكلّم » ، وعملِ أصحابه .
وقد دلّت الآثار الواردة في هذه على أشياء :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا ، فدلّ على أنه غير قربة .
الثاني : أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معيّن كقوله : عليّ نذر . وفي « الموطأ » عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك : ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدلّ ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه .
الثالث : أنه أومأ إلى علّة عدم انعقاد النذر به بقوله : « إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيّ » .
فعلمنا من ذلك أنّ معنى العبادة أن تكون قولاً أو فعلاً يشتمل على معنى يكسب النفس تزكية ويبلغ بها إلى غاية محمودة مثل الصوم والحج ، فيُحتمل ما فيها من المشقة لأجل الغاية السامية ، وليست العبادة بانتقام من الله لعبده ولا تعذيب له كما كان أهل الضلال يتقربون بتعذيب نفوسهم ، وكما شرع في بعض الأديان التعذيب القليل لخضد جلافتهم .
وفي هذا المعنى قوله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } [ الحج : 36 37 ] ، لأنهم كانوا يحسبون أن القربة إلى الله في الهدايا أن يريقوا دماءها ويتركوا لحومها ملقاة للعوافي .
وفي « البخاري » : عن أنس « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يُهادَى بين ابنيه فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن يمشي . قال : إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيّ . وأمره أن يركب » ، فلم ير له في المشي في الطواف قربة .
وفيه عن ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ وهو يطوف بالكعبة بإنسان رَبط يده إلى إنسان بِسِيَرٍ أو بخيط أو بشيء غير ذلك ، فقطعه النبي بيده ثم قال : قده بيده » .
وفي « مسند أحمد » عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاصي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان . فقال : ما بالهما ؟ قالا : إنّا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة ، فقال : أطلقا أنفُسكما ليس هذا نذراً إنما النذر ما يبتغى به وجه الله " وقال : إسناده حسن .
الرابع : أنّ الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ : نهى رسول الله عن ذلك ، ولذلك قال مالك في « الموطأ » عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس : « قال مالك : قد أمره رسول الله أن يتمّ ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية » .
ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم يكن فيه حَرج على النفس كنذر صمت ساعة ، وأنه تعذيب للنفس التي كرّمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرْء مفسدة مثل القصاص والجَلد . ولذلك قال : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنّ دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبْشاركم عليكم حرام " لأن شريعة الإسلام لا تُناط شرائعها إلاّ بجلب المصالح ودَرء المفاسد .
والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في « الموطأ » . ولذلك قال الشيخ أبو محمد في « الرسالة » : « ومَن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه ، وليستغفر الله » ، فقوله : « وليستغفر الله » بناء على أنه أتى بنذره مخالفاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه . ولو فعل أحد صمتاً بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراماً إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية .
وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحماً على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة .
ومعنى { فقولي إني نَذَرْت للرحمن صَوْماً } فانذري صوماً وإن لقيت من البشر أحداً فقولي : إنّي نذرت صوماً فحذفت جملة للقرينة . وقد جعل القول المتضمن إخباراً بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى : { قولوا آمنا بالله } [ البقرة : 136 ] . وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلاّ في حال الضرورة مع عدم تأتّي الصدق معها ، ولذلك جاء في الحديث : " إن في المعاريض مندوحة عن الكذب " .
وأطلق القول على ما يدلّ على ما في النفس ، وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوماً مجازاً بقرينة قوله { فلن أُكلِمَ اليَوْمَ إنْسِيّاً } . فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوماً بأن تشير إشارة تدلّ على الانقطاع عن الأكل ، وإشارةً تدل على أنها لا تتكلّم لأجل ذلك ، فإن كان الصوم في شرعهم مشروطاً بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية ، وإن كان الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين ، وقد علمت مريم أنّ الطفل الذي كلّمها هو الذي يتولى الجواب عنها حِين تُسأل بقرينة قوله تعالى : { فأشارت إليه } [ مريم : 29 ] .
والنون في قوله { تَرَيِنَّ } نون التوكيد الشديدة اتصلت بالفعل الذي صار آخره ياء بسبب حذف نون الرفع لأجل حرف الشرط فحركت الياء بحركة مجانسة لها كما هو الشأن مع نون التوكيد الشديدة .
والإنْسِي : الإنسان ، والياء فيه للنسب إلى الإنس ، وهو اسم جمع إنسان ، فياء النسب لإفادة فرد من الجنس مثل : ياء حَرْسي لواحد من الحرس . وهذا نكرة في سياق النفي يُفيد العموم ، أي لن أكلم أحداً .
وعدل عن أحد إلى { إنسياً } للرّعي على فاصلة الياء ، وليس ذلك احترازاً عن تكليمها الملائكة إذ لا يخطر ذلك بالبال عندالمخاطبين بمن هيئت لهم هذه المقالة فالحمل عليه سماجة .