تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (164)

{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

هذه المنة التي امتن الله بها على عباده ، أكبر النعم ، بل أصلها ، وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة ، وعصمهم به من الهلكة ، فقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } يعرفون نسبه ، وحاله ، ولسانه ، من قومهم وقبيلتهم ، ناصحا لهم ، مشفقا عليهم ، يتلو عليهم آيات الله ، يعلمهم ألفاظها ومعانيها .

{ ويزكيهم } من الشرك ، والمعاصي ، والرذائل ، وسائر مساوئ الأخلاق .

و { يعلمهم الكتاب } إما جنس الكتاب الذي هو القرآن ، فيكون قوله : { يتلو عليهم آياته } المراد به الآيات الكونية ، أو المراد بالكتاب -هنا- الكتابة ، فيكون قد امتن عليهم ، بتعليم الكتاب والكتابة ، التي بها تدرك العلوم وتحفظ ، { والحكمة } هي : السنة ، التي هي شقيقة القرآن ، أو وضع الأشياء مواضعها ، ومعرفة أسرار الشريعة .

فجمع لهم بين تعليم الأحكام ، وما به تنفذ الأحكام ، وما به تدرك فوائدها وثمراتها ، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين ، وكانوا من العلماء الربانيين ، { وإن كانوا من قبل } بعثة هذا الرسول { لفي ضلال مبين } لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم ، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها ، بل ما زين لهم جهلهم فعلوه ، ولو ناقض ذلك عقول العالمين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (164)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مّبِينٍ }

يعني بذلك : لقد تطوّل الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولاً ، حين أرسل فيهم رسولاً من أنفسهم ، نبيا من أهل لسانهم ، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يقول : يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله . { ويزكّيهم } يعني : يطهرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه ، وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم { وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ } يعني : ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه ، ويبين لهم تأويله ومعانيه ، والحكمة ويعني بالحكمة : السنة التي سنها الله جلّ ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه لهم { وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } يعني : إن كانوا من قبل أن يمنّ الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته ، لفي ضلال مبين ، يقول : في جهالة جهلاء ، وفي حيرة عن الهدى عمياء ، لا يعرفون حقا ، ولا يبطلون باطلاً . وقد بينا أصل الضلالة فيما مضى ، وأنه الأخذ على غير هدى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع والمبين : الذي يبين لمن تأمله بعقله وتدبره بفهمه أنه على غير استقامة ولا هدى .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَقَدْ مَنّ اللّهُ على المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهمْ رَسُولاً مِنْ أنْفُسِهمْ } منّ الله عليهم من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة ، جعله الله رحمة لهم ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراط مستقيم قوله : { وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ } الحكمة : السنة . { وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } : ليس الله كما تقول أهل حَرُوراء : محنة غالبة من أخطأها أهريق دمه ، ولكن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قوم لا يعلمون فعلمهم ، وإلى قوم لا أدب لهم فأدبهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : { لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلى المُوءْمِنينَ } إلى قوله { لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } : أي لقد منّ اللّهُ عليكم يا أهل الإيمان إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم ، يتلو عليكم آياته ، ويزكيكم فيما أخذتم ، وفيما علمتم ، ويعلمكم الخير والشرّ ، لتعرفوا الخير فتعملوا به ، والشرّ فتتقوه ، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه ، لتستكثروا من طاعته ، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته ، فتتخلصوا بذلك من نقمته ، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته . { وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي في عمياء من الجاهلية لا تعرفون حسنة ، ولا تستغيثون من سيئة ، صمّ عن الحقّ ، عمي عن الهدى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (164)

اللام في { لقد } لام القسم ، و { منّ } في هذه الآية معناه : تطول وتفضل ، وقد يقال : منّ بمعنى : كدرمعروفه بالذكر فهي لفظة مشتركة .

وقوله تعالى : { من أنفسهم } معناه في الجنس واللسان والمجاورة فكونه من الجنس يوجب الأنس به وقلة الاستيحاش منه ، وكونه بلسانهم يوجب حسن التفهيم وقرب الفهم ، وكونه جاراً وربياً يوجب التصديق والطمأنينة ، إذ قد خبروه وعرفوا صدقه وأمانته فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسب قومه ، وكذلك الرسل ، قال النقاش : ليس في العرب قبيلة إلى وقد ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاتهم إلا بني تغلب لنصرانيتهم ، والآيات في هذه الآية ، يحتمل أن يراد بها القرآن ويحتمل أن يراد بها العلامات ، والأول أظهر ، { ويزكيهم } معناه : يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي ، قال بعض المفسرين : معناه يأخذ منهم الزكاة ، وهذا ضعيف ، و { الكتاب } : القرآن ، { والحكمة } ، السنة المتعلمة من لسانه عليه السلام ، ثم ذكر حالتهم الأولى من الضلال ليظهر الفرق بتجاور الضدين- وقيل : لفظة مبنية لما تضمنت الإضافة ، فأشبهت الحروف في تضمن المعاني فبنيت .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (164)

استئناف لتذكير رِجال يومِ أُحُد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم . ومناسبةُ ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّاً عظيماً ، إذ قد شاع تصْبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم ، وله مزيد ارتباط بقوله : { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] ، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أُحُد ناشئاً بعضها عن بعض ، متفنّنة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرصُ الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طَلْقاً في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحاً إلى مُنْبَعثه .

والمنّ هنا : إسداء المِنّة أي النِّعمة ، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الَّذي في قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمَن والأذى } في سورة [ البقرة : 264 ] ، وإن كان ذكرُ هذا المنّ مَنّاً بالمعنى الآخر . والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنَّما كان مذموماً لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه ، وطوْل الله ليس بمجحود .

والمراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الَّذين كانوا مع النَّبيء بقرينة السياق وهو قوله : { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } أي من أمَّتهم العربية .

و ( إذ ) ظرف ل ( مَنّ ) لأنّ الإنعام بهذه النِّعمة حصل أوقات البعث .

ومعنى { من أنفسهم } المماثلةُ لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سبباً لقوّة التواصل ، وهي هنا النسب ، واللغة ، والوطن . والعرب تقول : فلان من بني فلان من أنفسهم ، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بوَلاء أو لصق ، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة ، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربياً يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه ، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به ، وكونه جاراً لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته ، إذ يكونون قد خبَروا أمره ، وعلموا فضله ، وشاهدوا استقامته ومعجزاته . وعن النقاش : قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تغْلِب ، وبذلك فسّر : « قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى » . وهذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم ، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر ، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم ، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة ، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر ، فيكونوا أعواناً على عموم الدعوة ، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها ، إذ لم يَفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي ، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين .

وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " من دخل في الإسلام فهو من العرب " .

وقوله : { يتلوا عليهم آياتيه } أي يقرأ عليهم القرآن ، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى ، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان .

والتزكية : التطهير ، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام .

وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرُهم بحفظ ألفاظه ، لتكون معانيه حاضرة عندهم .

والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام ، وذلك من معنى الحكمة ، وتقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] .

وعطفُ الحكمة على الكتاب عطف الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه ، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [ الحشر : 9 ] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام : " لا يُلدَغُ المؤمن من جحر مرّتين " وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فَرْض الصلاة والحجّ .

وجملة { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } حال ، وإنْ مخففة مهملة ، والجملة بعدها خبر عن ضمير الشأن محذوف ، والجملة خبره على رأي صاحب « الكشاف » ، وهو التحقيق إذ لا وجه لزوال عملها مع بقاء معناها ، ولا وجه للتفرقة بينها وبين المفتوحة إذا خففت فقد قدّروا لها اسماً هو ضمير الشأن ، بل نجد المكسورة أولى ببقاء العمل عند التخفيف لأنها أمّ الباب فلا يزول عملها بسهولة ، وقال جمهور النحاة : يبطل عملها وتكون بعدها جملة ، وعلى هذا فالمراد بإهمالها أنّها لا تنصب مفردين بل تعمل في ضمير شأن وجملة إمَّا اسمية ، أو فعلية فعلها من النواسخ غالباً .

ووصف الضلال بالمبين لأنّه لشدّته لا يلتبس على أحد بشائبة هُدى ، أو شبهة ، فكان حاله مبيّناً كونَه ضلالاً كقوله : { وقالوا هذا سحر مبين } [ النمل : 13 ] .

والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية .

ويجوز أن يشمل قوله : { على المؤمنين } المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنّه من نوع البشر . ويراد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي ، لأنّ تعليم ذلك متلقّي منه مباشرة أو بالواسطة .