{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ } التي هي أصغر الأشياء وأحقرها ، { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } أي في وسطها { أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ } في أي جهة من جهاتهما { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } لسعة علمه ، وتمام خبرته وكمال قدرته ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : لطف في علمه وخبرته ، حتى اطلع على البواطن والأسرار ، وخفايا القفار والبحار .
والمقصود من هذا ، الحث على مراقبة اللّه ، والعمل بطاعته ، مهما أمكن ، والترهيب من عمل القبيح ، قَلَّ أو كَثُرَ .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَبُنَيّ إِنّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } .
اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله إنّها فقال بعض نحويي البصرة : ذلك كناية عن المعصية والخطيئة . ومعنى الكلام عنده : يا بنيّ إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل ، أو إن الخطيئة . وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه الهاء عماد . وقال : أنّث تك ، لأنه يراد بها الحبة ، فذهب بالتأنيث إليها ، كما قال الشاعر :
وَتَشْرَقُ بالقَوْلِ الّذِي قَدْ أذَعْتَهُ *** كمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدّمِ
وقال صاحب هذه المقالة : يجوز نصب المثقال ورفعه قال : فمن رفع رفعه بتك ، واحتملت الننكرة أن لا يكون لها فعل في كان وليس وأخواتها ، ومن نصب جعل في تكن اسما مضمرا مجهولاً مثل الهاء التي في قوله إنّها إنْ تَكُ قال : ومثله قوله : فإنّها لا تَعْمَى الأَبْصَارُ قال : ولو كان إن يك مثقال حبة كان صوابا ، وجاز فيه الوجهان . وأما صاحب المقالة الأولى ، فإن نصب مثقال في قوله ، على أنه خبر ، وتمام كان ، وقال : رفع بعضهم فجعلها كان التي لا تحتاج إلى خبر .
وأولى القولين بالصواب عندي ، القول الثاني : لأن الله تعالى ذكره لم يعد عباده أن يوفيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم ، فيقال : إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها ، بل وعد كلا العاملين أن يوفيه جزاء أعمالهما . فإذا كان ذلك كذلك ، كانت الهاء في قوله إنّها بأن تكون عمادا أشبه منها بأن تكون كناية عن الخطيئة والمعصية . وأما النصب في المثقال ، فعلى أن في «تك » مجهولاً ، والرفع فيه على أن الخبر مضمر ، كأنه قيل : إن تك في موضع مثقال حبة ، لأن النكرات تضمر أخبارها ، ثم يترجم عن المكان الذي فيه مثقال الحبة .
وعنى بقوله : مِثْقالَ حَبّةٍ : زنة حبة . فتأويل الكلام إذن : إن الأمر إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شرّ عملته ، فتكن في صخرة ، أو في السموات ، أو في الأرض ، يأت بها الله يوم القيامة ، حتى يوفيك جزاءه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : يا بُنَيّ إنّها إنْ تَكُ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ من خير أو شرّ .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ فقال بعضهم : عنى بها الصخرة التي عليها الأرض وذلك قول رُوي عن ابن عباس وغيره ، وقالوا : هي صخرة خضراء . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : الصخرة خضراء على ظهر حوت .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : خلق الله الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكر الله في القرآن نَ والقلم وما يسطرون والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ، ولا في الأرض .
وقال آخرون : عنى بها الجبال ، قالوا : ومعنى الكلام : فتكن في جبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، في قوله : فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ : أي جبل .
وقوله : يَأْتِ بِها اللّهُ كان بعضهم يوجه معناه إلى يعلمه الله ، ولا أعرف يأتي به ، بمعنى يعلمه ، إلاّ أن يكون قائل ذلك أراد أن لقمان ، إنما وصف الله بذلك ، لأن الله يعلم أماكنه ، لا يخفى عليه مكان شيء منه فيكون وجها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ويحيى ، قالا : حدثنا أبو سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أوْ فِي السّمَوَاتِ ، أوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِها اللّهُ قال : يعلمها الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، مثله .
وقوله : إنّ اللّهَ لَطيفٌ خَبِيرٌ يقول : إن الله لطيف باستخراج الحبة من موضعها حيث كانت خبير بموضعها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة إنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ : أي لطيف باستخراجها خبير بمستقرّها .
المعنى وقال لقمان { يا بني } ، وهذا القول من لقمان إنما قصد إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه ، لأن «الخردلة » يقال إن الحس لا يقدر لها ثقلاً إذ لا ترجح ميزاناً ، وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بها علماً . وقوله { مثقال حبة } عبارة تصلح للجواهر ، أي قدر حبة ، وتصلح للأعمال أي ما تزنه على جهة المماثلة قدر حبة ، وظاهر الآية أنه أراد شيئاً من الأشياء خفياً قدر حبة ، ويؤيد ذلك ما روي من أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في مقل البحر يعلمها الله ، فراجعه لقمان بهذه الآية . وذكر كثير من المفسرين أنه أراد الأعمال المعاصي والطاعات ، ويؤيد ذلك قوله { يأت بها الله } أي لا تفوت ، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف منضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى ، وفي القول الآخر ليس ترجية ولا تخويف . ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر قراءة عبد الكريم الجزري «فتكِنّ » بكسر الكاف وشد النون من الكن الذي هو الشيء المغطى ، وقرأ جمهور القراء «إن تك » بالتاء من فوق «مثقالَ » بالنصب على خبر «كان » واسمها مضمر تقديره مسألتك على ما روي ، أو المعصية أو الطاعة على القول الثاني . ولهذا المقدر هو الضمير في { إنها } . وقرأ نافع وحده بالتاء أيضاً «مثقالُ » بالرفع على اسم «كان » وهي التامة . وأسند إلى المثقال فعلاً فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه وهذا كقول الشاعر : [ الطويل ]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت . . . أعاليَها مرُّ الرياح النواسم{[9368]}
وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر . وقوله { فتكن في صخرة } ، قيل أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء وهي على ظهر ملك وقيل هي صخرة في الريح .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف لا يثبته سند ، وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم ، أي أن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وفي الأرض . وقرأ قتادة «فتكِن » بكسر الكاف والتخفيف من كن يكن ، وتقدمت قراءه عبد الكريم «فتكِنّ » . وقوله { يأت بها الله } إن أراد الجواهر فالمعنى { يأت بها } إن احتيج إلى ذلك أو كانت رزقاً ونحو هذا ، وإن أراد الأعمال فمعناه { يأت } بذكرها وحفظها فيجازي عليها بثواب أو عقاب . و { لطيف خبير } صفتان لائقتان بإظاهر غرائب القدرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.