ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ، وأن الجميع يسألونه مطالبهم ، ويستدفعونه ما يضرهم ، ولكن مقاصدهم تختلف ، فمنهم : { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي : يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته ، وليس له في الآخرة من نصيب ، لرغبته عنها ، وقصر همته على الدنيا ، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين ، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه ، وكل من هؤلاء وهؤلاء ، لهم نصيب من كسبهم وعملهم ، وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم ، وهماتهم ونياتهم ، جزاء دائرا بين العدل والفضل ، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه ، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع ، مسلما أو كافرا ، أو فاسقا ، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه ، دليلا على محبته له وقربه منه ، إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين .
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ، من رزق هنيء واسع حلال ، وزوجة صالحة ، وولد تقر به العين ، وراحة ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ونحو ذلك ، من المطالب المحبوبة والمباحة .
وحسنة الآخرة ، هي السلامة من العقوبات ، في القبر ، والموقف ، والنار ، وحصول رضا الله ، والفوز بالنعيم المقيم ، والقرب من الرب الرحيم ، فصار هذا الدعاء ، أجمع دعاء وأكمله ، وأولاه بالإيثار ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ، والحث عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }
يعني بقول جل ثناؤه : فَإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فإذا فرغتم من حجكم فذبحتم نسائككم ، فاذْكُرُوا اللّهَ يقال منه : نسك الرجل ينسك نُسْكا ونُسُكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه ، والمنسك : اسم مثل المشرق والمغرب . فأما النسك في الدين ، فإنه يقال منه ما كان الرجل ناسكا ، ولقد نَسَك ، وَنسُك نُسْكا ونُسُكا ونساكة ، وذلك إذا تقرأ .
وبمثل الذي قلنا في معنى المناسك في هذا الموضع قال مجاهد .
3حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ قال : إهراقة الدماء .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأما قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا ، فإن أهل التأويل اختلفوا في صفة ذكر القوم آباءهم الذين أمرهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءهم أو أشدّ ذكرا ، فقال بعضهم : كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم ، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره ، وأن يلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره نظير ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن القاسم بن عثمان ، عن أنس في هذه الآية ، قال : كانوا يذكرون آباءهم في الحج ، فيقول بعضهم : كان أبي يطعم الطعام ، ويقول بعضهم : كان أبي يضرب بالسيف ، ويقول بعضهم : كان أبي جزّ نواصي بني فلان .
3وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز ، عن مجاهد قال : كانوا يقولون : كان آباؤنا ينحرون الجزر ، ويفعلون كذا ، فنزلت هذه الآية : اذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ اشَدّ ذِكْرا .
3حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال : كان أهل الجاهلية يذكرون فعال آبائهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش ، قال : كان أهل الجاهلية إذا فرغوا من الحجّ قاموا عند البيت فيذكرون آبائهم وأيامهم : كان أبي يطعم الطعام ، وكان أبي يفعل ، فذلك قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ . قال أبو كريب : قلت ليحيى بن آدم : عمن هو ؟ قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن أبي وائل .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني حجاج عمن حدثه ، عن مجاهد في قوله : اذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة فذكروا آباءهم ، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم ، فنزلت هذه الآية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة ، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم . قال : فنزلت هذه الآية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْركُمْ آباءَكُمْ قال : تفاخرت العرب بينها بفعل آبائها يوم النحر حين فرغوا فأمروا بذكر الله مكان ذلك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنى قعدوا حلقا ، فذكروا صنيع آبائهم في الجاهلية وفعالهم به ، يخطب خطيبهم ويحدّث محدّثهم ، فأمر الله عزّ وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشدّ ذكرا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا وذكروا آباءهم وأيامها ، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكر الله ، يذكرونه كذكرهم آبائهم ، أو أشدّ ذكرا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا : كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وقفوا بعرفة ، فنزلت هذه الآية .
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول ذلك يوم النحر حين ينحرون قال : قال فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال : كانت العرب يوم النحر حين يفرغون يتفاخرون بفعال آبائها ، فأمروا بذكر الله عزّ وجل مكان ذلك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فاذكروا الله كذكر الأبناء والصبيان الاَباء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عثمان بن أبي روّاد ، عن عطاء أنه قال في هذه الآية : كَذِكْركُمْ آباءَكُمْ قال : هو قول الصبيّ : يا أباه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ يعني بالذكر ، ذكر الأبناء الاَباء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : كَذِكْرِكُمْ آباَءكُمْ : أبه أمه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا صالح بن عمر ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : كالصبيّ يلهج بأبيه وأمه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : فَإذَا قَضَيَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْركُمْ آباَءكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا يقول : كذكر الأبناء الاَباء أو أشد ذكرا .
3حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا يقول : كما يذكر الأبناء الاَباء .
3حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ يعني ذكر الأبناء الاَباء .
وقال آخرون : بل قيل لهم : اذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربهم لم يذكروا غير آبائهم فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم . ذكر من قال ذلك :
3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقاموا بمنى يقوم الرجل فيسأل الله ويقول : اللهمّ إنّ أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيت أبي . ليس يذكر الله ، إنما يذكر آباءه ، ويسأله أن يعطى في الدنيا .
والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له بعد قضاء مناسكهم . وذلك الذكر جائز أن يكون هو التكبير الذي أمر به جل ثناؤه بقوله : واذْكُرُوا اللّهَ في أيّامٍ مَعْدُودَاتٍ الذي أوجبه على من قضى نسكه بعد قضائه نسكه ، فألزمه حينئذٍ من ذكره ما لم يكن له لازما قبل ذلك ، وحثّ على المحافظة عليه محافظة الأبناء على ذكر الاَباء في الإكثار منه بالاستكانة له والتضرّع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرّع الولد لوالده والصبيّ لأمه وأبيه ، أو أشدّ من ذلك إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه وهو وليه .
وإنما قلنا : الذكر الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاج بعد قضاء مناسكه بقوله : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُروا اللّهَ كَذِكْركُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا جائز أن يكون هو التكبير الذي وصفنا من أجل أنه لا ذكر لله أمر العباد به بعد قضاء مناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم ، سوى التكبير الذي خصّ الله به أيام منى .
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أنه جل ثناؤه قد أوجب على خلقه بعد قضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبا عليهم قبل ذلك ، وكان لا شيء من ذكره خصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه ، كانت بينة صحة ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ ربّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ .
يعني بذلك جل ثناؤه : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أيها المؤمنون فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والاَخرة بابتهال وتمسكن ، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصا ولطلب مرضاته ، وقولوا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاَخرة حسنة وقنا عذاب النار ولا تكونوا كمن اشترى الحياة الدنيا بالاَخرة ، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها ، فلا يسألون ربهم إلا متاعها ، ولا حظّ لهم في ثواب الله ، ولا نصيب لهم في جناته وكريم ما أعدّ لأوليائه ، كما قال في ذلك أهل التأويل .
3حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل : فَمِنَ النّاسِ مَن يقولُ ربّنَا آتِنا في الدّنيَا هب لنا غنما ، هب لنا إبلاً وَمالَهُ في الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، قال : كانوا في الجاهلية يقولون : هب لنا إبلاً ، ثم ذكر مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش في قوله : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُول رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَةٍ منْ خَلاقٍ قال : كانوا يعني أهل الجاهلية يقفون يعني بعد قضاء مناسكهم فيقولون : اللهمّ ارزقنا إبلاً ، اللهمّ ارزقنا غنما . فأنزل الله هذه الآية : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَة مِنْ خَلاقٍ . قال أبو كريب : قلت ليحيى بن آدم : عمن هو ؟ قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن أبي وائل .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن القاسم بن عثمان ، عن أنس : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَه فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون فيقولون : اللهمّ أسقنا المطر ، وأعطنا على عدوّنا الظفر ، وردّنا صالحين إلى صالحين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا نصرا ورزقا ، ولا يسألون لاَخرتهم شيئا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قول الله : فَمِنْ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فهذا عبد نوى الدنيا لها عمل ولها نصب .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُول رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَمالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى لا يذكر الله الرجلُ منهم ، إنما يذكر أباه ، ويسأل أن يعطى في الدنيا .
وحدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فإذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال : كانوا أصنافا ثلاثة في تلك المواطن يومئذٍ : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل الكفر ، وأهل النفاق . فمن الناس من يقول : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا وَما لَهُ فِي الاَخِرة مِنْ خَلاقٍ إنما حجوا للدنيا والمسألة لا يريدون الاَخرة ولا يؤمنون بها ، ومنهم من يقول : رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيا حَسَنَةً الآية . قال : والصنف الثالث وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيَا . . . الآية .
وأما معنى الخلاق فقد بيناه في غير هذا الموضع ، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويله والصحيح لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب ، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع .
{ فإذا قضيتم مناسككم } فإذا قضيتم العبادات الحجية وفرغتم منها . { فاذكروا الله كذكركم آباءكم } فأكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر أبائكم في المفاخرة . وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم . { أو أشد ذكرا } إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ . أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا . وإما منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آباءكم . أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره : أو كونوا أشد ذكرا منكم آبائكم . { فمن الناس من يقول } تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب به خير الدارين ، والمراد الحث على الإكثار والإرشاد إليه . { ربنا آتنا في الدنيا } اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا { وما له في الآخرة من خلاق } أي نصيب وحظ لأن همه مقصور بالدنيا ، أو من طلب خلاق .
تفريع على قوله : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } [ البقرة : 199 ] لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ومنى هي محل رمي الجمار ، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ثم الهدي بعد ذلك وقد تم الحج عند ذلك ، وقضيت مناسكه .
وقد أجمعوا على أن الحاج لا يرمي يوم النحر إلاّ جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك ، ثم يأتي الكعبة فيطوف طواف الإفاضة وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلاّ قربان النساء .
والمناسك جمع مَنْسَك مشتق من نسك نَسْكاً من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى : { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان والأول هو المناسب لقوله : { قضيتم } ؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم .
وقرأ الجميع { مناسككم } بفك الكافين وقرأه السوسي عن أبي عمرو بإدغامهما وهو الإدغام الكبير .
وقوله : { فاذكروا الله } أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضاً عليه وإبطالاً لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر ، فإنه يجر إلى المراء والجدال ، والمقصد أن يكون الحاج منغمساً في العبادة فعلاً وقولاً واعتقاداً .
وقوله : { كذكركم أباءكم } بيان لصفة الذكر ، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكراً كذكركم الخ إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم ، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل ( أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمى بها الجمرة ) فيفعلون ذلك .
وفي « تفسير ابن جرير » عن السدي : كان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته ، فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالاً نحواً من ذلك .
والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء .
وقوله : { أو أشد ذكرا } أضل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت ( أو ) معنى من التدرج إلى أعلى ، فالمقصود أن يذكروا الله كثيراً ، وشبه أولاً بذكر آبائهم تعريضاً بأنهم يشتغلون في ذلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر . ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جنى : إن ( أو ) في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفَيَا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل . وعليه خُرج قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] ، وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولاً إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائِهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر .
و ( أشد ) لا يخلو عن أن يكون معطوفاً على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله { كذكركم آباءكم } تقديره : { كذكركم آباءكم } فتكون فتحة { أشد } التي في آخره فتحة نصب ، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله { كذكركم } والتقدير : ذكراً كذكركم آباءكم ، وعلى هذا الوجه فنصب { ذكراً } يظهر أنه تمييز لأشد ، وإذ قد كان ( أشد ) وصفاً لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفه وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام ، إلاّ أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلاً قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين ، مع إفادة التمييز حينئذٍ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون : هو أشح الناس رجلاً ، وهما خير الناس اثنين ، وهذا ما درج عليه الزجاج في « تفسيره » ، قلت : وقريب منه استعمال تمييز ( نعم ) توكيداً في قوله جرير :
تَزَوَّدْ مثلَ زاد أبيك فينا *** فنِعْم الزاد زادُ أبيك زَادا
ويجوز أن يكون نصب { أشد } على الحال من ( ذكر ) الموالي له وأن أصل أشد نعت له وكان نظم الكلام : أو ذكراً أشد ، فقدم النعت فصار حالاً ، والداعي إلى تقديم النعت حينئذٍ هو الاهتمام بوصف كونه أشد ، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه ، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان . أو أن يكون ( أشد ) معطوفاً على ( ذكر ) المجرور بالكاف من قوله : { كذكركم } ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو ، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } [ النساء : 1 ] بجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى : { كخشية الله أو أشد خشية } في [ سورة النساء : 77 ] أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار ، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في إيضاح المفصل } ، وعليه ففتحة { أشد } نائبة عن الكسرة ، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب { ذكرا } على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج .
ولصاحب « الكشاف » تخريجان آخران لإعراب { أو أشد ذكراً } فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز ، ولابن جني تبعاً لشيخه أبي علي تخريج آخر ، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفاً ذكره عنه ابن المنير في « الانتصاف » ، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء .
وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي ، ونظيرتها آية سورة النساء ، قال الشيخ ابن عرفة في « تفسيره » « وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلاّ ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في [ سورة النساء : 77 ] { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه ؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له : ننظر ما قال : في { أشد خشية } فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذ ذاك على نسخها اهـ » .
وقوله : { فمن الناس من يقول } الخ ، الفاء للتفصيل ؛ لأن ما بعدها تقسيم لفريقين من الناس المخاطبين بقوله : { فاذكروا الله } الخ فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء ؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان ، لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلاّ تيمناً ورجاء فكان في الكلام تقدير كأنه قيل : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً وادْعوه ، ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك ، وإنما لم يفعل الذكر الأعم من الدعاء ، لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلاّ على وجه واحد وهو تمجيد الله والثناء عليه فلا حاجة إلى تفصيله تفصيلاً ينبه إلى ما ليس بمحمود ، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين ؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية براءة ، فيتعين أن المراد بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون ؛ لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة ، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين ، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة .
قوله : { آتنا } ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا ، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله { حسنة } فيما بعد ، أي { آتنا في الدنيا حسنة } .
و« الخلاق » بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلاقة وهي الجدارة ، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديراً به ، ولما كان معنى الجدارة مستلزماً نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله صلى الله عليه وسلم " إنما يلبس هذه من خلاق له " أي من الخير وقول البعيث بن حريث :
ولَسْتُ وإن قُرِّبْتُ يَوْماً ببائعٍ *** خَلاَقي ولا دِيني ابِتغاءَ التَّحَبُّبِ
وجملة { وما له في الآخرة من خَلَقِ } معطوفة على جملة { من يقول } فهي ابتدائية مثلها ، والمقصود : إخبار الله تعالى عن هذا الفريق من الناس أنه لا حظ له في الآخرة ، لأن المراد من هذا الفريق الكفار ، فقد قال ابن عطية : كانت عادتهم في الجاهلية ألا يدعوا إلاّ بمصالح الدنيا إذ كانوا لا يعرفون الآخرة .
ويجوز أن تكون الواو للحال ، والمعنى من يقول ذلك في حال كونه لا حظ له في الآخرة ولعل الحال للتعجيب .