تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة التحريم [ وهي مدنية ]

{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }

هذا عتاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، حين حرم على نفسه سريته " مارية " أو شرب العسل ، مراعاة لخاطر بعض زوجاته ، في قصة معروفة ، فأنزل الله [ تعالى ] هذه الآيات { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } أي : يا أيها الذي أنعم الله عليه بالنبوة والوحي والرسالة { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } من الطيبات ، التي أنعم الله بها عليك وعلى أمتك .

{ تَبْتَغِيَ } بذلك التحريم { مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } هذا تصريح بأن الله قد غفر لرسوله ، ورفع عنه اللوم ، ورحمه ، وصار ذلك التحريم الصادر منه ، سببًا لشرع حكم عام لجميع الأمة ، فقال تعالى حاكما حكما عاما في جميع الأيمان :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبيّ المحرّم على نفسه ما أحلّ الله له ، يبتغي بذلك مرضاه أزواجه ، لم تحرّم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك ، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة أزواجك .

واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله ، فحرّمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه ، فقال بعضهم : كان ذلك مارية مملوكته القبطية ، حرّمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طالبا بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته ، لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وفي حجرتها . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثني ابن أبي مريم ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : ثني زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أمّ إبراهيم في بيت بعض نسائه قال : فقالت : أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي ؟ ، فجعلها عليه حراما فقالت : يا رسول الله كيف تحرّم عليك الحلال ؟ ، فحلف لها بالله لا يصيبها ، فأنزل الله عزّ وجلّ : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ قال : زيد : فقوله أنت عليّ حرام لغو .

حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن علية ، قال : حدثنا داود ابن أبي هند ، عن الشعبيّ ، قال : قال مسروق إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته ، وآلى منها ، فجعل الحلال حراما ، وقال في اليمين : قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمانِكُمْ .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرّم ، فعوتب في التحريم ، وأمر بالكفارة في اليمين .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، قال لها : أنت عليّ حرام ، ووالله لا أطؤك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهَ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ قال : كان الشعبي يقول : حرّمها عليه ، وحلف لا يقربها ، فعوتب في التحريم ، وجاءت الكفارة في اليمين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وعامر الشعبيّ ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته . قال الشعبيّ : حلف بيمين مع التحريم ، فعاتبه الله في التحريم ، وجعل له كفارة اليمين .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ قال : إنه وَجَدَتِ امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جاريته في بيتها ، فقالت : يا رسول الله أنى كان هذا الأمر ، وكنتُ أهونهنّ عليك ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسْكُتي لا تَذْكُرِي هَذَا لأَحَدٍ ، هِيَ عَليّ حَرَامٌ إنْ قَرُبْتُها بَعْدَ هَذَا أبَدا » ، فقالت : يا رسول الله وكيف تحرم عليك ما أحلّ الله لك حين تقول : هي عليّ حرام أبدا ؟ فقال : وَاللّهِ لا آتيها أبَدا ، فقال الله : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ . . . الاَية ، قد غفرت هذا لك ، وقولك والله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ العَلِيمٌ الحَكِيمُ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة ، فغشيها ، فبصُرت به حفصة ، وكان اليوم يومَ عائشة ، وكانتا متظاهرتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اكْتُمي عَليّ وَلا تَذْكُرِي لِعائِشَةَ ما رأيْتِ » ، فذكرت حفصة لعائشة ، فغضبت عائشة . فلم تزل بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبدا ، فأنزل الله هذه الاَية ، وأمره أن يكفر يمينه ، ويأتي جاريته .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عامر ، في قول الله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ في جارية أتاها ، فأطلعت عليه حفصة ، فقال : هي عليّ حرام ، فاكتمي ذلك ، ولا تخبري به أحدا فذكرت ذلك .

وقال آخرون : بل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ، فجعل الله عزّ وجلّ تحريمه إياها بمنزلة اليمين ، فأوجب فيها من الكفارة مثل ما أوجب في اليمين إذا حنث فيها صاحبها . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ أمر الله النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا حرموا شيئا مما أحلّ الله لهم أن يكفروا أيمانهم بإطعام عشر مساكين أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، وليس يدخل ذلك في طلاق .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ . . . إلى قوله وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ قال : كانت حفصة وعائشة متحابتين وكانتا زوجتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذهبت حفصة إلى أبيها ، فتحدثت عنده ، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جاريته ، فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتهما في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها ، وغارت غيره شديدة ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ، ودخلت حفصة فقالت : قد رأيت من كان عندك ، والله لقد سُئْتَنِي ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «واللّهِ لأُرْضِيَنّكِ فإنّي مُسِرّ إلَيْكِ سِرا فاحْفَظِيهِ » قالت : ما هو ؟ قال : «إنّي أُشْهِدُكِ أنّ سُرّيّتِي هَذِهِ عَليّ حَرَامٌ رِضا لكِ » ، وكانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت حفصة إلى عائشة ، فأسرّت إليها أن أبشري إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حرّم عليه فتاته ، فلما أخبرت بسرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أظهر الله عزّ وجلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ . . . إلى قوله وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا هشام الدستوائي ، قال : كتب إليّ يحيى يحدّث عن يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جُبير ، أن ابن عباس كان يقول : في الحرام يمين تكفرها . وقال ابن عباس : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته ، فقال الله وجلّ ثناؤه : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ . . . إلى قوله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ فكفر يمينه ، فصير الحرام يمينا .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، قال : أنبأنا أبو عثمان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل بيت حفصة ، فإذا هي ليست ثَمّ ، فجاءته فتاته ، وألقى عليها سترا ، فجاءت حفصة فقعدت على الباب حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته ، فقالت : والله لقد سئتني ، جامعتها في بيتي ، أو كما قالت قال : وحرّمها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو كما قال .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادةيا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ . . . الاَية ، قال : كان حرم فتاته القبطية أمّ ولده إبراهيم يقال لها مارية في يوم حفصة ، وأسرّ ذلك إليها ، فأطلعت عليه عائشة ، وكانتا تظاهران على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأحلّ الله له ما حرّم على نفسه ، فأُمر أن يكفر عن يمينه ، وعوتب في ذلك ، فقال : قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ قال قتادة : وكان الحسن يقول حرّمها عليه ، فجعل الله فيها كفارة يمين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّمها يعني جاريته ، فكانت يمينا .

حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : من المرأتان ؟ قال : عائشة ، وحفصة . وكان بدء الحديث في شأن أمّ إبراهيم القبطية ، أصابها النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها ، فوجدته حفصة ، فقالت : يا نبيّ الله لقد جئت إليّ شيئا ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله في يومي وفي دوري ، وعلى فراشي قال : «ألا تَرْضَيْنَ أنْ أُحَرّمَها فَلا أقْرَبَهَا ؟ » قالت : بلى ، فحرّمها ، وقال : «لا تَذْكُرِي ذلكَ لأَحَدٍ » ، فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عزّ وجلّ عليه ، فأنزل الله : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَجكَ . . . الاَيات كلها ، فبلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كفر يمينه ، وأصاب جاريته .

وقال آخرون : كان ذلك شرابا يشربه ، كان يعجبه ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد ، قال : نزلت هذه الاَية في شراب يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَجكَ .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو قَطن البغدادي عمرو بن الهيثم ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن عبد الله بن شدّاد مثله .

قال : ثنا أبو قطن ، قال : حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن ابن أبي مليكة ، قال : نزلت في شراب .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة ، وجائز أن يكون كان غير ذلك ، غير أنه أيّ ذلك كان ، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله ، وبين له تحلّة يمينه كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه .

فإن قائل قائل : وما برهانك على أنه صلى الله عليه وسلم كان حلف مع تحريمه ما حرم ، فقد علمت قول من قال : لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك غير التحريم ، وأن التحريم هو اليمين ؟ قيل : البرهان على ذلك واضح ، وهو أنه لا يعقل في لغة عربية ولا عجمية أن قول القائل لجاريته ، أو لطعام أو شراب ، هذا عليّ حرام يمين ، فإذا كان ذلك غير معقول ، فمعلوم أن اليمين غير قول القائل للشيء الحلال له : هو عليّ حرام . وإذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا ، وفسد ما خالفه ، وبعد ، فجائز أن يكون تحريم النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حرّم على نفسه من الحلال الذي كان الله تعالى ذكره ، أحله له بيمين ، فيكون قوله لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ معنا : لم تحلف على الشيء الذي قد أحله الله أن لا تقربه ، فتحرّمه على نفسك باليمين .

وإنما قلنا : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم ذلك ، وحلف مع تحريمه ، كما :

حدثني الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، عن داود ابن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فأُمِرَ في الإيلاء بكفارة ، وقيل له في التحريم لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ .

وقوله : وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره : والله غفور يا محمد لذنوب التائبين من عباده من ذنوبهم ، وقد غفر لك تحريمك على نفسك ما أحله الله لك ، رحيم بعباده أن يعاقبهم على ما قد تابوا منه من الذنوب بعد التوبة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم مدنية وآيها اثنتا عشرة آية .

بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك روي أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في نوبة عائشة رضي الله تعالى عنها أو حفصة فاطلعت على ذلك حفصة فعاتبته فيه فحرم مارية فنزلت وقيل شرب عسلا عند حفصة فواطأت عائشة سودة وصفية فقلن له إنا نشم منك ريح المعافير فحرم العسل فنزلت تبتغي مرضاة أزواجك تفسير ل تحرم أو حال من فاعله أو استئناف لبيان الداعي إليه والله غفور لك هذه الزلة فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله رحيم رحمك حيث لم يؤاخذك به وعاتبك محاماة على عصمتك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } الخ سميت { سورة التحريم } في كتب السنة وكتب التفسير . ووقع في رواية أبي ذر الهروي لصحيح البخاري تسميتها باسم { سورة اللم تحرم } بتشديد اللام ، وفي الإتقان وتسمى { سورة اللم تحرم } ، وفي تفسير الكواشي أي بهمزة وصل وتشديد اللام مكسورة وبفتح الميم وضم التاء محققه وتشديد الراء مكسورة بعدها ميم على حكاية جملة { لم تحرم } وجعلها بمنزلة الاسم وإدخال لام تعريف العهد على ذلك اللفظ وإدغام اللامين .

وتسمى { سورة النبي } صلى الله عليه وسلم وقال الآلوسي : إن ابن الزبير سماها { سورة النساء } . قلت ولم أقف عليه ولم يذكر صاحب الإتقان هذين في أسمائها .

واتفق أهل العدد على أن عدة آيها اثنتا عشرة .

وهي مدنية . قال ابن عطية : بإجماع أهل العلم وتبعه القرطبي . وقال في الإتقان عن قتادة : إن أولها إلى تمام عشر آيات وما بعدها مكي ، كما وقعت حكاية كلامه . ولعله أراد إلى عشر آيات ، أي أن الآية العاشرة من المكي إذ من البعيد أن تكون الآية العاشرة مدنية والحادية عشر مكية .

وهي معدودة الخامسة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة .

ويدل قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أنها نزلت بعد سورة المائدة كما سيأتي .

وسبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .

إحداهما : ما ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش ، أو حفصة ، أو أم سلمة ، أو سودة بنت زمعة . والأصح أنها زينب . فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصه على أن أيتهما دخل عليها تقول له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا . فدخل على حفصة فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له ، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة لأنه يكره غضبها فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات .

هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات . والتحريم هو قوله : { ولن أعود له } لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا صدقا وكانت سودة تقول لقد حرمناه .

والثانية ما رواه ابن القاسم في المدونة عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال والله أطؤك ثم قال : هي علي حرام فأنزل الله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } .

وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها ، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها . فقالت حفصة : تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها . قيل : فقالت له حفصة : كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى { يا أيها النبي لما تحرم ما أحل الله لك } . وهو حديث ضعيف .

أغراض هذه السورة

ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة ، فإنما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على نفسه أو ينفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه وأسمى مقصدا .

وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات .

وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برها أن يكفر عنها ويفعل الذي هو خير . وقد ورد التصريح بذلك في حديث وقد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري ، وتقدم في سورة براءة .

وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق .

وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا .

وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها .

وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم .

افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه .

والاستفهام في قوله : { لم تحرم } مستعمل في معنى النفي ، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ اللَّه لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاماً بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصداً بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأْنَ عليه لِفرط غيرتهن ، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن ، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإِكرام في بعض الأيام .

وهذا يومىء إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعَى .

وفعل { تحرم } مستعمل في معنى : تجعل ما أحلّ لك حراماً ، أي تحرّمه على نفسك كقوله تعالى : { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } [ آل عمران : 93 ] وقرينتهُ قوله هنا : { ما أحل الله لك } .

وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراماً كما في قوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } [ التوبة : 37 ] ، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال : وسِّعْ هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط : وسِّعْ طَوْق الجبّة .

ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيّرت إباحته حراماً على الناس أو عليك . ومن العجيب قول « الكشاف » : ليس لأحد أن يُحرّم ما أحلّ الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله إلخ .

وصيغة المضارع في قوله : { لم تحرم } لأنه أوقع تحريماً متجدداً .

فجملة { تبتغي } حال من ضمير { تحرم } . فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله : { لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] .

وفي الإِتيان بالموصول في قوله : { ما أحل الله لك } لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه .

وفي قوله : { تبتغي مرضات أزواجك } عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيراً وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضاً وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن ، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارَض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة .

وذيل بجملة { والله غفور رحيم } استئناساً للنبيء صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام ، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله : { عفا الله عنك لما أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] .