تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

ولهذا قال : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي : عاليًا به ، مستعليًا بخلقك الذي من الله عليك به ، وحاصل خلقه العظيم ، ما فسرته به أم المؤمنين ، [ عائشة -رضي الله عنها- ] لمن سألها عنه ، فقالت : " كان خلقه القرآن " ، وذلك نحو قوله تعالى له : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } [ الآية ] ، { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، [ والآيات ] الحاثات على الخلق العظيم{[1188]}  فكان له منها أكملها وأجلها ، وهو في كل خصلة منها ، في الذروة العليا ، فكان صلى الله عليه وسلم سهلًا لينا ، قريبًا من الناس ، مجيبًا لدعوة من دعاه ، قاضيًا لحاجة من استقضاه ، جابرًا لقلب من سأله ، لا يحرمه ولا يرده خائبًا ، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه ، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور ، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ، بل يشاورهم ويؤامرهم ، وكان يقبل من محسنهم ، ويعفو عن مسيئهم ، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتمَّ عشرةٍ وأحسنَها ، فكان لا يعبس في وجهه ، ولا يغلظ عليه في مقاله ، ولا يطوي عنه بشره ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه ، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان ، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم .

فلما أنزله الله في أعلى المنازل من جميع الوجوه ، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون .


[1188]:- في ب: على كل خلق جميل.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم ، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به ، وهو الإسلام وشرائعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ يقول : دين عظيم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ يقول : إنك على دين عظيم ، وهو الإسلام .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : خُلُقٍ عَظِيمٍ قال : الدين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : سألت عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، تقول : كما هو في القرآن .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ذُكر لنا أن سعيد بن هشام سأل عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قال : قلت : بلى ، قال : فإن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن .

حدثنا عُبيد بن آدم بن أبي إياس ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن سعيد بن هشام ، قال : أتيت عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها ، فقلت : أخبريني عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، أما تقرأ : وإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبير بن نُفَير قال : حججت فدخلت على عائشة ، فسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن .

حدثنا عبيد بن أسباط ، قال : ثني أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيمٍ قال : أدب القرآن .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ . قال : على دين عظيم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ . يعني دينه ، وأمره الذي كان عليه ، مما أمره الله به ، ووكله إليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

{ وإنك لعلى خلق عظيم } إذ تتحمل من قومك ما لا يتحمل أمثالك ، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقلت : كان خلقه القرآن ألست تقرأ القرآن ، قد أفلح المؤمنون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : خلقه القرآن{[11230]} أدبه وأوامره ، وقال علي رضي الله عنه : الخلق العظيم أدب القرآن ، وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع ، وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده ، أما أن الظاهر من الآية أن الخلق هي التي تضاد مقصد الكفار في قولهم مجنون ، أي غير محصل لما يقول ، وإنما مدحه تعالى بكرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب{[11231]} ، ومنه قوله عليه السلام : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق »{[11232]} . وقال جنيد : سمي خلقه عظيماً ، إذ لم تكن له همة سوى الله تعالى ، عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه ، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق ، وفي وصية بعض الحكماء ، عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق ، وحسن الخلق خير كله . وقال صلى الله عليه وسلم : «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار »{[11233]} . وقال : «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن »{[11234]} ، وقال : «أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً »{[11235]} والعدل والإحسان والعفو والصلة من الخلق .


[11230]:أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، ومسلم، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه عن سعد بن هشام، قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أخبرني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن (وإنك لعلى خلق عظيم)، وأخرج مثله ابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي الدرداء، وأخرج مثله ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق العقيلي، وأخرج مثله ابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، وابن مردويه عن أبي عبد الله الجدلي، وأخرج ابن مردويه عن زينب بنت يزيد بن وسق قالت: كنت عند عائشة إذ جاءها نساء أهل الشام، فقلن: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كان خلقه القرآن، وكان أشد الناس حياء من العواتق في خدرها . (الدر المنثور).
[11231]:من معافي الضرب: المشاركة في الأمر والإسراع فيه.
[11232]:أخرجه الإمام مالك في موطئه، والإمام احمد في مسنده (2/381)، ولفظه فيه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
[11233]:أخرجه أبو داود: وابن حبان في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها، وقد رمز له الإمام السيوطي في "الجامع الصغير" بأنه حديث حسن، ولفظه كما جاء فيه (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم).
[11234]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/442)، والترمذي في البر، ولفظه كما في مسند أحمد: عن عطاء بن نافع أنهم دخلوا على أم الدرداء فأخبرتهم أنها سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أفضل شيء في الميزان – قال ابن أبي بكير: أثقل شيء في الميزان- يوم القيامة الخلق الحسن).
[11235]:أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، وفي المناقب، والترمذي في البر، وأحمد في مسنده (4/193)، ولفظه كما جاء في مسند أحمد: عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا، الثرثارون المتفيقهون المتشدقون).