{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }
تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي ، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا ، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة ، وتنزعج منه أولو العقول .
فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد ، بل ولا مثله ، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم ، أي : فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم ، بما فيها من العذاب العظيم ، والخزي المهين ، وسخط الجبار ، وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسار . فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته .
وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار ، أو حرمان الجنة .
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين . والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق : شمس الدين بن القيم رحمه الله في " المدارج " فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال : وقالت فِرقَة : هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه .
وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها ، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص .
فالتوبة مانع بالإجماع ، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها ، والحسنات العظيمة الماحية مانعة ، والمصائب الكبار المكفرة مانعة ، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص ، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين .
ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه ، وإعمالا لأرجحها .
قالوا : وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما . وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا ، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه ، ويكون الحكم للأغلب منهما .
فالقوة مقتضية للصحة والعافية ، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة ، وفعل القوة والحكم للغالب منهما ، وكذلك قوى الأدوية والأمراض . والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب ، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه ، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له .
ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار ، وعكسه ، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه . ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله ، حتى كأنه يشاهده رأي عين .
ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه ، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك ، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه ، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره .
وهذا يقين الإيمان ، وهو الذي يحرق السيئات ، كما تحرق النار الحطب ، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات ، وإن وقعت منه وكثرت ، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه ، وهذا من أحب الخلق إلى الله . انتهى كلامه قدس الله روحه ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا .
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يقتل مؤمنا عامدا قتله ، مريدا إتلاف نفسه ، { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } يقول : فثوابه من قتله إياه جهنم ، يعني : عذاب جهنم ، { خَالدا فيها } يعني : باقيا فيها . والهاء والألف في قوله : «فيها » من ذكر جهنم . { وَغَضبَ اللّهِ عَلَيْهِ } يقول : وغضب الله بقتله إياه متعمدا ، { وَلَعَنَهُ } يقول : وأبعده من رحمته وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما ، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره .
واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحقّ صاحبه أن يسمّى متعمدا بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلاً بحدّ حديد يجرح بحدّه ، أو يَبْضَع ويقطع ، فلم يقلع عنه ضربا به ، حتى أتلف نفسه ، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه أنه عامد قتله . ثم اختلفوا فيما عدا ذلك ، فقال بعضهم : لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : العمد : السلاح أو قال : الحديد قال : وقال سعيد بن المسيب : هو السلاح .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : العمد ما كان بحديدة ، وما كان بدون حديدة فهو شبه العمد ، لا قود فيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : العمد ما كان بحديدة ، وشبه العمد : ما كان بخشبة ، وشبه العمد لا يكون إلا في النفس .
حدثني أحمد بن حماد الدولابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، قال : من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بالعصيّ فهو خطأ ديته دية الخطأ ، ومن قتل عمدا فهو قود يديه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ومغيرة ، عن الحارث وأصحابه في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضا حتى يموت ، قال : أسأل الشهود أنه ضربه ، فلم يزل مريضا من ضربته حتى مات ، فإن كان بسلاح فهو قود ، وإن كان بغير ذلك فهو شبه العمد .
وقال آخرون : كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد ، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة عن عبيد بن عمير ، أنه قال : وأيّ عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن إبراهيم ، قال : إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود .
وعلة من قال كلّ ما عدا الحديد خطأ ، ما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي عازب ، عن النعمان بن بشير ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كُلّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلاّ السّيْفَ ، وَلِكُلّ خَطَأٍ أرْشٌ » .
وعلة من قال : حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد ، ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن يهوديّا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين ، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقتله بين حجرين .
قالوا : فأقاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر وذلك غير حديد . قالوا : وكذلك حكم كلّ من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به ، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : كل من ضرب إنسانا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه ، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شيء¹ للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها } فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه : فجزاؤه جهنم إن جازاه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : هو جزاؤه ، وإن شاء تجاوز عنه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن يسار ، عن أبي صالح : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : جزاؤه جهنم إن جازاه .
وقال آخرون : عُني بذلك رجل بعينه كان أسلم ، فارتدّ عن إسلامه وقتل رجلاً مؤمنا¹ قالوا : فمعنى الاَية : ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلاّ قتله ، فجزاؤه جهنم خالدا فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة ، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الدية قبلها ، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله . قال ابن جريج وقال غيره : ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار ، ثم بعث مِقْيَسا وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيّدا ، فضرب به الأرض ، ورضخ رأسه بين حجرين ، ثم أُلفي يتغنى :
قَتَلْتُ بِهِ فِهْرا وَحَمّلْتُ عَقْلَهُ ***سَرَاةَ بني النّجّار أرْبابِ فارعِ
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أظُنّهُ قَدْ أحْدَثَ حَدَثا ، أمَا وَاللّهِ لَئِنْ كانَ فَعَلَ لا أُؤَمّنُهُ فِي حِلّ وَلا حَرَمٍ ، وَلا سِلْمٍ وَلا حَرْبٍ » فقتل يوم الفتح¹ قال ابن جريج : وفيه نزلت هذه الاَية { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . الاَية .
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من تاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو حدثني الحكم ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ، ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد ، فقال : إلا من ندم .
وقال آخرون : ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل ، على ما وصفه في كتابه ، ولم يجعل له توبة من فعله . قالوا : فكلّ قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار ، ولا توبة له . وقالوا : نزلت هذه الاَية بعد التي في سورة الفرقان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن يحيى الجاري ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كفّ بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأني له التوبة والهدي ، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : «ثَكِلَتْهُ أُمّهُ ! رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمّدا ، جاءَ يَوْمَ القِيامَة آخِذا بِيَمِينِه أوْ بِشِمالِهِ ، تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ دَما ، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرّحْمَنِ ، يَلْزَمُ قاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى يقولُ : سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَتَنِي » . والذي نفسي عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الاَية فما نسختها من آية حتى قُبِض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدهما من برهان .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد ، عن عمرو بن قيس ، عن يحيى بن الحارث التيمي ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحا ؟ فقال : وأنّى له التوبة ! .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا همام عن يحيى ، عن رجل ، عن سالم ، قال كنت جالسا مع ابن عباس ، فسأله رجل فقال : أرأيت رجلاً قتل مؤمنا متعمدا أين منزله ؟ قال : جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنّي له الهدى ثكلته أمه ! والذي نفسي بيده لسمعته يقول يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ مُعَلّقا رأسُهُ باحْدَى يَدَيْهِ ، إمّا بِيَمِينِهِ أوْ بِشِمَالِهِ ، آخِذا صَاحِبَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ حِيالَ عَرْضِ الرّحْمَنِ يَقُولُ : يا رَبّ سَلْ عَبْدَكَ هَذَا عَلامَ قَتَلَنِي ؟ » فما جاء نبيّ بعد نبيكم ، ولا نزل كتاب بعد كتابكم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا عمان بن زريق ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فوالله لقد أنزلت على نبيكم ثم ما نسخها شيء ، ولقد سمعته يقول : { وَيْلٌ لِقاتِلِ المُؤْمِنِ ، يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَة آخِذا رأسَهُ بِيَدِهِ ثم ذكر الحديث نحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أي عديّ ، عن سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي عبد الرحمن بن أبزي : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } فقال : لم ينسخها شيء . وقال في هذه الاَية : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما } قال : نزلت في أهل الشرك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين ، فذكر نحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو حُدثت عن سعيد بن جبير ، أن عبد الرحمن بن أبزي أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين التي في النساء : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } . . . . إلى آخر الاَية ، والتي في الفرقان : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما } . . . إلى : { وَيخْلُدْ فِيهِ مُهانا } قال ابن عباس : إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له . وأما التي في الفرقان ، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة : فقد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ وأتينا الفواحش ، فما ينفعنا الإسلام ؟ قال : فنزلت { إلاّ مَنْ تابَ } . . . الاَية .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : ما نسخها شيء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هي من آخر ما نزلت ما نسخها شيء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فدخلت إلى ابن عباس فسألته ، فقال : لقد نزلت في آخر ما نزل من القرآن وما نسخها شيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس معاوية بن قرّة ، قال : أخبرني شهر بن حوشب ، قال : سمعت ابن عباس يقول : نزلت هذه الاَية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّم } بعد قوله : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا } بسنة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرّة ، عن ابن عباس ، قال : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : نزلت بعد : { إلاّ مَنْ تَابَ } بسنة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس ، قال : ثني من سمع ابن عباس يقول : في قاتل المؤمن نزلت بعد ذلك بسنة ، فقلت لأبي إياس : من أخبرك ؟ فقال : شهر بن حوشب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي حصين ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } قال : ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني عمي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . الاَية ، قال عطية : وسئل عنها ابن عباس ، فزعم أنها نزلت بعد الاَية التي في سورة الفرقان بثمان سنين ، وهو قوله : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ } . . . إلى قوله : { غَفُورا رَحِيما } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مطرف ، عن أبي السفر ، عن ناجية ، عن ابن عباس ، قال : هما المبهمتان : الشرك ، والقتل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله وقتل النفس التي حرّم الله¹ لأن الله سبحانه يقول : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أشياخه الكوفيين ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن ابن مسعود في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إنها لمحكمة ، وما تزداد إلا شدة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثني هياج بن بسطام ، عن محمد بن عمرو ، عن موسى بن عقبة ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر .
حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : ثني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، قا : قال ابن عباس : يأتي المقتول يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه وأوداجه تشخب دما ، يقول : يا ربّ دمي عند فلان ! فيؤخذان فيسندان إلى العرش ، فما أدري ما يقضي بينهما . ثم نزع بهذه الاَية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها } . . . الاَية . قال ابن عباس : والذي نفسي بيده ما نسخها الله جلّ وعزّ منذ أنزلها على نبيكم عليه الصلاة والسلام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت ، عن زيد بن ثابت ، قال : سمعت أباك يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة بسنة أشهر ، قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . إلى آخر الاَية ، بعد قوله : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ } . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد ، قال : سمعت أباك في هذا المكان بمني يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة ، قال : أراه بستة أشهر ، يعني : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } بعد : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : ما نسخها شيء منذ نزلت ، وليس له توبة .
قال أبو جعفر : وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه إنْ جزاه جهنم خالدا فيها ، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله ، فلا يجازيهم بالخلود فيها ، ولكنه عزّ ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار ، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله : { يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا } .
فإن ظنّ ظانّ أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الاَية ، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه ، لأن الشرك من الذنوب ، فإن الله عزّ ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } والقتل دون الشرك .
{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } لما فيه من التهديد العظيم . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . " لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا " . ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه . والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب } ونحوه وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره ، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدا ، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم .