فأعرضوا عن المنعم ، وعن عبادته ، وبطروا النعمة ، وملوها ، حتى إنهم طلبوا وتمنوا ، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى ، التي كان السير فيها متيسرا .
{ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } بكفرهم باللّه وبنعمته ، فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة ، التي أطغتهم ، فأبادها عليهم ، فأرسل عليها سيل العرم .
أي : السيل المتوعر ، الذي خرب سدهم ، وأتلف جناتهم ، وخرب بساتينهم ، فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة ، والأشجار المثمرة ، وصار بدلها أشجار لا نفع فيها ، ولهذا قال : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ } أي : شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعا { خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } وهذا كله شجر معروف ، وهذا من جنس عملهم .
ثم بين - سبحانه - ما أصابهم بسبب جحودهم وبطرهم فقال : { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } .
والعرم : اسم للوادى الذى كان يأتى منه السيل . وقيل : هو المطر الشديد الذى لا يطاق .
فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة . أى : أرسلنا عليهم السيل الشديد المدمر .
ويرى بعضهم أن المراد بالعرم : السدود التى كانت مبنية لحجز الماء من خلفها ، ويأخذون منها لزروعهم على قدر حاجتهم ، فلما أصيبوا بالترف والجحود تركوا العناية بإصلاح هذه السدود ، فتصدعت ، واجتاحت المياه آراضيهم فأفسدتها ، واكتسبت مساكنهم ، فتفرقوا عنها ، ومزقوا شر ممزق ، وضرب بهم الأمثال التى منها قولهم : تفرقوا أيدى سبأ . وهو مثل بضرب لمن تفرق شملهم تفرقا لا الاجتماع لهم معه .
وهذا ما حدث لقبيلة سبأ فقد تفرق بعضهم غلى المدينة المنورة كالأوس والخزرج ، وذهب بعضهم إلى عمان كالأزد ، وذهب بعضهم إلى الشام كقبيلة غسان .
وقوله : { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } الأكل : هو الثمر ، ومنه قوله - تعالى - : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } أى : ثمرها . والخمط : هو ثمر الأراك أو هو النبت المر الذى لا يمكن أكله .
و ( الأثل ) هو نوع من الشجر يشبه شجر الطرفاء . أو هو نوع من الشجر كثير الشوك و ( السدر ) هو ما يعرف بالنبق . أو هو نوع من الثمار التى يقل الانتفاع بها .
والمعنى : فأعرض أهل سبأ عن شكرنا وطاعتنا . . فكانت نتيجة ذلك ، أن أرسلنا عليهم السيل الجارف ، الذى احتج أراضهيم ، فأفسد مزارعهم ، وأجلاهم عن ديارهم ، ومزقهم شر ممزق . . وبدلناهم بالجنان اليانعة التى كانوا يعيشون فيها ، بساتين أخرى قد ذهبت ثمارها الطيبة اللذيذة ، وحلت محلها ثمار مرة لا تؤكل ، وتناثرت فىأما كنهم الأشجار التى لا تسمن ولا تغنى من جوع ، بدلا من تلك الأشجار التى كانت تحمل لهم ما لذ وما طاب ، وعظم نفعه .
فالمقصود من الآية الكريمة ببيان أن الجحود والبطر ، يؤديان إلى الخراب والدمار ، وإلى زوال النعم وتحويلها إلى نقم .
ولذا جاء التعقيب بعد هذه الآية بقوله - تعالى - : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور } .
تفريع على قوله : { واشكروا له } [ سبأ : 15 ] وقع اعتراضاً بين أجزاء القصة التي بقيتها قوله : { وجعلنا بينهم وبين القرى } [ سبأ : 18 ] الخ . وهو اعتراض بالفاء مثل قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } وتقدم في سورة الأنفال ( 14 ) .
والإِعراض يقتضي سبق دعوة رسول أو نبيء ، والمعنى : أعرضوا عن الاستجابة لدعوة التوحيد بالعود إلى عبادة الشمس بعد أن أقلعوا في زمن سليمان وبلقيس ، فلعل بلقيس كانت حولتهم من عبادة الشمس فقد كانت الأمم تتبع أديان ملوكهم ، وقد قيل إن بلقيس لم تعمر بعد زيارة سليمان إلا بضع سنين .
والإِرسال : الإطلاق وهو ضد الحبس ، وتعديته بحرف ( على ) مؤذنة بأنه إرسال نقمة فإن سيل العرم كان محبوساً بالسد في مأرب فكانوا يرسلون منه بمقدار ما يَسقون جناتهم ، فلما كفروا بالله بعد الدعوة للتوحيد قدر الله لهم عقاباً بأن قدر أسباب انهدام السد فاندفع ما فيه من الماء فكان لهم غرقاً وإتلافاً للأنعام والأشجار ، ثم أعقبه جفاف باختلال نظام تساقط الأمطار وانعدام الماء وقت الحاجة إليه ، وهذا جزاء على إعراضهم وشركهم .
و{ العرم } يجوز أن يكون وصفاً من العرامة وهي الشدة والكثرة فتكون إضافة « السيل » إلى { العرم } من إضافة الموصوف إلى الصفة . ويجوز أن يكون { العرم } اسماً للسيل الذي كان ينصبّ في السد فتكون الإِضافة من إضافة المسمى إلى الاسم ، أي السيْل العرم .
وكانت للسيول والأودية في بلاد العرب أسماء كقولهم : سيل مهزور ومذينيب الذي كانت تسقى به حدائق المدينة ، ويَدل على هذا المعنى قول الأعشى :
وقيل : { العرم } اسم جمع عرَمَة بوزن شَجرة ، وقيل لا واحد له من لفظه وهو ما بني ليمسك الماء لغة يمنية وحبشية . وهي المسناة بلغة أهل الحجاز ، والمسناة بوزن مفعلة التي هي اسم الآلة مشتق من سنيت بمعنى سَقيت ، ومنه سميت الساقية سانية وهي الدلو المستقى به والإِضافة على هذين أصيلة .
والمعنى : أرسلنا السيل الذي كان مخزوناً في السدّ .
وكان لأهل سبأ سدّ عظيم قرب بلاد مأرب يعرف بسد مأْرب ( ومأرب من كور اليمن ) وكان أعظم السداد في بلاد اليمن التي كانت فيها سداد كثيرة متفرقة وكانوا جعلوا هذه السداد لخزن الماء الذي تأتي به السيول في وقت نزول الأمطار في الشتاء والربيع ليسقوا منها المزارع والجنات في وقت انحباس الأمطار في الصيف والخريف فكانوا يعمدون إلى ممرات السيول من بين الجبال فيبنون في ممر الماء سوراً من صخور يبنونها بناء محكماً يصبون في الشقوق التي بين الصخور القَار حتى تلتئم فينحبس الماء الذي يسقط هنالك حتى إذا امتلأ الخَزَّان جعلوا بجانبيه جوابي عظيمة يصب فيها الماء الذي يفيض من أعلى السد فيقيمون من ذلك ما يستطيعون من توفير الماء المختزَن .
وكان سدّ مأرب الذي يُحفظ فيه { سيل العرم } شَرع في بنائه سبأ أول ملوك هذه الأمة ولم يتمه فأتمه ابنه حِمير . وأما ما يقال من أن بلقيس بنته فذلك اشتباه إذ لعل بلقيس بنت حوله خزانات أخرى فرعية أو رممت بناءه ترميماً أطلق عليه اسم البناء ، فقد كانوا يتعهدون تلك السداد بالإِصلاح والترميم كل سنة حتى تبقى تجاه قوة السيول الساقطة فيها .
وكانوا يجعلون للسد منافذ مغلقة يزيلون عنها السَّكْر إذا أرادوا إرسال الماء إلى الجنات على نوبات يرسل عندها الماء إلى الجهات المتفرقة التي تسقى منه إذ جعلوا جناتهم حول السد مجتمعة . وكان يصب في سد مأرب سبعون وادياً .
وجعلوا هذا السد بين جبلين يعرف كلاهما بالبَلَق فهما البلَق الأَيمن والبلق الأَيسر .
وأعظم الأودية التي كانت تَصبّ فيه اسمه « إذنه » فقالوا : إن الأودية كانت تأتي إلى سبأ من الشحْر وأودية اليمن .
وهذا السد حائط طُوله من الشرق إلى الغرب ثمانمائة ذراع وارتفاعه بضع عشرة ذراعاً وعرضه مائة وخمسون ذراعاً .
وقد شاهده الحَسَن الهمداني ووصفه في كتابه المسمى ب« الإِكليل » وهو من أهل أوائل القرن الرابع بما سمعت حاصله . ووصفه الرحالة ( أرنو ) الفرنسي سنة 1883 والرحالة ( غلازر ) الفرنسي .
ولا يعرف وقت انهدام هذا السد ولا أسباب ذلك . والظاهر أن سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخلية بينهم ألهتهم عن تفقد ترميمه حتى تخرب ، أو يكون قد خربه بعض من حاربهم من أعدائهم ، وأما ما يذكر في القصص من أن السد خربته الجرذان فذلك من الخرافات .
وفي { العرم } قال النابغة الجعدي :
من سَبَإِ الحاضرين مأرب إذ *** يبنون من دون سيله العَرِما
والتبديل : تعويض شيء بآخر وهو يتعدى إلى المأخوذ بنفسه وإلى المبذول بالباء وهي باء العوض كما تقدم في قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } في سورة النساء ( 2 ) .
فالمعنى : أعطيناهم أشجار خَمْط وأثْل وسِدر عوضاً عن جنتيهم ، أي صارت بلادهم شَعْراء قاحلة ليس فيها إلا شجر العِضاه والبادية ، وفيما بين هذين الحالين أحوال عظيمة انتابتهم فقاسوا العطش وفقدان الثمار حتى اضطروا إلى مفارقة تلك الديار ، فلما كانت هذه النهاية دالة على تلك الأحوال طوي ذكر ما قبلها واقتصر على { وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتيْ أكل خمط } إلى آخره .
وإطلاق اسم الجنتين على هذه المنابت مشاكلة للتهكم كقول عمرو بن كلثوم
قريناكم فعجلنا قِراكم *** قبيل الصُبح مِرداة طحونـا
وقوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } [ الانشقاق : 24 ] .
وقد وصف الأعشى هذه الحالة بدءاً ونهاية بقوله :
وفي ذاكَ للمؤنسي عِبـرة *** ومأْرب عَفى عليها العــرم
رخام بنته لهم حِميـــر *** إذا جاء مَوَّاره لم يَـــرم
فأروى الزروع وأعنابهـا *** على سَعة ماؤهم إذا قُســم
فعاشوا بذلك في غبطــة *** فحاربهم جارف منهـــزم
فطار القيول وقيلاتهــا *** ببهماء فيها سراب يطِـــم
فطاروا سراعاً وما يقدرو *** ن منه لشرب صُبيّ فُطِــم
والخَمْط : شَجر الأراك . ويطلق الخمط على الشيء المُرّ .
والأثل : شجر عظيم من شجر العضاه يشبه الطرفاء . والسدر : شجر من العضاه أيضاً له شَوْك يشبه شجر العناب . وكلها تنبت في الفيافي .
والسدر : أكثرها ظلاً وأنفعها لأنه يغسل بورقه مع الماء فينظف وفيه رائحة حسنة ولذلك وصف هنا بالقليل لإِفادة أن معظم شجرهم لا فائدة منه ، وزيد تقليله قلة بذكر كلمة { شَيء } المؤذنة في ذاتها بالقلة . يقال : شيء من كذا ، إذا كان قليلاً .
وفي القرآن : { وما أغني عنكم من الله من شيء } [ يوسف : 67 ] .
والأُكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف : المأكول . قرأه نافع وابن كثير بضم الهمزة وسكون الكاف . وقرأه باقي العشرة بضم الكاف .
وقرأ الجمهور { أكل } بالتنوين مجروراً فإذا كان { خمط } مراداً به الشجر المسمّى بالخمط ، فلا يجوز أن يكون { خمط } صفة ل { أكل } لأن الخمط شجر ، ولا أن يكون بدلاً من { أكل } كذلك ، ولا عطف بيان كما قدره أبو علي لأن عطف البيان كالبدل المطابق ، فتعين أن يكون { خمط } هنا صفة يقال : شيء خَامط إذا كان مُرًّا .
وقرأه أبو عمرو ويعقوب { أكل } بالإِضافة إلى { خمط } ، فالخمط إِذَن مراد به شجر الأراك ، وأُكله ثمره وهو البَرير وهو مرّ الطعم .
ومعنى { ذواتي أكل } صاحبتي { أُكل } ف ( ذوات ) جمع ( ذَات ) التي بمعنى صَاحبة ، وهي مؤنث ( ذو ) بمعنى صاحب ، وأصل ذات ذَواة بهاء التأنيث مثل نَواة ووزنها فَعَلة بفتحتين ولامها واو ، فأصلها ذَوَوَه فلما تحركت الواو إثر فتحة قلبت ألفاً ثم خففوها في حال الإِفراد بحذف العين فقالوا : ذات فوزنها فَلَتْ أو فَلَهْ . قال الجوهري : أصل التاء في ذات هاء مثل نَواة لأنك إذا وقفت عليها في الواحد قلت : ذاه بالهاء ، ولكنهم لما وصلوها بما بعدها بالإِضافة صارت تاء . ويدل لكون أصلها هاء أنه إذا صُغر يقال ذُويَّة بهاء التأنيث ا ه . ولم يبين أيمة اللغة وجه هذا الإِبدال ولعله لكون الكلمة بنيت على حرف واحد وألف هي مَدّة الفتحة فكان النطق بالهاء بعدهما ثقيلاً في حال الوقف ، ثم لما ثنّوْها ردُّوها إلى أصلها لأن التثنية تردُّ الأشياء إلى أصولها فقالوا : ذَوَاتَا كذا ، وحذفت النون للزوم إضافته ، وأصله : ذَوَيات . فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ووزنه فَعَلَتَان وصار وزنه بعد القلب فعاتان وإذا جمعوها عادوا إلى الحذف فقالوا ذوات كذا بمعنى صاحبتات ، وأصله ذويات فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فأصل وزن ذوات فَعَلاَت ثم صار وزنه بعد القلب فَعَات ، وهو مما أُلحق بجمع المؤنث السالم لأن تاءه في المفرد أصلها هاء ، وأما تاؤه في الجمع فهي تاء صارت عوضاً عن الهاء التي في المفرد على سُنة الجمع بألف وتاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فعصوا ربهم فلم يشكروه فذلك قوله عز وجل: {فأعرضوا}.
{فأعرضوا} عن الحق {فأرسلنا عليهم سيل العرم} والسيل هو الماء، والعرم اسم الوادي... {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} وهو الأراك {وأثل} يعني شجرة تسمى الطرفاء، يتخذون منها الأقداح النضار {وشيء من سدر قليل} وثمرة السدر النبق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فأعرضت سبأ عن طاعة ربها وصدّت عن اتباع ما دعتها إليه رسلها من أنه خالقها... "فأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ "يقول تعالى ذكره: فثقبنا عليهم حين أعرضوا عن تصديق رسلنا سدّهم الذي كان يحبس عنهم السيول.
والعرم: المسناة التي تحبس الماء، واحدها: عرمة... عن مجاهد، في قول الله: "سَيْلَ العَرِمِ" قال: شديد.
وقيل: إن العرم: اسم واد كان لهؤلاء القوم...
وقال آخرون: العَرِم: صفة للمُسَنّاة التي كانت لهم وليس باسم لها...
ثم اختلف أهل العلم في صفة ما حدث عن ذلك الثقب مما كان فيه خَراب جَنتيهم؛
فقال بعضهم: كان صفة ذلك أن السيل لما وجد عملاً في السدّ عمِل فيه، ثم فاض الماء على جناتهم، فغرّقها وخرّب أرضهم وديارهم...
وقال آخرون: كانت صفة ذلك أن الماء الذي كانوا يعمُرُون به جَناتهم سال إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، فبذلك خربت جناتهم... والقول الأوّل أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه أرسل عليهم سيل العرم، ولا يكون إرسال ذلك عليهم إلا بإسالته عليهم، أو على جناتهم وأرضهم، لا بصرفه عنهم.
وقوله: "وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتيْ أُكُلٍ خَمْطٍ" يقول تعالى ذكره: وجعلنا لهم مكان بساتينهم من الفواكه والثمار، بساتين من جَنى ثمر الأراك، والأراك: هو الخَمْط...
وأما "الأَثْل" فإنه يقال له الطّرْفاء وقيل: شجر شبيه بالطّرْفاء، غير أنه أعظم منها. وقيل: إنها السّمُر...
وقوله: "وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ" يقول: ذواتي أُكُل خَمْطٍ وأَثْلٍ وشيءٍ من سدر قليل...
عن قتادة "ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ" قال: بينما شجر القوم خير الشجر، إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كذلك من الناس من يكون في رَغَدٍ من الحال، اتصالٍ من التوفيق، وطَرَبٍ من القلب، ومساعدةٍ من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً أو يسيء أدباً أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما هو به، فيتغير عليه الحالُ؛ فلا وقتَ ولا حالَ، ولا طربَ ولا وصالَ؛ يُظْلِمُ عليه النهارُ وقد كانت لياليه مضيئةَ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر، دل على ذلك بقوله: {فأعرضوا} ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم، بينه بقوله: {فأرسلنا} ودل على أنه إرسال عذاب بعد مظهر العظمة بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم سيل العرم} أي سيح المطر الغالب المؤذي الشديد الكثير الحاد الفعل المتناهي في الأذى الذي لا يرده شيء ولا تمنعه حيلة بسد ولا غيره من العرامة، وهي الشدة والقوة، فأفسد عليهم جميع ما ينتفعون به... ولما غرق من غرق منهم ونجا من نجا، تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا: تفرقوا أيدي سبا وأيادي سبا، والأوس والخزرج منهم، وكان ذلك في الفترة التي بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. {وبدلناهم بجنتيهم} أي جعلنا لهم بدلهما {جنتين} هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم، ولذلك فسرهما بقوله إعلاماً بإن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم: {ذواتي أكل} أي ثمر {خمط} وقراءة الجماعة بتنوين {أكل} أقعد في التهكم من قراءة أبي عمرو ويعقوب بالإضافة.
ولما كان الخمط مشتركاً بين البهائم والإنسان في الأكل والتجنب، والله أعلم بما أراد منه، لأنه ضرب من الأراك، له ثمر يؤكل، وكل شجرة مرة ذات شوك، والحامض أو المر من كل شيء، وكل نبت أخذ طعماً من مرارة حتى لا يؤكل، ولا يمكن أكله، وثمر يقال له فسوة الضبع على صورة الخشخاش ينفرك ولا ينتفع به، والحمل القليل من كل شجر، ذكر ما يخص البهائم التي بها قوام الإنسان فقال: {وأثل} أي و ذواتي أثل، وهو شجر لا ثمر له، نوع من الطرفاء، ثم ذكر ما يخص الإنسان فقال: {وشيء من سدر} أي نبق {قليل} وهذا يدل على أن غير السدر وهو ما لا منفعة فيه أو منفعته مشوبة بكدر أكثر من السدر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أعرضوا عن شكر الله، وعن العمل الصالح، والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه، وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت؛ ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
سلط عليهم الكوارث والأهوال، فتهدم (سد مأرب) الذي كان يعد من أعاجيب العالم القديم، إذ كان أوسع السدود وأشهرها، (وهو يبعد عن مدينة صنعاء بنحو ستين ميلا، ولا تزال بقاياه ماثلة للعيان إلى الآن) وطغى ماء السد وماء السيل على ما كان عندهم من بساتين ومزارع وأبنية، فذهب العمران والازدهار، وحل محله الخراب والدمار.
قوله تعالى: {فَأَعْرَضُواْ..} أي: عن المأمور به، وهو {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ..} [سبأ: 15] فلم يأكلوا من رزق الله، إنما أكلوا من سعيهم ومهارتهم -على حدِّ زعمهم- وهذه أول الخيبة، ثم لم يشكروا الله على هذه النعم؛ لأن النعم أترفتهم فنسوا شكرها.
وفَرْق بين ترف وأترف، نقول: ترف فلان أن تنعَّم. لكن أترف فلان، أي: غرَّته النعمة؛ لذلك قال تعالى: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا..} [الإسراء: 16].
فلا بأس أنْ تتنعم، لكن المصيبة أن تُطغيك النعمة، وتغرّك، وأول طغيان بالنعمة أن تنسبها إلى نفسك فتقول: بمجهودي وشطارتي كالذي قال:
{إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ..} [القصص: 78] ثم أنْ تنسى المنعِم، فلا تشكره على النعمة...
وكلمة الإعراض تُعطِي شيئاً فوق الإهمال وفوق النسيان؛ لأن الإعراض أنْ تنصرف عن مُحدِّثك وتعطيه جانبك...
إذن: الإعراض تَرْك متعمَّد بلا مبالاة، أما السهو أو النسيان أو الخطأ أو عند النوم، فهذه كلها أمور مُعْفىً عنها، قد رفعها الله عنَّا رحمة بنا، فربُّك عز وجل لا يعاملك إلا على اليقظة والانتباه وتعمد الفعل.
واقرأ إنْ شئتَ قول ربك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىٰ} [طه: 124].
لماذا؟ لأن الإعراض فيه شبهة عدم اعتناء بالآمر، فالنكبة فيه أشدُّ على خلاف أنْ تكون معتنياً بالآمر، وبعد ذلك تتهم نفسك لأيِّ سبب آخر...
فماذا كانت نتيجة هذا الإعراض؟ يقول تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ..} أي: بعد أن انهار سدُّ العرم، فسال ماؤه، فأغرقهم، ومن العجيب أن الله تعالى جعل من الماء كل شيء حي، لكن إذا أراده سبحانه وسيلة هلاك أهلك، وبه أهلك اللهُ قومَ نوح، وبه أهلك فرعونَ وجنوده، وهذا من طلاقة قدرة الله، حيث يوجه الشيء للحياة فيُحيى، وللهلاك فيُهلك.
وبعد أنْ أفزعهم سيل العرم لماذا أرادوا الإقامة بعد ذلك أقاموا في أماكن لا ماء فيها، فإذا أرادوا الماء جلبوه من الآبار بالقِرَب، وكأن الماء أحدث لديهم (عقدة)...
والسيل: أن يسيل الماء على وجه الأرض بعد أن تشرَّبت منه قَدْر حاجتها، فما فاض عليها سال من مكان لآخر، والحق سبحانه يعلمنا: قبل أنْ نبحث عن مصادر الماء لا بُدَّ أنْ نبحث عن مصارفه حتى لا يغرقنا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«العرم»: من «العرامة» وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل، ووصف «السيل» بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير. وتعبير «سيل العرم» من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.
ولعلّ ذكر هذه الأنواع الثلاثة من الأشجار التي بقيت في تلك الأرض المدمّرة إشارة إلى ثلاثة اُمور: أحدها قبيح المنظر، والثّاني لا نفع فيه، والثالث له منفعة قليلة جدّاً.