{ 22 } { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
أي : أي الرجلين أهدى ؟ من كان تائها في الضلال ، غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه ، فصار الحق عنده باطلًا ، والباطل حقًا ؟ ومن كان عالمًا بالحق ، مؤثرًا له ، عاملًا به ، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله ؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين ، يعلم الفرق بينهما ، والمهتدي من الضال منهما ، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال .
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لأهل الإِيمان وأهل الكفر ، وأهل الحق وأهل الباطل ، فقال - سبحانه - : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
والمُكِب : هو الإِنسان الساقط على وجهه ، يقال : كبَّ فلان فلانا وأكبه ، إذا صرعه وقلبه بأن جعل وجهه على الأرض . . فهو اسم فاعل من أكب .
وقوله : { أهدى } مشتق من الهدى ، وهو معرفة طريق الحق والسير فيها ، والمفاضلة هنا ليست مقصودة ، لأن الذى يمشي مكبا على وجهه ، لا شئ عنده من الهداية أو الرشد إطلاقا حتى يفاضل مع غيره ، وفيه لون من التهكم بهذا المكب على وجهه .
و " السوي " هو الإِنسان الشديد الاستواء والاستقامة ، فهو فعيل بمعنى فاعل .
ومنه قوله - تعالى - حكاية عما قاله إبراهيم - عليه السلام - لأبيه - : { ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً }
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى . . . } : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه ، كمثل من يمشي مكبا على وجهه ، أي : يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه ، أي : لا يدري أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال ، أهذا أهدى { أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً } أي : منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي على طريق واضح بين ، وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة .
هذا مثلهم في الدنيا ، وكذلك يكونون في الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشي سويا على صراط مستقيم . . وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى النار . .
وروى الإِمام أحمد عن أنس قال : " قيل يا رسول الله ، كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال : " أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم "
وقال الجمل : هذا مثل للمؤمن والكافر ، حيث شبه - سبحانه - المؤمن في تمسكه بالدين الحق ، ومشيه على منهاجه ، بمن يمشي في الطريق المعتدل ، الذي ليس فيه ما يتعثر به . .
وشبه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل ، بمن يمشي في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض ، فيتعثر ويسقط على وجهه ، وكلما تخلص من عثرة وقع في أخرى .
فالمذكور في الآية هو المشبه به ، والمشبه محذوف ، لدلالة السياق عليه . .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد لفتت أنظار الناس إلى التفكر والاعتبار ، ووبخت المشركين على جهالاتهم وطغيانهم ، وساقت مثالا واضحا للمؤمن والكافر ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة .
واختلف أهل التأويل في سبب قوله : { أفمن يمشي مكباً } الآية ، فقال جماعة من رواة الأسباب : نزلت مثلاً لأبي جهل بن هشام وحمزة بن عبد المطلب ، وقال ابن عباس وابن الكلبي وغيره : نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك : نزلت مثالاً للمؤمنين والكافرين على العموم ، وقال قتادة : نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وإن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة ، وقيل للنبي : كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ قال : «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجله ، قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه »{[11221]} .
قال القاضي أبو محمد : فوقف الكفار على هاتين الحالتين حينئذ ، ففي الأقوال الثلاثة المشي مجاز يتخيل ، وفي القول الرابع هو حقيقة يقع يوم القيامة . ويقال : أكب الرجل ، إذا رد وجهه إلى الأرض ، وكبه : غيره ، قال عليه السلام : «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم »{[11222]} ، فهذا الفعل خلاف للباب : أفعل لا يتعدى وفعل يتعدى ، ونظيره قشعت الريح السحاب فأقشع ، و { أهدى } في هذه الآية أفعل من الهدى .
هذا مثَل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين : كافر ومؤمن ، لأنه جاء مفرعاً على قوله : { إن الكافرون إلاّ في غرور } [ الملك : 20 ] وقوله : { بل لَجُّوا في عتوّ ونفور } [ الملك : 21 ] وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله : { أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم } [ الملك : 20 ] { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } [ الملك : 21 ] ، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثَللِ السوء ، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول ، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء . ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المُنصِف نحو { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال .
والذي انقدح لي : أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله : { على صراط مستقيم } فلا بد من اعتبار مَشي المكبّ على وجهه مشياً على صراط مُعْوجّ ، وتعين أن يكون في قوله : { مكباً على وجهه } استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطاً معوجاً في تأمله وترسُّمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضلّ فيه ، بحال المكِبّ على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله : { سَوِيّاً } المشعر بأن { مُكباً } أطلق على غير السوي وهو المنحني المطأطىء يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود .
فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطفُ على بعض القبائل من بعض ، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات ، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيلة إله أو آلهة فتقسموا الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول ، وكذلك حال أهل الإِشراك في كل زمان ، ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله : { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } [ يوسف : 39 ] . ويُنَور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] وقوله : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين } [ يوسف : 108 ] ، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإِسلام بالسُّبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام ، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبهاً بالسبيل وسالكُه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله : { وما أنا من المشركين } [ يوسف : 108 ] .
فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله { يمشي مكبّاً على وجهه } تشبيه لحال المشرك في تقسُّم أمره بين الآلهة طلباً للذي ينفعه منها الشاكّ في انتفاعه بها ، بحال السائر قاصداً أرضاً معينة ليست لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلُغ إلى مقصده فيبقى حائراً متوسماً يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإِبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة .
وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليها بقوله : { مكباً على وجهه } بتشبيه حال المتحيّر المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض .
وقوله : { أمَّن يمشي سويّاً } تشبيه لحال الذي آمن بربّ واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق ، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلاّ إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره .
وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني .
والفاء التي في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا ، والاستفهام تقريري .
والمُكِب : اسم فاعل من أكَب ، إذا صار ذا كَبّ ، فالهمزة فيه أصلها لإِفادة المصير في الشيء مثل همزة : أقشع السحابُ ، إذا دخل في حالة القشع ، ومنه قولهم : أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم ، وأرملوا إذا فني زادهم ، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعدياً والمهموز قاصراً .
و { أهدى } مشتق من الهُدَى ، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكباً على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى : { قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } [ يوسف : 33 ] في قول كثير من الأيمة . ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام .
والسويّ : الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى : { أهْدِك صراطاً سوياً } [ مريم : 43 ] . و ( أم ) في قوله : { أمن يمشي سوياً } حرف عطف وهي ( أم ) المعادلة لهمزة الاستفهام . و ( مَن ) الأولى والثانية في قوله : { أفمن يمشي مكباً } أو قوله : { أمن يمشي سوياً } موصولتان ومحْملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين ، وقيل : أريد شخص معيّن أريد بالأولى أبو جهل ، وبالثانية النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر أو حمزة رضي الله عنهما .