{ 117 - 118 } { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } فغفر لهم الزلات ، ووفر لهم الحسنات ، ورقاهم إلى أعلى الدرجات ، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات ، ولهذا قال : { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } أي : خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة " تبوك " {[386]} وكانت في حر شديد ، وضيق من الزاد والركوب ، وكثرة عدو ، مما يدعو إلى التخلف .
فاستعانوا اللّه تعالى ، وقاموا بذلك { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } أي : تنقلب قلوبهم ، ويميلوا إلى الدعة والسكون ، ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم . وزَيْغُ القلب هو انحرافه عن الصراط المستقيم ، فإن كان الانحراف في أصل الدين ، كان كفرا ، وإن كان في شرائعه ، كان بحسب تلك الشريعة ، التي زاغ عنها ، إما قصر عن فعلها ، أو فعلها على غير الوجه الشرعي .
وقوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي : قبل توبتهم { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة ، وقبلها منهم وثبتهم عليها .
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده المؤمنين ، حيث تقبل توبتهم ، وتجاوز عن زلاتهم ، فقال - تعالى - : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي . . . . } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك ، وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه فيما سبق ، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقى من أحكامها ، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجرى مجرى ترك الأولى ، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة ، فذكر - سبحانه - أنه تفضل عليهم ، وتاب عليهم ، في تلك الزلات ، فقال - تعالى - : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار } .
وللعلماء أقوال في المراد بالتوبة التي تابها الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - وعلى المهاجرين والأنصار : فمنهم من يرى أن المرد بها قبول توبتهم ، وغفران ذنوبهم ، والتجاوز عن زلاتهم التي حدثت منهم في تلك الغزوة أو في غيرها ، وإلى هذا المعنى أشارة القرطبى بقوله :
قال ابن عباس : كانت التوبة على النبى - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنه أذن للمنافقين في القعود ، بدليل قوله - سبحانه - قبل ذلك : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . . } وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه - أى : إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك .
ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها ، والحض على تجديدها ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال : { تَابَ الله على النبي } كقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وكقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبى والمهاجرين والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . .
ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا : دوامها لا أصلها ، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : لقد تاب الله على النبى . . " أى : أدام توبته على النبى والمهاجرين والأنصار . وهذا جواب عما يقال : من أن النبى معصوم من الذبن ، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا في هذه القضية ، بل اتبعوه من غير تلعثم ، قلنا : المراد بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها . . " .
ومنهم من يرى أن ذكر النبى هنا إنما هو من باب التشريف ، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات . وقد وضح هذا المعنى الإِمام الآلوسى فقال : قال أصحاب المعانى : المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار ، إلا أنه جئ في ذلك بالنبى - صلى الله عليه وسلم - تشريفا لهم ، وتعظيما لقدرهم ، وهذا كما قالوا في ذكره - تعالى - في قوله :
{ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية أى : عفا - سبحانه - عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم حنين . .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله - تعالى - على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت في هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ، وبمقتضى الاجتهاد في أمور لم يبين الله - تعالى - حكمه فيها ، فهى لا تنقص من منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من منزلة أصحابه الصادقين في إيمانهم .
والمعنى : لقد تقبل الله - تعالى - توبة النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار ، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص في ساعة العسرة . أى في وقت الشدة والضيق ، وهو وقت غزوة تبوك ، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت .
وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، كما كان الجيش الذي اشترك فيها يسمى بجيش العسرة ، وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها في مجدبة ، وحر شديد ، وفقر في الزاد والماء والراحلة .
قال ابن كثير : قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر في الزاد والماء .
وقال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر - أى شدته - على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم تعب شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما .
وقال الحسن : كان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحداً . يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك ، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ، ثم يشر عليها جرعة من الماء . . ومضوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - على صدقهم ويقينهم - رضى الله عنهم .
وقوله : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } بيان لتناهى الشدة ، وبلوغها الغاية القصوى .
أى : تاب - سبحانه - على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب .
وفى ذكر { فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار ، مضوا معه - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد في قوة إيمانهم وصدق يقينهم ، وضماء عزيمتهم ، وشدة إخلاصهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : وفى " كاد " ضمير الشأن و " قلوب " فاعل " يزيغ " والجملة في موضع الخبر لكاد . . وهذا على قراءة " يزيغ " بالياء ، وهى قراءة حمزة ، وحفص والأعمش .
وأما على قراء " تزيغ " بالتاء ، وهى قراءة الباقين . فيحتمل أن يكون " قلوب " اسم كان " وتزيغ " خبرها ، وهي ضمير يعود على اسمها .
وقوه : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم . ولطفه بهم .
أى : ثم تاب عليهم - سبحانه - بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس . إنه بهم رءوف رحيم .
قال بعضهم : فإن قلت : قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار ؟
قلت : إنه - سبحانه - ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه - تعالى - قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم ، ثم أتبعه بقوله - سبحانه - { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تأكيدا لذلك . والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع .
وقال القرطبى : قوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وتلك سنة الحق - سبحانه - مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك ، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم .
منك أرجوا ولست أعرب ربا . . . يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأر . . . ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجو . . . ع ، وصروا على الذنوب ولجوا
«التوبة » من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها ، فقد تكون في الأكثر رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله ، وأما توبته عل «المهاجرين والأنصار » فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا ، و { اتبعوه } معناه : دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، وقوله { في ساعة العسرة } ، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن ، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلَّ من الزمن كالقطعة من النهار .
ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية » الحديث{[5950]} ، فهي هنا بتجوز ، ويمكن أن يريد بقوله { في ساعة العسرة } الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله ، وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين «في ساعة عسرة » و { العسرة } الشدة وضيق الحال والعدم ، ومنه قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة }{[5951]} وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه : «من جهز جيش العسرة فله الجنة »{[5952]} فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلب الدنانير بيده وقال : «وما على عثمان ما عمل بعد هذا » ، وجاء أيضاً رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر{[5953]} ، وقال مجاهد وقتادة : إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين ، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر ، وحينئذ قال رجل من المنافقين : وهل هذه إلا سحابة مرت ؟{[5954]} ، وكانت الغزوة في شدة الحر ، وكان الناس كثيراً ، فَقَّل الَّظْهر فجاءتهم العسرة من جهات ، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة{[5955]} وغيرهما على الجزية ونحوهما ، وانصرف وأما «الزيغ » الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه ، فقيل همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة ، قاله الحسن ، وقيل زيغها إنما بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود ، وقرأ جمهور الناس وأبو بكر عن عاصم «تزيغ » بالتاء من فوق على لفظ القلوب .
وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الدال في التاء ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم والأعمش والجحدري «يزيغ » بالياء على معنى جمع القلوب ، وقرأ ابن مسعود «من بعد ما زاغت قلوب فريق » وقرأ أبي بن كعب «من بعد ما كادت تزيغ » وأما كان فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء أولها وأقواها القصة والشأن هذا مذهب سيبويه ، وترتفع «القلوبُ » على هذا ب «تزيغ » والثاني أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولاً ، ويقدر ذلك القوم فكأنه قال من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوبهم فريق منهم ، والثالث أن يرتفع بها «القلوب » ويكون في قوله «تزيغ » ضمير «القلوب » ، وجاز ذلك تشبيهاً بكان في قوله { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين }{[5956]} وأيضاً فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير ، وشبهت { كاد } ب «كان » للزوم الخبر لها ، قال أبو علي ولا يجوز ذلك في عسى{[5957]} .
ثم أخبر عز وجل أنه تاب أيضاً على هذا الفريق وراجع به ، وأنس بإعلامه للأمة بأنه { رؤوف رحيم } والثلاثة هم كعب بن مالك{[5958]} وهلال بن أمية الواقفي{[5959]} ومرارة بن الربيع العامري ويقال ابن ربيعة ويقال ابن ربعي{[5960]} ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم{[5961]} وهو في السير ، فلذلك اختصرنا سوقه ، وهم الذين تقدم فيهم { وآخرون مرجون } [ الآية : 106 ] .