{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }
وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث ، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله ، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت ، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله ، أو حكم بغير شرع الله .
فدخل في ذلك السحر والكهانة ، وعباده غير الله ، وطاعة الشيطان ، كل هذا من الجبت والطاغوت ، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لأجلهم تملقا لهم ومداهنة ، وبغضا للإيمان : { هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } أي : طريقا . فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم " كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم ؟ " هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء ، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء ، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان ، واستقام على تحريم الطيبات ، وإباحة الخبائث ، وإحلال كثير من المحرمات ، وإقامة الظلم بين الخلق ، وتسوية الخالق بالمخلوقين ، والكفر بالله ورسله وكتبه ، على دين قام على عبادة الرحمن ، والإخلاص لله في السر والإعلان ، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين ، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق ، حتى البهائم ، وإقامة العدل والقسط بين الناس ، وتحريم كل خبيث وظلم ، والصدق في جميع الأقوال والأعمال ، فهل هذا إلا من الهذيان ، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا ، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق ، وهذا هو الواقع ، ولهذا قال تعالى عنهم : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي : طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته . { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } أي : يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره ، وهذا غاية الخذلان .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من رذائلهم وقبائحهم التى تدعو إلى مزيد من التعجيب من أحوالهم . والتحقير فى شأنهم فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً } .
روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما جاء عن ابن عباس أن حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف خرجا إلى مكة فى جمع من اليهود ليخالفوا قريشا على حرب النبى صلى الله عليه وسلم . فنزل كعب على أبى سفيان فأحسن مثواه . ونزلت اليهود فى دور قريش . فقال أهل مكة لليهود : إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم . فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا . ثم قال كعب : يا أهل مكة ليجئ منا ثلاثون ومنكم ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك . فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد ؟ قال كعب : اعرضوا على دينكم .
فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكرماء ، ونسقيهم اللبن ، ونقرى الضيف ، ونفك العانى ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم فارق دين أبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث .
فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية .
والجنب فى الأصل : اسم صنم ثم استعمل فى كل معبود سوى الله - تعالى - .
والطاغوت : يطلق على كل باطل وعلى كل ما عبد من دون الله ، أو كل من دعا إلى ضلالة . أى : يصدقون بأنهما آلهة ويشركونهما فى العبادة مع الله - تعالى - . أو يطيعونهما فى الباطل .
قال ابن جرير : والصواب من القول فى تأويل { يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت } أن يقال : يصدقون بمعبودين من دون الله ، ويتخذونها إلهين ، وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له ، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان .
وقوله { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } بيان لما نقطوا به من زور وبهتان . أى : ويقولون ارضاء للذين كفروا وهم مشركو مكة . هؤلاء فى شركهم وعبادتهم للجبت والطاغوت ، { أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً } أى أقوم طريقا ، وأحسن دينا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
واللام فى قوله { لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } لام العلة . أى : يقولون لأجل الذين كفروا . .
والإِشارة بقوله { هَؤُلاءِ أهدى } إلى الذين كفروا .
وإيراد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعنوان الإِيمان ، ليس من قبل القائلين ، بل من جهة الله تعالى ، تعريفا لهم بالوصف الجميل ، وتحقيرا لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح الصفات .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } نزلت في يهود كانوا يقولون إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعوهم إليه محمد . وقيل في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من اليهود خرجوا إلى مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب وأنتم اقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا . والجبت في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله . وقيل أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء . والطاغوت يطلق لكل باطل من معبود أو غيره . { ويقولون للذين كفروا } لأجلهم وفيهم . { هؤلاء } إشارة إليهم . { أهدى من الذين آمنوا سبيلا } أقوم دينا وأرشد طريقا .
أعيد التعجيب من اليهود ، الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، بما هو أعجب من حالهم التي مرّ ذكرها في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة } [ النساء : 44 ] ؛ فإنّ إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة ، لأنّ أوّل قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي ( لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ، لا تصنع لك تمثالاً منحُوتاً ، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ ) . وتقدّم بيان تركيب { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } آنفاً في سورة آل عمران ( 23 ) .
والجبت : كلمة معرّبة من الحبشية ، أي الشيطان والسحر ؛ لأنّ مادة : جَ بَ تَ مهملة في العربية ، فتعيّن أن تكون هذه الكلمة دخيلة . وقيل : أصلها جبس : وهو ما لا خير فيه ، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم : يا لَعَنَ الله بني السعْلات ، عمرَو بنَ يَربوع شرار النَّات ، ليسوا أعفّاء ولا أكيات ، أي شرار الناس ولا بأكياس . وكما قالوا : الجتّ بمعنى الجسّ .
والطاغوت : الأصنام كذا فسّره الجمهور هنا ونقل عن مالك بن أنس . وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال : للصَّنم طاغوت وللأصنام طاغوت ، فهو نظير طِفْل وفُلْك . ولعلّ التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوّغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب . ثم لمّا شاع ذلك طردوه حتّى في حالة تجرّده عن اللام ، قال تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } [ النساء : 60 ] فأفرده ، وقال : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يَعْبُدوها } [ الزمر : 17 ] ، وقال : { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم } [ البقرة : 257 ] الخ . وهذا الاسم مشتقّ من طغى يطغو إذا تعاظم وترفّع ، وأصله مصدر بوزن فَعَلوت للمبالغة ، مثل : رهبوت ، وملكوت ، ورحموت ، وجبَروت ، فأصله طَغَوُوت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فَلَعُوت ، والقصد من هذا القلب تأتّي إبدال الواو ألفاً بتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتّى الإبدال كما قلبوا أرْءَام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفاً بعد الأولى المفتوحة ، وقد ينزّلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل ، وورد في الحديث : " لا تحلفوا بالطواغيت " . وفي كلام ابن المسيّب في « صحيح البخاري » : البَحيرة التي يْمُنع درّها للطواغيت .
وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن ، لأنّهم يعظّمونه لأجل أصنامهم ، كما سيأتي في قوله تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } في هذه السورة [ النساء : 60 ] .
والآية تشير إلى ما وقع من بعض اليهود ، وفيهم كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، فإنّهم بعد وقعة أحُد طمعوا أن يسعوا في استئصال المسلمين ، فخرجوا إلى مكّة ليحَالفوا المشركين على قتال المسلمين ، فنزل كعب عند أبي سفيان ، ونزل بَقيّتهم في دور قريش ، فقال لهم المشركون ( أنتم أهل كتاب ولعلّكم أن تكونوا أدنى إلى محمّد وأتباعه منكم إلينا فلا نَأمن مكركم ) فقالوا لهم ( إنّ عبادة الأصنام أرضى عند الله ممّا يدعو إليه محمد وأنتم أهدى سبيلاً ) فقال لهم المشركون ( فاسجدوا لآلهتنا حتّى نطمئنّ إليكم ) ففعلوا ، ونزلت هذه الآية إعلاماً من الله لرسوله بما بيتّه اليهود وأهل مكة .
واللام في قوله { للذين كفروا } لام العلّة ، أي يقولون لأجل الذين كفروا وليس لامَ تعدية فعل القول ، وأريد بهم مشركو مكة وذلك اصطلاح القرآن في إطلاق صفة الكفر أنّه الشرك ، والإشارة بقوله : { هؤلاء أهدى } إلى الذين كفروا ، وهو حكاية للقول بمعناه ، لأنّهم إنّما قالوا : « أنتم أهدى من محمّد وأصحابه » ، أو قال بعض اليهود لبعض في شأن أهل مكة { هؤلاء أهدى } ، أي حين تناجوا وزوّروا ما سيقولونه ، وكذلك قوله { من الذين آمنوا } حكاية لقولهم بالمعنى نداء على غلطهم ، لأنّهم إنّما قالوا : « هؤلاء أهدى من محمّد وأتباعه » وإذ كان محمد وأتباعه مؤمنين فقد لزم من قولهم : إنّ المشركين أهدى من المؤمنين . وهذا محلّ التعجيب .