تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }

تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي ، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا ، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة ، وتنزعج منه أولو العقول .

فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد ، بل ولا مثله ، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم ، أي : فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم ، بما فيها من العذاب العظيم ، والخزي المهين ، وسخط الجبار ، وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسار . فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته .

وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار ، أو حرمان الجنة .

وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين . والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق : شمس الدين بن القيم رحمه الله في " المدارج " فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال : وقالت فِرقَة : هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه .

وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها ، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص .

فالتوبة مانع بالإجماع ، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها ، والحسنات العظيمة الماحية مانعة ، والمصائب الكبار المكفرة مانعة ، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص ، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين .

ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه ، وإعمالا لأرجحها .

قالوا : وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما . وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا ، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه ، ويكون الحكم للأغلب منهما .

فالقوة مقتضية للصحة والعافية ، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة ، وفعل القوة والحكم للغالب منهما ، وكذلك قوى الأدوية والأمراض . والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب ، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه ، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له .

ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار ، وعكسه ، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه . ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله ، حتى كأنه يشاهده رأي عين .

ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه ، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك ، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه ، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره .

وهذا يقين الإيمان ، وهو الذي يحرق السيئات ، كما تحرق النار الحطب ، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات ، وإن وقعت منه وكثرت ، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه ، وهذا من أحب الخلق إلى الله . انتهى كلامه قدس الله روحه ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة من يقتل مؤمناً متعمداً فقال : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .

أى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } قتله { فَجَزَآؤُهُ } الذى يستحقه بسبب هذه الجناية الكبيرة { جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } أى باقيا فيها مدة طويلة لا يعلم مقدارها إلا الله { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ } بسبب ما ارتكبه من منكر { وَلَعَنَهُ } أى طرده من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُ } من وراء ذلك كله { عَذَاباً عَظِيماً } يوم القيامة .

هذا وقد ساق المفسرون جملة من الآيات والأحاديث التى تهدد مرتكب هذه الكبيرة بالعذاب الشديد ؛ واختلفوا فى حكمها هل هى هى منسوخة أولا ؟ وهل للقاتل عمداً توبة أولا ؟ وقد أفاض الإِيمام ابن كثير فى بيان كل ذلك فقال ما ملخصه :

" هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم والذى هو مقرون بالشرك بالله فى غير ما آية . قال - تعالى - { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } والأحاديث فى تحريم القتل كثيرة جدا . فمن ذلك ما ثبت فى الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء " وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال المؤمن معتقا - أى خفيف الظهر ، سريع السير - ما لم يصب دما حراما . فإذا أصاب دما حراما بلح " أى : أعيا وانقطع .

وفى حديث آخر : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " .

ثم قال : وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا .

وقال البخارى : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال :

سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة . فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها . فقال : نزلة هذه الآية . { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } هى آخر ما نزل وما نسخها شئ .

وروى ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير قال . سألت ابن عباس عن قوله - تعالى - { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } . فقال : إن الرجل إذا عرف الإِسلام ، وشرائع الإِسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم ؛ ولا توبة له .

ثم قال : والذى عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها . أن القتل له توبة فيما بينه وبين الله - تعالى - فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته .

قال الله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } فهذه الآية عامة فى جميع الذنوب ما عدا الشرك . وهى مذكورة فى هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء .

والمراد بالخلود هنا المكث الطويل . وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان فى قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان .

وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذه فمراد قائله الزجر والتوبة لا أنه لا يعتقد بطلان توبته .

والآية الكريمة { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } . الصواب فى معناها : أن جزاءه جهنم . فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره . وقد لا يجازى بل يعفى عنه . فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد . يخلد فى جهنم بالإِجماع . وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص . مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدا فيها . ولكن تفضل - سبحانه - فأخبر أنه لا يخلد فيها من مات موحداً فلا يخلد هذا . وقد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا . وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين . ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد فى النار . فهذا هو الصواب فى معنى الآية .

وبهذا نرى أن الآية الكريمة تنهى المؤمن نهيا قاطعا عن أن يمد يده بالسوء لقتل نفس حرم الله قتلها إلا بالحقن وتتوعد لاذى يفعل ذلك بغضب الله عليه وطرده من رحمته ، وإلحاق العذاب العظيم به يوم القيامة .

وبعد هذا التحذير الشديد من قتل النفس بغير حق ، وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن القتل بدون تبين أو تثبت من أجل التوصل إلى عرض من أعراض الدنيا الفانية ، فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } لما فيه من التهديد العظيم . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . " لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا " . ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه . والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب } ونحوه وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره ، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدا ، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

«المتعمد » في لغة العرب القاصد إلى الشيء ، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة ونحوه ،

وقالت فرقة : «المتعمد » كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وهذا قول الجمهور وهو الأصح ، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد ، ورأوا فيه تغليظ الدية ، ومالك رحمه الله لا يرى شبه العمد ولا يقول به في شيء ، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمداً وخطأ لا غير ، والقتل بالسم عنده عمد ، وإن قال ما أردت إلا سكره ، وقوله :

{ فجزاؤه جهنم } تقديره عند أهل السنة ، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك ومستحقه لعظم ذنبه ، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره ، وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[4201]} وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يرد نزلت { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء 48-116 ] فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتماً على كل قاتل يقتل مؤمناً ، ويرونه عموماً ماضياً لوجهه ، مخصصاً للعموم في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 و 116 ] كأنه قال : إلا من قتل عمداً{[4202]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وأهل الحق يقولون لهم : هذا العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين ، إحداهما ما أنتم معنا مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقرأ بالقتل عمداً ويأتي السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قوداً ، فهذا غير متبع في الآخرة ، والوعيد غير نافذ عليه إجماعاً متركباً . على الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت ، ( أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له ){[4203]} ، وهذا نقض للعموم ، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم ، بل لفظ مشترك يقع كثيراً للخصوص ، كقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }{[4204]} وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه ، وكقول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] : [ الطويل ]

وَمَنْ لا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ *** يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ{[4205]}

وهذا إنما معناه الخصوص ، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم ، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب ، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه ، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان ، ومراده باللينة قوله تعالى : { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق }{[4206]} ، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال : أنزلت الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 -116 ] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص ، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن ، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن صبابة{[4207]} ، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما ، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتداً ، وجعل ينشد : [ الطويل ]

قَتَلْتُ بِهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ . . . سراةَ بني النَّجَّارِ أربابَ فَارِعِ

حَللْتُ بِهِ وِتْرِي وأدْرَكْتُ ثورتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجِعِ{[4208]}

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أؤمنه في حل ولا في حرم » وأمر بقتله يوم فتح مكة ، وهو متعلق بالكعبة ، وإما{[4209]} أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال { متعمداً } معناه مستحلاً لقتله . فهذا يؤول أيضاً إلى الكفر ، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل ، فجزاؤه_إن جازاه_ ويكون قوله { خالداً } إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك ، ويدل على هذا سقوط قوله «أبداً » فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار .

واختلف العلماء في قبول توبة القاتل ، فجماعة على أن لا تقبل توبته ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر ، وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل مبهمان{[4210]} ، من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان ، إذ الفرقان مكية{[4211]} والجمهور على قبول توبته ، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحياناً ، فيطلقون : لا تقبل توبة القاتل ، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له : توبتك مقبولة ، وإذا سأله من لم يفعل ، قال له : لا توبة للقاتل ، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلاً سأله أللقاتل توبة ؟ فقال له : لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم ، فلما مضى السائل قال له أصحابه : ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة ، فقال لهم : إني رأيته مغضباً وأظنه يريد أن يقتل ، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه ، فإذا هو كذلك . وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 - 116 ] وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر ، فإنهما قالا : هي محكمة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفيما قاله هبة الله نظر ، لأنه موضع عموم وتخصيص ، لا موضع نسخ ، وإنما ركب كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل ، والله أعلم .


[4201]:- من الآية (116) من سورة (النساء).
[4202]:- أهل السنة يؤولون قوله تعالى: {فجزاؤه جهم} بأن هذا هو الجزاء إذا جازاه الله، وإذا لم يجازه الله فلا تنطبق عليه الآية- أما المعتزلة فيرون أن هذه الآية عامة وماضية، على معنى أنه لا بد من الجزاء، وهذا العموم نفسه يخصص العموم في قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك}، وكأن المعنى والله أعلم-على حسب كلامهم-: ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل مؤمنا متعمدا، فآية المغفرة ليست عامة، وآية الجزاء على قتل المؤمن عمدا عامة وليست خاصة. وعبارة المؤلف تحتاج إلى دقة حتى تفهم على وجهها الذي يريده توضيحا لمذهب المعتزلة، وابن عطية على مذهب أهل السنة، ولذلك رد على المعتزلة بعد ذلك بقوله: "أهل الحق يقولون لهم: إلخ"- مما ينفي عنه شبهة الاعتزال التي رماه بها بعض المحدثين وتأمل مناقشته لهم بالحجة القوية.
[4203]:- روى البخاري أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وكان شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) فبايعناه على ذلك.
[4204]:- من الآية (44) من سورة (المائدة).
[4205]:- الشاعر هو زهير بن أبي سلمى، والبيت من معلقته المشهورة التي يقول في مطلعها: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدرّاج فالمتثلّم =ومعنى يذد: يدفع، وقوله: "ومن لا يظلم الناس يظلم" معناه: من كف عن الناس ظلموه وركبوه. وقد روي: "ومن لم يذد".
[4206]:- من قوله تعالى في الآية (68) من سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما}.
[4207]:- كذا في الأصول، وفي "البحر المحيط"- وفي القاموس وشرحه: حبابة، وفي الطبري والعسقلاني والدر المنثور: ضبابة، وهو كناني.
[4208]:- العقل: دية القتيل، وسراة القوم: أشرافهم، وبنو النجار: هم أخوال النبي الذين نزل عليهم بالمدينة عند هجرته، وهم الذين دفعوا الدية في هذا الخبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يطلب دية هشام بن صبابة فقالوا: والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نؤدي الدية، فأعطوا مقيس هذا مائة من الإبل، وأرباب: أصحاب، وفارع: حصن حسان ابن ثابت بالمدينة، وقد روي الشطر الأول من البيت الثاني: وأدركت ثأري واضطجعت موسدا ........................
[4209]:- قوله: "وإما أن يكون على ما حكي..." هو المقابل لقوله قبل ذلك: "إما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن صبابة".
[4210]:- أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (الدر المنثور).
[4211]:- أخرجه مع اختلاف يسير في بعض الكلمات وفي الترتيب- ابن جرير، والنحاس، والطبراني عن سعيد بن جبير. (الدر المنثور)
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل ، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس ، وإنّما أخّر لتهويل أمره ، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ } [ النساء : 92 ] .

والمتعمّد : القاصد للقتل ، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب . والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس ، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء . ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء : القتل نوعان عمد وخطأ ، وهو الجاري على وفق الآية ، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد ، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية ، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه . وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة{[217]} وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار ، ولم يُعرف قاتله ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل ، دية أخيه ، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله ، واستاق الإبل ، وانصرف إلى مكة كافراً ، وأنشد في شأن أخيه :

قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَــه *** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع{[218]}

حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أوّلَ راجع

وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة ، فقتِل بسوق مكة .

وقوله : { خالداً فيها } مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً ، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله ، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر ، على قول علمائنا من أهل السنّة ، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث ، وهو استعمال عربي . قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :

ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه *** يَرُدّ مَلْكاً وللأرضِ عامِرا

ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج ، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر ، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة .

وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً ، كما تَرِد على غيرها من الكبائر ، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية : فروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس : أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة ، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به ، أخذاً بهذه الآية ، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال : آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس ، فسألتُه عنها ، فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية .

هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء ، فلم يأخذ بطريق التأويل . وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس : فحمله جماعة على ظاهره ، وقالوا : إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل ، فقد نَسخَت الآياتِ التي قبلها ، التي تقتضي عموم التوبة ، مثل قوله : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 116 ] ، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله { واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، ومثل قوله : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 68 ، 69 ] . والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره ، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة . فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه ، وهو طولُ المدّة في العقاب ، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد ، وكيف يُحرم من قبول التوبة ، والتوبةُ من الكفر ، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة ، فكيف بما هو دونه من الذنوب .

وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر ، لئلاّ يجترىء الناس على قتل النفس عمداً ، ويرجون التوبة ، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال : « ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمّداً توبة » فقال : « لاَ إلاّ النار » ، فلمّا ذهب قال له جلساؤه « أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة » فقال : « إنّي لأحْسِبُ السائل رجلاً مغضَباً يريد أن يقتل مؤمناً » ، قل : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك . وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفساً يقول له : « توبتُك مقبولة » وإذا سأله من لم يقتل ، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس ، قال له : لا توبةَ للقاتل .

وأقول : هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت ، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره ، دون تأويل ، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز ، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة ، بخلاف بقية آي الوعيد ، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة ، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد : من محامِل التأويل ، أو الجمععِ بين المتعارضات ، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان ( 68 ، 69 ) :

{ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { إلاّ من تاب } لأنّ قوله : ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة ، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر ، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها . ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير : إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء . ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا ، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون ، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة . وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، بناء على أنّ عموم { من يشاء } نَسَخ خصوصَ القتل . وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسٍ بن صُبابة ، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر ، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ « من » شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن ؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه . وهذه كلّها ملاجىء لا حاجة إليها ، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها ، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به ، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر . على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود . إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض . وهو الوعيد ، لا أنواعه . وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة . وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه ، والتعويل عليه .


[217]:مقيس بميم مكسورة وقاف وتحتية بوزن منبر . وصبابة بصاد مهملة وبائين موحدتين قيل هو اسن أمه.
[218]:فارع اسم حصن في المدينة لبني النجار.