وأعمالهم{[733]} كل ما شاء سليمان ، عملوه .
{ مِنْ مَحَارِيبَ } وهو كل بناء يعقد ، وتحكم به الأبنية ، فهذا فيه ذكر الأبنية الفخمة ، { وَتَمَاثِيلَ } أي : صور الحيوانات والجمادات ، من إتقان صنعتهم ، وقدرتهم على ذلك وعملهم لسليمان { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } أي : كالبرك الكبار ، يعملونها لسليمان للطعام ، لأنه يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره ، " و " يعملون له قدورا راسيات لا تزول عن أماكنها ، من عظمها .
فلما ذكر منته عليهم ، أمرهم بشكرها فقال : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ } وهم داود ، وأولاده ، وأهله ، لأن المنة على الجميع ، وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم . { شُكْرًا } للّه على ما أعطاهم ، ومقابلة لما أولاهم . { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } فأكثرهم ، لم يشكروا اللّه تعالى على ما أولاهم من نعمه ، ودفع عنهم من النقم .
والشكر : اعتراف القلب بمنة اللّه تعالى ، وتلقيها افتقارا إليها ، وصرفها في طاعة اللّه تعالى ، وصونها عن صرفها في المعصية .
ثم بين - سبحانه - بعض الأشياء التى كان الجن يعملونها لسليمان - عليه السلام - فقال : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } .
المحاريب : جمع محراب . وهو كل مكان مرتفع ، ويطلق على المكان الذى يقف فيه الإِمام فى المسجد ، كما يطلق على الغرفة التى يصعد إليها ، وعلى أشرف أماكن البيوت .
قالوا والمراد بها : اماكن العبادة ، والقصور المرتفعة .
والتماثيل : جمع تمثال وقد يكون من حجر أو خشب أو نحاس أو غير ذلك .
قال القرطبى ما ملخصه : والتماثيل جمع تمثال . وهو كل ما صور على مثل صورة حيوان أو غير حيوان . وقيل : كانت من زجاج ونحاس ورخام ، تماثيل أشياء ليست بحيوان .
وذكر أنها صورة الأنبياء والعلماء ، وكانت تصور فى المساجد ليراها الناس . فيزدادوا عبادة واجتهادا .
وهذا يدل على أن ذلك كان مباحا فى زمانهم ، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم .
والجِفان : جمع جَفْنَة . وهى الآنية الكبيرة . والجَوَاب : جمع جابية ، وهى لاحوض الكبير الذى يحبى فيه الماء ويجمع لتشرب منه الدواب .
والقدور : جمع قدر . وهو الآنية التى يطبخ فيها الطعام من نحاس أو فخار أو غيرهما .
وراسيات : جمع راسية بمعنى ثابتة لاتتحرك .
أى : أن الجن يعملون لسليمان - عليه السلام - ما يشاء من مساجد وقصور ، ومن صور متنوعة ، ومن قصاع كبار تشبه الأحواض الضخمة ، ومن قدور ثابتات على قواعدها ، بحيث لا تحرك لضخامتها وعظمها .
وقوله - سبحانه - : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } مقول لقول محذوف .
أى : أعطينا سليمان كل هذه النعم ، وقلنا له ولأهله : اعملوا يا آل دواد عملا صالحا ، شكرا لله - تعالى - على فضله وعطائه ، وقليل من عبادى هو الذى يشكرنى شكراخ الصا على نعمى وفضلى وإحسانى .
وقوله { شُكْراً } يجوز أن يكون مفعولا لأجله . أى : اعملوا من أجل الشكر ، أو مصدرا واقعا موقع الحال . أى : اعملوا شاكرين .
و { مِّنْ عِبَادِيَ } صفة له . و { الشكور } مبتدأ مؤخر . وهكذا يختم القرآن هذه النعم بهذا التغيب الذى يكشف عن طبيعة الناس فى كل زمان ومكان ، حتى يحملهم على أن يخالفوا أهواءهم ونفوسهم ، ويكثروا من ذلك الله - تعالى - وشكره .
وحقيقة الشكر : الاعتراف بالنعمة للمنعم ، والثناء عليه لإِنعامه ، واستعمال نعمه - سبحانه - فيما خلقت له .
والانسان الشكور : هو المتوفر على أداء الشكر ، الباذل قصارى جهده فى ذلك ، عن طريق قلبه ولسانه وجوارحه .
{ يعملون له ما يشاء من محاريب } قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها . { وتماثيل } وصورا هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد . روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . { وجفان } وصحاف . { كالجواب } كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة . { وقدور راسبات } ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها . { اعملوا آل داود شكرا } حكاية عما قيل لهم { وشكرا } نصب على العلة أي : اعلموا له واعبدوه شكرا ، أو المصدر لأن العمل له شكرا أو الوصف له أو الحال أو المفعول به . { وقليل من عبادي الشكور } المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفي حقه ، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهايته ، ولذلك قيل الشكور من يرعى عجزه عن الشكر .
«المحاريب » الأبنية العالية الشريفة ، قال قتادة القصور والمساجد ، وقال ابن زيد المساكن ، والمحراب أشرف موضع في البيت ، والمحراب موضع العبادة أشرف ما يكون منه ، وغلب عرف الاستعمال في موضع وقوف الإمام لشرفه ومن هذه اللفظة قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]
كدمى العاج في المحاريب أو كال . . . بيض في الروض زهره مستنير{[9614]}
«والتماثيل » قيل كانت من زجاج ونحاس ، تماثيل أشياء ليست بحيوان ، وقال الضحاك كانت تماثيل حيوان ، وكان هذا من الجائز في ذلك الشرع .
قال القاضي أبو محمد : ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قوم : حرم التصوير لأن الصور كانت تعبد ، وحكى مكي في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية وذلك خطأ ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه ، و «الجوابي » جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء الذي يجمع قال الراجز : [ الرجز ]
فصحبت جابية صهارجا . . . كأنه جلد السماء خارجا{[9615]}
وقال مجاهد : «الجوابي » جمع جوبة{[9616]} وهي الحفرة العظيمة في الأرض .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]
نفى الذم عن آل المحلق جفنة . . . كجابية الشيخ العراقيّ تفهق{[9617]}
وأنشده الطبري : تروح على آل المحلق ، ويروى السيح بالسين غير نقط ، وبالحاء غير نقط أيضاً ، وهو الماء الجاري على وجه الأرض ، ويروى الشين والخاء منقوطين ، فيقال أراد كسرى ويقال أراد شيخاً من فلاحي سواد العراق غير معين وذلك أنه لضعفه يدخر الماء في جابيته ، فهي تفهق أبداً فشبهت الجفنة بها لعظمها ، قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد «الجوابي » الحياض ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «كالجواب » بغير ياء في الوصل والوقف ، وقرأ أبو عمرو وعيسى بغير ياء في الوقف وياء في الوصل ، وقرأ ابن كثير بياء فيهما ، ووجه حذف الياء التخفيف والإيجاز ، وهذا كحذفهم ذلك من القاض والغاز والهاد ، وأيضاً فلما كانت الألف واللام تعاقب التنوين وكانت الياء تحذف مع التنوين وجب أن تحذف مع ما عاقبه كما يعملون للشيء أبداً عمل نقيضه ، و { راسيات } معناه ثابتات لكبرها ليست مما ينقل ولا يحمل . ولا يستطيع على عمله إلا الجن وبالثبوت فسرها الناس ، ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا بالطاعات ، وقوله تعالى : { شكراً } يحتمل أن يكون نصبه على الحال ، أي اعملوا بالطاعات في حال شكر منكم لله على هذه النعم ، ويحتمل أن يكون نصبه على جهة المفعول ، أي اعملوا عملاً هو الشكر كأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي نفسها الشكر إذ سدت مسده ، وفي الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال :
«ثلاث من أوتيهن فقد أوتي العمل شكراً العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية »{[9618]} ، وروي أن داود عليه السلام قال يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك ، فقال : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي ، وقال ثابت{[9619]} : روي أن مصلى داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلاً ونهاراً كانوا يتناوبونه دائماً ، وكان سليمان عليه السلام فيما روي يأكل خبز الشعير وطعم أهله الخشكار{[9620]} ويطعم المساكين الدرمك{[9621]} ، وروي أنه ما شبع قط فقيل له في ذلك فقال : أخاف أن أنسى الجياع ، وقوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } يحتمل أن تكون مخاطبة لآل داود ، ويحتمل أن تكون مخاطبة لآل محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى كل وجه ففيها تنبيه وتحريض ، وسع عمر بن الخطاب رجلاً يقول : اللهم اجعلني من القليل ، فقال له عمر : ما هذا الدعاء ؟ فقال الرجل : أردت قوله عز وجل : { وقليل من عبادي الشكور } ، فقال عمر رحمه الله : كل الناس أعلم من عمر .
قال الفقيه الإمام القاضي : وقد قال تعالى { وقليل ما هم }{[9622]} [ ص : 24 ] ، والقلة أيضاً بمعنى الخمور منحة من الله تبارك وتعالى{[9623]} ، فلهذا الدعاء محاسن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يعملون له ما يشاء} يعني الجن لسليمان {من محاريب} المساجد {وتماثيل} من نحاس ورخام...
{وجفان كالجواب} وقصاع في العظم كحياض الإبل... من العظم...
{وقدور} عظام لها قوائم لا تتحرك.
{اعملوا آل داود شكرا} بما أعطيتهم من الخير.
مكي: قال ابن القاسم: قال مالك: {وجفان كالجواب} كالجوبة من الأرض. {وقدور راسيات} ابن رشد: سئل مالك عن تفسير {وقدور راسيات} قال: لا تحمل ولا تحرك بدليل قوله: {والجبال أرساها}، قال مالك: يريد أثبتها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره: يعمل الجنّ لسليمان ما يشاء من محاريب، وهي جمع محراب، والمحراب: مقدّم كل مسجد وبيت ومصلّى... عن مجاهد، قوله:"ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ" قال: بنيان دون القصور.
قال ابن زيد، في قوله: "يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ "قال: المحاريب: المساكن... عن الضحاك: "يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ" قال: المحاريب: المساجد.
وقوله: "وتَماثِيلَ" يعني أنهم يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج... عن الضحاك في قول الله: "وتَماثِيلَ" قال: الصور.
وقوله: "وَجِفانٍ كالجَوَابِ" يقول: وينحتون له ما يشاء من جفان كالجواب، وهي جمع جابية، والجابية: الحوض الذي يُجْبَي فيه الماء... عن ابن عباس، قوله "وَجِفانٍ كالجَوَابِ" يعني بالجواب: الحياض...
وقوله: "وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ" يقول: وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهنّ، ولا تحوّل لعظمهنّ...
وقوله: "اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا" يقول تعالى ذكره: وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له على ما أنعم عليكم من النعم التي خَصّكم بها عن سائر خلقه، مع الشكر له على سائر نعمه التي عمكم بها مع سائر خلقه، وتُرِك ذكر: وقلنا لهم، اكتفاء بدلالة الكلام على ما ترك منه، وأخرج قوله شُكْرا مصدرا من قوله: "اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ" لأن معنى قوله "اعْمَلُوا": اشكروا ربكم بطاعتكم إياه، وأن العمل بالذي رضي الله لله شكر... عن محمد بن كعب، قوله: "اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا" قال: الشكر: تقوى الله، والعمل بطاعته...
وقوله: "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشّكُورُ" يقول تعالى ذكره: وقليل من عبادي المخلصو توحيدي، والمفردو طاعتي وشكري على نعمتي عليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يعملون له ما يشاء من محاريب}... والمحاريب هي أشرف المواضع.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ} قليلٌ مَنْ يأخذ النعمة مني ولا يحملها على الأسباب؛ فلا يشكر الوسائطَ ويشكرني، والأكثرون يأخذون النعمة من الله، ويَجِدُون الخيرَ مِنْ قِبَلهِ، ثم يتقلدون المِنَّةَ من غير الله، ويشكرون غيرَ الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المحاريب: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال؛ سميت محاريب لأنه يحامى عليها ويذب عنها.
{شُكْراً} على أنه مفعول له، أي: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر، وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: اللَّهم اجعلني من القليل، فقال عمر ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إني سمعت الله يقول: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِي الشكور} فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل، فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر.
قوله: {وقليل من عبادي الشكور} إشارة إلى أن الله خفف الأمر على عباده، وذلك لأنه لما قال: {اعملوا آل داوود شكرا} فهم منه أن الشكر واجب، لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن؛ لأن الشكر بالتوفيق، وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر، فدائما تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر،فقال تعالى: إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام فليس عليكم في ذلك حرج، فإن عبادي قليل منهم الشكور ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في قوله:
{عبادي} مع الإضافة إلى نفسه، وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين.
{قليل} يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه، نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية هو الواقع وقليل فاعله، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أي: وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحب الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما. ولا يَفر إذا لاقى». وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} إخبار عن الواقع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر تعالى أنه سخر له الجن، ذكر حالهم في أعمالهم، دلالة على أنه سبحانه يتصرف في السماء والأرض وما فيهما ومن فيهما بما يشاء فقال تعالى: {يعملون له} أي في أي وقت شاء {ما يشاء} عمله {من محاريب} أي أبنية شريفة من قصور ومساكن وغيرها هي أهل لأن يحارب عليها أو مساجد، والمحراب مقدم كل مسجد ومجلس وبيت.
ولما ذكر القصور وزينتها، ذكر آلات المأكل لأنها أول ما تطلب بعد الاستقرار في المسكن فقال: {وجفان} أي صحاف وقصاع يؤكل فيها {كالجواب}.
ولما ذكر الصحاف على وجه يعجب منه ويستعظم، ذكر ما يطبخ فيه طعامها فقال: {وقدور راسيات} أي ثابتات ثباتاً عظيماً بأن لا ينزع عن أثافيها لأنها لكبرها كالجبال. ولما ذكر المساكن وما تبعها، أتبعها الأمر بالعمل إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ومن تبعه لا يلهيهم ذلك عن العبادة فقال: {اعملوا} أي وقلنا لهم: تمتعوا واعملوا، دل على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل فقال: {آل داود} أي كل ما يقرب إلى الله.
{شكراً} أي لأجل الشكر له سبحانه، وهو تعظيمه في مقابلة نعمه ليزيدكم من فضله أو النصب على الحال أي شاكرين، أو على تقدير: اشكروا شكراً، لأن "اعملوا "فيه معنى "اشكروا" من حيث أن العمل للمنعم شكر له، ويجوز أن تنتصب باعملوا مفعولاً بهم، ومعناه أنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً -على طريق المشاكلة.
{وقليل} أي قلنا ذلك والحال أنه قليل.
ولما لم يقتض الحال العظمة لأنها بالمبالغة في الشكر أليق، اسقط مظهرها فقال: {من عبادي الشكور} أي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه وبدنه على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله عليه فيما يرضيه، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه مطلق الشكر كثير، وأقل ذلك حال الاضطرار.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{اعملوا آل داوود شكرا} أي قيل لهم:... فيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف، كما أن فيه وجوب الشكر، وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان، لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر، ونحو الآية قوله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ((ص: 24).
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه، فقلت له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: (أفلا أكون عبدا شكورا) أخرجه مسلم في صحيحه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تعقيب تقريري وتوجيهي من تعقيبات القرآن على القصص. يكشف من جانب عن عظمة فضل الله ونعمته حتى ليقل القادرون على شكرها. ويكشف من جانب آخر عن تقصير البشر في شكر نعمة الله وفضله. وهم مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء. فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس! وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله وهي غير محدودة؟.. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه، وعن أيمانه وعن شمائله، وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه. وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمحاريب: جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدوُّ والمهاجِم للمدينة، أو لأنه يرمى من شرفاته بالحِراب، ثم أطلق على القصر الحصين. وقد سمَّوْا قصور غُمدان في اليمن محاريبَ غُمدانَ. وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية. ثم أطلق المحراب على الذي يُخْتَلَى فيه للعبادة فهو بمنزلة المسجد الخاص، قال تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} وتقدم في سورة آل عمران (39). وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة قال تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} في سورة ص (21).
وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإِمامُ الذي يؤمّ الناس، يُجعل مثل كوة غير نافذة واصلة إلى أرض المسجد في حائط القبلة يقف الإِمام تحته، فتسمية ذلك محراباً تسمية حديثة ولم أقف على تعيين الزمن الذي ابتدئ فيه إطلاق اسم المحراب على هذا الموقف. واتخاذ المحاريب في المساجد حدث في المائة الثانية، والمظنون أنه حدث في أولها... والتماثيل: جمع تِمثال... والتمثال هو الصورة الممثلة، أي المجسمة مثل شيء من الأجسام، فكان النحاتون يعملون لسليمان صوراً مختلفة كصور موهومة...
ولم تكن التماثيل المجسمة محرَّمَة الاستعمال في الشرائع السابقة، وقد حرمها الإِسلام، لأن الإِسلام أمعن في قطع دَابر الإِشراك لشدة تمكن الإِشراك من نفوس العرب وغيرهم. وكان معظم الأصنام تماثيل فحرّم الإِسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها، ولكن لكونها كانت ذريعة للإِشراك...
والجفان: جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة التي يجفن فيها الماء... وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي. وهي جمع: جابية وهي الحوض العظيم الواسع العميق الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع...
والقدور: جمع قِدر، وهي إناء يوضع فيه الطعام ليطبخ من لحم وزيت وأدهان وتوابل...
والراسيات: الثابتات في الأرض التي لا تُنزل من فوق أثافيها لتداول الطبخ فيها صباحَ مساءَ.
وجملة {اعملوا آل داود شكراً} مقول قول محذوف، أي قلنا: اعملوا يا آل داود، ومفعول {اعملوا} محذوف دل عليه قوله: {شكراً}. وتقديره: اعملوا صالحاً، كما تقدم آنفاً، عملاً لشكر الله تعالى، فانتصب {شكراً} على المفعول لأجله. والخطاب لسليمان وآله.
وذُيل بقوله: {وقليل من عبادي الشكور} فهو من تمام المقول، وفيه حثّ على الاهتمام بالعمل الصالح. ويجوز أن يكون هذا التذييل كلاماً جديداً جاء في القرآن، أي قلنا ذلك لآل داود فعَمل منهم قليل ولم يعمل كثير وكان سليمان من أول الفئة القليلة.
و {الشكور}: الكثيرُ الشكر. وإذْ كان العمل شكراً أفاد أن العاملين قليل.
... ومعنى {اعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً..} [سبأ: 13] أى: شُكْراً لله على نعمه، لا لتقوتوا أنفسكم فحسب، إذن: فربُّك يُعلِّمك: لا تعمل على قدر حاجتك فحسب؛ لأن في مجتمعك مَنْ لا يقدر على العمل، فاعمل أنت أيها القادر على قَدْر طاقتك، وخُذْ لنفسك ما يكفيك، وتصدَّق بما فاض عنك لغير القادرين. ومعلوم أن شكر النعمة يقيدها أي يديمها بل ويزيدها، كما قال سبحانه:
{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..} [إبراهيم: 7].
أو: المعنى {اعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً..} [سبأ: 13] أن أقدركم على العمل حتى تعولوا مَنْ لا يقدر على العمل {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] يعني: قليل من الناس مَنْ يقابل نعمة الله بالشكر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}... ولعل التأكيد على قلّة الشاكرين من عباده، يوحي بأن مسألة الكثرة لا تمثل قيمةً إنسانيّةً في مضمون قرارها وحركتها ومنهجها العملي في الحياة، لأنها ترتبط بالسطح الظاهر للأشياء ولا ترتبط بالعمق، ما يجعلهم بعيدين عن خط الصواب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبديهي أنّ (الشكر) الذي أشارت إليه الآية، لو كان مقصوداً به الشكر باللسان لما كانت هناك أدنى مشكلة ولمّا كان العاملون به قليلين، ولكن المقصود هو (الشكر العملي)، أي الاستفادة من تلك المواهب في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها. والمسلّم به أنّ الذين يستفيدون من المواهب الإلهية في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها هم الندرة النادرة. قال بعض العلماء: إنّ للشكر ثلاثة مراحل: الشكر بالقلب، بتصوّر النعمة والرضى والسرور بها. والشكر باللسان، وبالحمد والثناء على المنعم. الشكر بسائر الأعضاء والجوارح، وذلك بتطبيق الأعمال مع متطلّبات تلك النعمة.
«شكور»: صيغة مبالغة. يعبّر بها عن كثرة الشكر ودوامه بالقلب واللسان والأعضاء والجوارح، وهذه الصفة تطلق أحياناً على الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الآية (17) من سورة التغابن: (إنّه شكور حليم)، والمقصود به أنّ الله سبحانه وتعالى، يشمل العباد المطيعين بعطاياه وألطافه ويشكرهم، ويزيدهم من فضله أكثر ممّا يستحقّون.
كذلك يمكن أن يكون التعبير ب (قليل من عبادي الشكور) إشارة إلى تعظيم مقام هذه المجموعة النموذجية، أو بمعنى حثّ المستمع ليكون من أفراد تلك الزمرة ويزيد جمع الشاكرين.