تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

ثم ذكر تعالى ، نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم ، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ، ركنا من أركان الإسلام ، حاطا للذنوب والآثام .

وفيه من آثار الخليل وذريته ، ما عرف به إمامته ، وتذكرت به حالته فقال : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي : مرجعا يثوبون إليه ، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية ، يترددون إليه ، ولا يقضون منه وطرا ، { و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد ، حتى الوحش ، وحتى الجمادات كالأشجار .

ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام ، ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم ، فلا يهيجه ، فلما جاء الإسلام ، زاده حرمة وتعظيما ، وتشريفا وتكريما .

{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك ، المقام المعروف الذي قد جعل الآن ، مقابل باب الكعبة ، وأن المراد بهذا ، ركعتا الطواف ، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم ، وعليه جمهور المفسرين ، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا ، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج ، وهي المشاعر كلها : من الطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفة ، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر ، وغير ذلك من أفعال الحج .

فيكون معنى قوله : { مُصَلًّى } أي : معبدا ، أي : اقتدوا به في شعائر الحج ، ولعل هذا المعنى أولى ، لدخول المعنى الأول فيه ، واحتمال اللفظ له .

{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي : أوحينا إليهما ، وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك ، والكفر والمعاصي ، ومن الرجس والنجاسات والأقذار ، ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : المصلين ، قدم الطواف ، لاختصاصه بالمسجد [ الحرام ] ، ثم الاعتكاف ، لأن من شرطه المسجد مطلقا ، ثم الصلاة ، مع أنها أفضل ، لهذا المعنى .

وأضاف الباري البيت إليه لفوائد ، منها : أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره ، لكونه بيت الله ، فيبذلان جهدهما ، ويستفرغان وسعهما في ذلك .

ومنها : أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام ، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه .

ومنها : أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن مكانة البيت الحرام ، وعن قصة بنائه ، وعن الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم يتضرع بها إلى الله عند رفعه البيت فقال : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ . . . }

قوله - تعالى - : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنا } معطوف على قوله - تعالى - { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } وجعلنا : بمعنى صرنا . والبيت : المقصود به الكعبة ، إذ غلب استعمال البيت فيها حتى صار اسما لها .

ومثابة للناس : مرجعاً للناس يرجعون إليه من كل جانب ، وهو مصدر ميمي من ثاب القوم إلى المكان رجعوا إليه . فهم يثوبون إليه ثواباً وثوبانا . أو معاذا لهم يلجأون إليه أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره .

والأمن : السلامة من الخوف ، وأمن المكان : اطئمنان أهله به ، وعدم خوفهم من أن ينالهم فيه مكروه فالبيت مأمن ، أي موضع أمن . وأخبر - سبحانه - بأنه جعله أمنا ليدل على كثرة ما يقع به من الأمن حتى صار كأنه نفس الأمن .

وكذلك صار البيت الحرام محفوظاً بالأمن من كل ناحية ، فقد كان الناس في الجاهلية يقتتلون ويعتدي بعضهم على بعض من حوله ، أما أهله فكانوا في أمان واطمئنان . قال تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وقال - تعالى - : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وقد أقرت تعاليم الإِسلام هذه لحرمة للبيت الحرام على وجه لا يضيع حقاً ولا يعطل حداً ، وزادت في تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل قادر عليها .

قال الإِمام ابن كثير : " ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس . أي : جعهل محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه في كل عام استجابة من الله - تعالى - لدعاء خليله إبراهيم في قوله تعالى : { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } ويصفه - تعالى - بأنه جعله أمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له :

{ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } الاتخاذ : الجعل ، تقوم اتخذت فلاناً صديقاً أي : جعلته صديقاً . والمقام في اللغة : موضع القدمين من قام يقوم ، ومقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار ، وهو - على المشهور - تحت المصلى المعروف الآن بهذا الاسم .

ومعنى اتخاذ مصلى منه : القصد إلى الصلاة عنده . فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإِمام مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين " .

ومن العلماء من فسر مقام إبراهيم بالمسجد الحرام ، ومنهم من أطلقه على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها لعبادة الله تعالى .

قال الإِمام ابن كثير : " وقد كان هذا المقام - أي الحجر الذي يسمى مقام إبراهيم - ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر على يمين الداخل من الباب في البقة المستقلة هناك ، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة . . ثم قال : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر - رضي الله عنه - ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة :

ثم قال - تعالى - : { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود } .

عهدنا : أمرنا وأوحينا ، و { أَن } مفسرة المأمور به أو الموصى به المشار إليه بقوله : { عَهِدْنَآ } أي : أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي .

وأضاف - سبحانه - البيت إليه والتكريم ومعنى تطهيره : صيانته من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار والأرجاس والأوثان وكل ما كان مظنة للشرك ، فالمقصود تطهيره من كل رجس حسى ومعنوى .

والطائفين : جمع طائف من طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا دار حول الشيء والمراد بهم : المتقربون إلى الله بالطواف حول الكعبة .

والعاكفين : جمع عاكف ، من عكف على الشيء عكوفاً إذا أقام عليه ملازماً له ، والمراد بهم : المقيمون في الحرم بقصد العبادة ، ويدخل في العبادة ، ويدخل في العبادة مدارسة العلوم الدينية وما يساعد على فهمها .

والركع السجود : الركع جمع راكع ، والسجود : جمع ساجد .

والركوع والسجود من هيئات الصلاة وأركانها ، فمعنى " والركع السجود " الصملون .

فالآية الكريمة جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام : وهم الطائفون وإن لم يكونوا مقيمين ، كمنن يأتون لحج أو عمرة ثم ينصرفون .

والعاكفون الذين يقيمون في الحرم بقصد الإِكثار من العبادة في المسجد الحرام . والمصلون يتقربون إلى الله بالصلوات سواء أكانت فرائص أم نوافل .

ولم يعطف السجود على الركع ، لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

{ وإذ جعلنا البيت } أي الكعبة ، غلب عليها كالنجم على الثريا . { مثابة للناس } مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم ، أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره . وقرئ : " مثابات " أي لأنه مثابة كل أحد . { وأمنا } وموضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى : { حرما آمنا } . ويتخطف الناس من حولهم ، أو يأمن حاجه من عذاب الآخرة من حيث أن الحج يجب ما قبله ، أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج ، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه . { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } على إرادة القول ، أو عطف على المقدر عاملا لإذ ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه واتخذوا ، على أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أمر استحباب ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه ، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ، أو رفع بناء البيت وهو موضعه اليوم . روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه وقال : " هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ، فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت " وقيل المراد به الأمر بركعتي الطواف ، لما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام : لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وللشافعي رحمه الله تعالى في وجوبهما قولان . وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله . وقيل مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ، ويتقرب إلى الله تعالى . وقرأ نافع وابن عامر { واتخذوا } بلفظ الماضي عطفا على { جعلنا } أي : واتخذوا الناس مقامه الموسوم به ، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها . { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أمرناهما . { أن طهرا بيتي } ويجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول ، يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به ، أو أخلصاه . { للطائفين } حوله . { والعاكفين } المقيمين عنده ، أو المعتكفين فيه { والركع السجود } . أي المصلين ، جمع راكع وساجد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

قوله عز وجل :

{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }( 125 )

قوله { وإذ } عطف على { إذ } المتقدمة و { البيت } الكعبة ، و { مثابة } يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون ، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك ، قال الأخفش : دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع ، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً( {[1227]} ) ، فهي كنسابة وعلامة ، وقال غيره : هي هاء تأنيث المصدر ، فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها ، وقيل : هو على تأنيث البقعة ، كما يقال : مقام ومقامة ، وقرأ الأعمش «مثابات » على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل في الكعبة( {[1228]} ) : [ الطويل ] :

مثاب لأفناءِ القبائلِ كلِّها . . . تخبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الطلائِحُ( {[1229]} )

و { أمناً } معناه أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي أمنة من ذلك ، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه ، لأن الله تعالى جعل في النفوس حرمة وجعلها أمناً للناس والطير والوحوش ، وخصص الشرع من ذلك الخمس الفواسق ، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجمهور الناس «واتخِذوا » بكسر الخاء على جهة الأمر ، فقال أنس بن مالك وغيره : معنى ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، في الحجاب ، وفي { عسى ربه إن طلقكن }( {[1230]} ) [ التحريم : 5 ] ، وقلت يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }( {[1231]} ) .

قال القاضي أبو محمد : فهذا أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال المهدوي : وقيل ذلك عطف على قوله { اذكروا } فهذا أمر لبني إسرائيل ، وقال الربيع بن أنس : ذلك أمر لإبراهيم ومتبعيه ، فهي من الكلمات( {[1232]} ) ، كأنه قال : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] { واتخذوا } ، وذكر المهدوي رحمه الله أن ذلك عطف على الأمر يتضمنه قوله : { جعلنا البيت مثابة } ، لأن المعنى : توبوا ، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا » بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم ، وذلك معطوف على قوله { وإذا جعلنا } ، كأنه قال : وإذ اتخذوا ، وقيل هو معطوف على جعلنا دون تقدير إذ ، فهي جملة واحدة( {[1233]} ) ، وعلى تقدير إذ فهي جملتان .

واختلف في { مقام إبراهيم } ، فقال ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وخرجه البخاري : إنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وغرقت قدماه فيه( {[1234]} ) .

وقال الربيع بن أنس : هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب ، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه( {[1235]} ) ، وقال فريق من العلماء : المقام المسجد الحرام ، وقال عطاء بن أبي رباح : المقام عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال ابن عباس : مقامه مواقف الحج كلها ، وقال مجاهد : مقامه الحرم كله .

و { مصلى } موضع صلاة ، هذا على قول من قال : المقام الحجر ، ومن قال بغيره قال { مصلى } مدعى ، على أصل الصلاة( {[1236]} ) .

وقوله تعالى : { وعهدنا } العهد في اللغة على أقسام ، هذا منها( {[1237]} ) الوصية بمعنى الأمر ، و { أن } في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض ، قال سيبويه : إنها بمعنى أي مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، و { طهرا } قيل معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة( {[1238]} ) ، فيجيء مثل قوله : { أسس على التقوى } [ التوبة : 108 ] وقال مجاهد : هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان ، وقيل : من الفرث والدم . ( {[1239]} )

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار ، وقيل : من الشرك ، وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفاً للبيت ، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك ، و { للطائفين } ظاهره أهل الطواف ، وقاله عطاء وغيره ، وقال ابن جبير : معناه للغرباء الطارئين على مكة ، و

{ العاكفين } قال ابن جبير : هم أهل البلد المقيمون ، وقال عطاء : هم المجاورون بمكة ، وقال ابن عباس : المصلون ، وقال غيره : المعتكفون .

قال القاضي أبو محمد : والعكوف في اللغة اللزوم للشيء والإقامة عليه ، كما قال الشاعر [ العجاج ] : [ الرجز ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . عكف النبيط يلعبون الفنزجا( {[1240]} )

فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله العظيم ، و { الركع السجود } المصلون ، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى ، وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله( {[1241]} ) فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث ، إما أن يكون في صلاة أو في طواف فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه .


[1227]:- بل إليه مرة بعد أخرى، فليس هو مرة في الزمان فقط.
[1228]:- أي في وصفها، ورقة شيخ كبير كان على دين النصرانية، وهو ابن عم خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم أول الوحي: "إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا" هذا والذي في لسان العرب وشرح القاموس في مادة (ثاب) أن البيت لأبي طالب.
[1229]:- وفي رواية الذوامل –يقال: (هو من أفناء الناس) أي لا يدري من أي قبيلة هو، والأفناء الأخلاط واحدها فنو، واليعملات بفتح الميم جمع يَعْمَلة وهي: النجيبة من الإبل، الطبوعة على العمل، والطلائح: الإبل التي أضمرها الإعياء.
[1230]:- من الآية 5 من سورة التحريم.
[1231]:- حديث الموافقة خرجه البخاري عن أنس بن مالك، وخرجه مسلم عن ابن عمر وعلى ما قاله أنس بن مالك فالأمر مقطوع عما قبله، والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم- وعلى ما قاله غيره فالخطاب لبني إسرائيل على أنه معطوف على (اذكروا) أو لإبراهيم وأتباعه على أنه معطوف على معنى (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس)، فهو في معنى ثوبوا واتخذوا، والأظهر أنه أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
[1232]:- أي التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام.
[1233]:- أي كلمة واحدة من الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم.
[1234]:- هذا هو القول الصحيح كما ثبت في الصحيح، وهذا الحجر كان لاصقا بالكعبة ثم حوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الموضع الذي يصلى فيه الآن، والمراد بالمقام المكان الذي فيه الحجر المسمى بذلك.
[1235]:- روى الطبري عن السدي: "والمقام هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته فغابت رجله أيضا، فجعلها الله من شعائره فقال: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
[1236]:- أي موضع دعاء على أصل الصلاة في اللغة، والأظهر فيه الصلاة الشرعية لا اللغوية والله أعلم.
[1237]:- هكذا في النسخ التي بين أيدينا- ويبدو أن في الكلام خطأ من الناسخين- والمعروف أن العهد إذا تعدى بإلى كما في هذه الآية كان بمعنى التوصية، ويمكن أن يراد به الأمر تجوزا. على أن كلام المؤلف يستقيم لو حذفنا لفظة (هذا)- وتصبح العبارة: "العهد في اللغة على أقسام، منها الوصية بمعنى الأمر".
[1238]:- أي على نية الطهارة والتوحيد حالا واستقبالا. فيكون مثل قوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى)- وهو من الآية108 من سورة التوبة.
[1239]:- أي لما كان يطرحه المشركون فيه من الفرث والدم في القرابين التي كانوا يتقربون بها إلى أصنامهم.
[1240]:- هذا عجز بيت للعجاج يصف ثورا عكفت حوله بقرات- وصدر البيت: فهن يعكفن به إذا حجا ............................. وعكف معناها: أقام حول الشيء، فهو يعكف بضم الكاف وبكسرها –والنبيط: جمع نبطي- وهم قوم من العجم كانوا ينزلون بين العراقين- والفتزج والفتزجة، هي رقصة هؤلاء العجم، إذا أخذ بعضهم بيد بعض ورقصوا. وحجا: معناها أقام- يقال: حجوت بالمكان أقمت به- والشاعر يريد أن يقول: إن الثور حين أقام بمكانه عكفت حوله هذه البقرات كأنها الأعاجم حين يرقصون ويلعبون.
[1241]:- أي وجه الله.