ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب ، الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه ، فما أخبر به صدق ، وما حكم به فهو العدل ، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه { مصدقا لما بين يديه } من الكتب السابقة ، فهو المزكي لها ، فما شهد له فهو المقبول ، وما رده فهو المردود ، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون ، وهي شاهدة له بالصدق ، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به ، فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم ، ثم قال تعالى { وأنزل التوراة } أي : على موسى { والإنجيل } على عيسى .
وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده المستحق للعبودية ، أتبع ذلك ببيان بعض مظاهر فضله ورحمته فقال : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } والكتاب - كما يقول الراغب - فى الأصل مصدر ، ثم سمى المكتوب فيه كتاباً . والكتاب فى الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه . والكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، وفى التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط .
والمراد بالكتاب المنزل : القرآن الكريم . وفى التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية أفراد الكتب المنزلة ، فكأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريح باسمى التوراة والإِنجيل .
وعبر بنزل - بصيغة التضعيف - للإِشارة إلى أن نزول القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم كان منجما ولم يكن دفعة واحدة ومن المعروف أن القرآن قد نزل على النبى صلى الله عليه وسلم على حسب الوقائع والحوادث وغيرها فى مدة تزيد على عشرين سنة .
وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لنزول القرآن منجما منها : تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه ، ومنها : التدرج فى تربية قويمة سليمة ، ومنها : مسايرة الحوادث فى تجددها وتفرقها . ومنها تيسير حفظه وتسهيل فهمه ، ومنها : تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين ومنها : الإِجابة على أسئلة السائلين ، وبيان حكم الله - تعالى - فيما يحصل من قضايا ، ولفت أنظار المخطئين إلى ما وقعوا فيه من أخطاء ، وكشف حال الكافرين والمنافقين . منها : الإِرشاد إلى مصدر القرآن وأنه من عند الله - تعالى -
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } فأنت تقرأ ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من قرآن فى مكة . وما نزل عليه فى المدينة ، فترى الجميع محكم السرد . دقيق السبك ، رصين الأسلوب ، بليغ التراكيب ، فصيح الألفاظ . . بينما ترى كلام الأدباء والبلغاء يختلف فى جودته من وقت إلى وقت " ومن موضوع إلى موضوع " .
وقد بين - سبحانه - أن هذا القرآن قد نزل مقترنا بأمرين متصلا بهما :
أما أولهما فهو قوله : { بالحق } .
وأما ثانيهما فهو قوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أى : أن الله - عز وجل - الذى لا إله إلا هو ، والذى هو الحى القيوم ، هو الذى نزل عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلا ملتبسا بالحق ، ومصاحبا له ، ومقترنا به ، ومشتملا عليه ، فكل ما فيه من أوامر ، ونواه ، وقصص ، وأحكام ، وعقائد ، وآداب ، وشرائع وأخبار . . حق لا يحوم حوله باطل ، وصدق لا يتطرق إليه كذب .
وهو الذى جعل هذا الكتاب المنزل عليك موافقا ومؤيداً لما اشتملت عليه الكتب السابقة من الدعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وإلى الوصايا والشرائع التى تسعد الناس فى كل زمان ومكان . وهذا يدل على أن الشرائع الإِلهية واحدة فى جوهرها وأصولها . قال - تعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } وقوله { بالحق } متعلق بمحذوف فيكون فى محل نصب على الحال من الكتاب . وقوله { مُصَدِّقاً } حال مؤكدة من الكتاب . أى نزله فى حال تصديقه الكتب .
وفائدة تقييد التنزيل بهذه الحال حث أهل الكتاب على الإِيمان بالمنزل ، وتنبيههم على وجوبه ؛ فإن الإِيمان بالمصدق يوجب الإِيمان بما يصدقه حتما .
قال الجمل : وقوله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ، فيه نوع مجاز ؛ لأن ما بين يديه هو ما أمامه . فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره . واللام فى { لِّمَا } لتقوية العامل . نحو قوله - تعالى - : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } وهذه العبارة أحسن من تعبير بعضهم بالزائدة " .
ثم أخبر - سبحانه - عن بعض الكتب الأخرى التى أنزلها فقال : { وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان } .
والتوراة : اسم عبرانى للكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على موسى - عليه السلام - ليكون شريعة له ولقومه .
قال القرطبى ما ملخصه : والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من وَرَى الزند ووَرِى لغتان إذا خرجت نارة . . وقيل مأخوذة من لتورية ، وهى التعريض بالشئ والكتمان لغيره ، فكان أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح .
والجمهور على القول الأول لقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } يعنى التوراة .
والإِنجيل : كلمة يونانية معناها البشارة وهى اسم للكتاب الذى أنزله الله على عيسى .
قالوا : والإِنجيل إفعيل من النجل وهو الأصل : يقال : رحم الله ناجليه أى والديه . وقال قوم : الإِنجيل مأخوذ من نجلت الشئ إذا استخرجته وأظهرته ، ويقال للماء الذى يخرج من البئر : نجل وقيل : هو من النجل الذى هو سعة فى العين . ومنه طعنة نجلاء أى واسعة . وسمى الإِنجيل بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه الله - تعالى - لبنى إسرائيل على يد عيسى عليه السلام .
وهذا الكلام الذى نقلناه عن القرطبى والفخر الرازى هو قول لبعض العلماء الذين يرون أن لفظى التوراة والإِنجيل يدخلهما الاشتقاق والتصريف .
وهناك فريق آخر من العلماء يرى أن هذين اللفظين لا يدخلهما الاشتقاق والتصريف لأنهم اسمان أعجميان لهذين الكتابين الشريفين .
قال الفخر الرازى بعد أن أورد كلاما طويلا يدل على عدم ارتضائه للمذهب الذى يرى أصحابه أن هذين اللفظين يدخلهما الاشتقاق والتصريف : " فالتوراة والإِنجيل اسمان أعجميان :
أحدهما بالعبرية ، والآخر بالسريانية ، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقهما على أوزان لغة العرب ، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث "
{ نزل عليك الكتاب } القرآن نجوما . { بالحق } بالعدل ، أو بالصدق في أخباره ، أو بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال . { مصدقا لما بين يديه } من الكتب . { وأنزل التوراة والإنجيل } جملة على موسى وعيسى . واشتقاقهما من الورى والنجل ، ووزنهما بتفعلة وافعيل تعسف لأنهما أعجميان ، ويؤيد ذلك أنه قرئ { الأنجيل } بفتح الهمزة وهو ليس من أبنية العربية ، وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي التوراة بالإمالة في جميع القرآن ، ونافع وحمزة بين اللفظين إلا قالون فإنه قرأ بالفتح كقراءة الباقين .
وتنزيل الله الكتاب بواسطة الملك جبريل عليه السلام ، و { الكتاب } في هذا الموضع القرآن باتفاق من المفسرين ، وقرأ جمهور الناس «نزَّل عليك » بشد الزاي «الكتابَ » بنصب الباء ، وقرأ إبراهيم النخعي «نزَل عليك الكتابُ » بتخفيف الزاي ورفع الباء ، وهذه الآية تقتضي أن قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } جملة مستقلة منحازة ، وقوله { بالحق }{[2908]} يحتمل معنيين : إحداهما أن يكون المعنى ضمن الحقائق من خيره وأمره ونهيه ومواعظه ، فالباء على حدها في قوله : جاءني كتاب بخبر كذا وكذا أي ذلك الخبر مقتص فيه ، والثاني : أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله ، فالباء في هذا المعنى على حدها في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق }{[2909]} وقال محمد بن جعفر بن الزبير{[2910]} : معنى قوله : { بالحق } أي مما أختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون ، وهذا داخل في المعنى الأول ، و { مصدقاً } حال مؤكدة وهي رتبة غير منتقلة لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه من كتب الله{[2911]} فهو كقول ابن دارة{[2912]} : [ البسيط ]
أنا ابْنُ دارةَ معروفاً بها نسبي . . . وَهَلْ بِدَارَة يا للناسِ مِنْ عارِ ؟
وما بين يديه هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا كالزبور والصحف ، وما بين اليد في هذه الحوادث هو المتقدم من الزمن .
و { التوراة والإنجيل } اسمان أصلهما عبراني لكن النحاة وأهل اللسان حملوها على الاشتقاق العربي فقالوا في التوراة : إنها من ورى الزند{[2913]} يري{[2914]} إذا قدح وظهرت ناره يقال أوريته فوري ، ومنه قوله تعالى : { فالموريات }{[2915]} وقوله : { أفرأيتم النار التي تورون }{[2916]} قال أبو علي ، فأما قولهم : وريت بك زنادي على وزن ، فعلت فزعم أبو عثمان أنه استعمل في هذا الكلام فقط ولم يجاوز به غيره ، وتوراة عند الخليل وسيبويه وسائر البصريين فوعلة كحوقلة وورية قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تولج وأصله وولج من : ولجت ، وحكى الزجاج عن بعض الكوفيين : أن توراة أصلها تفعلة بفتح العين ، من : وريت بك زنادي ، وإنما ينبغي أن تكون من : أوريت قال فهي تورية ، وقال بعضهم : يصلح أن تكون تفعلة بكسر العين مثل توصية [ ثم ردت إلى تفعلة بفتح العين ، قال الزجاج وكأنه يجيز فى [ توصية ]{[2917]} توصأة وذلك غير مسموع ، وعلى كل قول فالياء لما انفتح ما قبلها وتحركت هي انقلبت ألفاً فقيل توراة ، ورجح أبو علي قول البصريين وضعفه غيره ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم «التورَاة » مفتوحة الراء ، وكان حمزة ونافع يلفظان بالراء بين اللفظين بين الفتح والكسر وكذلك فعلا في قوله { من الأبرار } و { من الأشرار } [ ص : 62 ] و { من قرار }{[2918]} إذا كان الحرف مخفوضاً ، وروى المسيبي{[2919]} عن نافع فتح الراء من التوراة ، وروى ورش عنه كسرها ، وكان أبو عمرو والكسائي يكسران الراء من التوراة ويميلان من { الأبرار } وغيرها أشد من إمالة حمزة ونافع .
وقالوا في الإنجيل : إنه إفعيل من النجل وهو الماء الذي ينز{[2920]} من الأرض ، قال الخليل : استنجلت الأرض وبها انجال إذا خرج منها الماء والنجل أيضاً الولد والنسل قاله الخليل وغيره ، ونجله أبوه أي ولده ، ومن ذلك قول الأعشى{[2921]} : [ المنسرح ]
أنجبُ أيّام والداه به . . . اذ نَجَلاهُ فَنِعمَ مَا نَجَلا
قال ابن سيده عن أبي علي : معنى قوله أيام والداه به كما تقول : أنا بالله وبك ، وقال أبو الفتح : معنى البيت ، أنجب والداه به أيام إذ نجلاه فهو كقولك حينئذ ويومئذ لكنه حال بالفاعل بين المضاف الذي هو أيام وبين المضاف إليه الذي هو إذ . ويروى هذا البيت أنجب أيام والديه ، والنجل الرمي بالشيء وذلك أيضاً من معنى الظهور وفراق شيء شيئاً ، وحكى أبو القاسم الزجاجي{[2922]} في نوادره : أن الوالد يقال له ، نجل وأن اللفظة من الأضداد وأما بيت زهير فالرواية الصحيحة فيه :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وكل فحل له نجل{[2923]}
أي ولد كريم ونسل ، وروى الأصمعي فيما حكى [ عنه ]{[2924]} : وكل فرع له نجل ، وهذا لا يتجه إلى على تسمية الوالد نجلاً . وقال الزجاج : { الإنجيل } مأخوذ من النجل وهو الأصل فهذا ينحو إلى ما حكى أبو القاسم قال أبو الفتح : ف { التوراة } من وري الزناد{[2925]} ، إذا ظهرت ناره ، و { الإنجيل } من نجل إذا ظهر ولده ، أو من ظهور الماء من الأرض فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة ، و { الفرقان } من الفرق بين الحق والباطل ، فحروفها مختلفة ، والمعنى قريب بعضه من بعض ، إذ كلها معناه ، ظهور الحق ، وبيان الشرع ، وفصله من غيره من الأباطيل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «الأنجيل » بفتح الهمزة ، وذلك لا يتجه في كلام العرب ، ولكن يحميه مكان الحسن من الفصاحة ، وإنه لا يقرأ إلا بما روى ، وأراه نحا به نحو الأسماء الأعجمية .