{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا }
يخبر تعالى أن الرِّجَال { قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } أي : قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى ، من المحافظة على فرائضه وكفهن عن المفاسد ، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك ، وقوامون عليهن أيضا بالإنفاق عليهن ، والكسوة والمسكن ، ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء فقال : { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي : بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن ، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة : من كون الولايات مختصة بالرجال ، والنبوة ، والرسالة ، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والأعياد والجمع . وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله . وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء .
ولعل هذا سر قوله : { وَبِمَا أَنْفَقُوا } وحذف المفعول ليدل على عموم النفقة . فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لامرأته ، وهي عنده عانية أسيرة خادمة ، فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به .
ووظيفتها : القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ } أي : مطيعات لله تعالى { حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ } أي : مطيعات لأزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله ، وذلك بحفظ الله لهن وتوفيقه لهن ، لا من أنفسهن ، فإن النفس أمارة بالسوء ، ولكن من توكل على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه .
ثم قال : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أي : ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل ، { فَعِظُوهُنَّ } أي : ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة ، والترهيب من معصيته ، فإن انتهت فذلك المطلوب ، وإلا فيهجرها الزوج في المضجع ، بأن لا يضاجعها ، ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود ، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح ، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم { فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } أي : فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية ، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } أي : له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات ، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي لا أكبر منه ولا أجل ولا أعظم ، كبير الذات والصفات .
ثم بين - سبحانه حقوق الرجال وحقوق النساء ، وما يجب لكل فريق نحو الآخر ، ودعا أهل الخير إلى محاولة الإِصلاح بين الزوجين إذا مادب الخلاف بينهما فقال - تعالى - : { الرجال . . . خَبِيراً } .
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ( 34 ) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ( 35 )
روى المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } الآية .
ومن هذه الروايات ما ذكره القرطبى من أنها " نزلت فى سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبى زهير فلطمها ؛ فقال أبوها : يا رسول الله ، أفرشته كريمتى فلطمها . فقال صلى الله عليه وسلم " لتقتص من زوجها " . فانصرفت مع أبيها لتقتص منه . فقال - عليه الصلاة والسلام - " ارجعوا هذا جبريل أتانى " فأنزل الله هذه الآية .
وقوله { قَوَّامُونَ } جمع قوام على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشئ وحفظه . يقال : قال فلان على الشئ وهو قائم عليه وقوام عليه ، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه . ويقال : هذا قيم المرأة وقوامها للذى يقوم بأمرها ويهتم بحفظها وإصلاحها ورعاية شئونها . أي : الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والنفقة والتأديب وغير ذلك مما تقتضيه مصلحتهن .
ثم ذكر - سبحانه - سببين لهذه القوامة .
أولهما : وهبى وقد بينه بقوله : { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } .
أى أن حكمة الله اقتضت أن يكون الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من قوة فى الجسم ، وزيادة فى العلم ، وقدرة على تحمل أعباء الحياة وتكاليفها وما يستتبع من دفاع عنهن إذا ما تعرضن لسوء .
قال الفخر الرازى : واعلم أن فضل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة : بعضها صفات حقيقية وبعضها أحكام شرعية . أما الصفات الحقيقة فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين . إلى العلم وإلى القدرة .
ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر . ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل ، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء فى العقل والحزم والقوة . وإن منهم الأنبياء والعلماء ، وفيهم الإِمامة الكبرى والصغرى والجهاد ، والأذان ، والخطبة ، والولاية فى النكاح . فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء .
والمراد بالتفضيل فى قوله { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } تفضيل الجنس على الجنس لا تفضيل الآحاد على الآحاد . فقد يوجد من النساء من هى أقوى عقلا وأكثر معرفة من بعض الرجال .
والباء للسببية ، وما مصدرية ، والبعض الأول المقصود به الرجال والبعض الثانى المقصود به النساء . والضمير المضاف إليه البعض الأول يقع على مجموع الفريقين على سبيل التغليب .
وقال - سبحانه - { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } ولم يقل - مثلا - : بما فضلهم الله عليهن ، للإِشعار بأن الرجال من النساء والنساء من الرجال كما قال فى آية أخرى { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } وللإِشارة إلى أن هذا التفضيل هو لصالح الفريقين ، فعلى كل فريق منهم أن يتفرغ لأداء المهمة التى كلفه الله بها بإخلاص وطاعة حتى يسعد الفريقان .
وأما السبب الثاني : فهو كسبى وقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } .
أى أن الله - تعالى - جعل الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من علم وقدرة . وبسبب ما ألزم به الرجال من إنفاق على النساء ومن تقديم المهور لهن عند الزواج بهن ، ومن القيام برعايتهن وصيانتهن .
قال الآلوسى : واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج . وأن عليها طاعته إلا فى معصية الله - تعالى - . وفى الخبر " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة . وهو مذهب مالك والشافعى ، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح . وعندنا لا فسخ لقوله - تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } . واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته فى نفسها وما لها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه ، لأنه - سبحانه - جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة . وهو الناظر على الشئ الحافظ له .
ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل أحوال النساء . وفى بيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن ، فقسمهن إلى قسمين :
فقال فى شأن القسم الأول : { فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } .
أى : فالصالحات من النساء من صفاتهن أنهن { قَانِتَاتٌ } أى مطيعات لله - تعالى ولأزواجهن عن طيب نفس واطمئنان قلب ، ومن صفاتهن كذلك أنهن { حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } .
قال صاحب الكشاف : الغيب خلاف الشهادة . أى حافظات لمواجب الغيب . إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه فى حال الغيبة من الفروج والأموال والبيوت . وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال . " خير النساء أمرأة إن نظرت إليها سرتك ، وأن أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها " ، ثم تلا الآية الكريمة .
و " ما " فى قوله { بِمَا حَفِظَ الله } يحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى : أن هؤلاء النساء الصالحات المطيعات من صفاتهن أنهن يحفظن فى غيبة أزواجهن ما يجب حفظه بسبب حفظ الله لهن ورعايته إياهن بالتوفيق للعلم الذى يحبه ويرضاه .
ويحتمل أن تكون موصولة فيكون المعنى : أنهن حافظات لغيبة أزواجهن فى النفس والعرض والمال وكل ما يجب حفظه بسبب الأمر الذى حفظه الله لهن على أزواجهن حيث كلف الأزواج بالانفاق عليهن وبالإِحسان إليهن ، فعليهن أن يحفظن حقوق أزاوجهن فى مقابلة الذى حفظه الله لهن من حقوق على أزواجهن .
فالجملة الكريمة تمدح النساء الصالحات المطيعات الحافظات لأسرار أزواجهن ولكل ما يجب حفظه من عرض أو مال أو غير ذلك مما تقتضيه الحياة الزوجية .
هذا هو القسم الأول من النساء ، أما القسم الثانى فقد قال - سبحانه - فى شأنه : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن } والمراد بقوله { نُشُوزَهُنَّ } عصيانهن وخروجهن عما توجيه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها . يقال : نشزت الزوجة نشوزا أى : عصت زوجها وامتنعت عليه . وأصل النشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع فى وسط الأرض السهلة المنبسطة ويكون شاذا فيها . فشبهت المرأة المتعالية على طاعة زوجها بالمرتفع من الأرض .
والمعنى : هذا شأن النساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بسبب حفظ الله لهن ، أما النساء اللاتى تخافون { نُشُوزَهُنَّ } أى عصيانهن لكم ، وترفعهن عن مطاوعتكم ، وسوء عشرتهن { فَعِظُوهُنَّ } بالقول الذى يؤثر فى النفس ، ويوجههن نحو الخير والفضيلة ، بأن تذكروهن بحسن عاقبة الطاعة للزوج . وسوء عاقبة النشوز والمعصية ، وبأن تسوقوا لهن من تعاليم الإِسلام وآدابه وتوجيهاته ما من شأنه أن يشفى الصدور ، ويهدى النفوس إلى الخير .
قال ابن كثير : وقوله - تعالى - : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أى النساء تخافون أن ينشزن على أزواجهن فعظوهن . والنشوز هو الارتفاع فالمرأة الناشز هى المرتفعة على زوجها التاركة لأمره ، المعرضة عنه المبغضة له ، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله ، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته ، وحرم عليها معصيته لماله عليها من الفضل ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " .
وقوله { واهجروهن فِي المضاجع } أى وعليكم إذا لم تنفع الموعظة والنصيحة معهن أن تتركوهن منفردات فى أماكن نومهن .
فالمضاجع جمع مضجع - وهو مكان النوم والاضطجاع .
قال القرطبى : والهجر فى المضجع هو أن يضاجعها - أى ينام معها فى فراش واحد - ويوليها ظهره ولا يجامعها . وقال مجاهد : { واهجروهن فِي المضاجع } أى تجنبوا مضاجعهن أى - اهجروا أماكن نومهن بأن تناموا بعيدا عنهن - .
روى أبو داود بسند " عن معاوية بن حيدة القشيرى أنه قال : يا رسول الله : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه . ولا تقبح . ولا تهجر إلا فى البيت " .
وقوله { واضربوهن } معطوف على ما قبله . أى إن لم ينفع ما فعلتم من العظة والهجران فاضربوهن ضربا غير مبرح - أى غير شديد ولا مشين - فقد ثبت فى صحيح مسلم عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى حجة الوداع : " واتقوا الله فى النساء فانهن عوان عندكم - أى أسيرات عندكم - ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا كرهونه . فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح " .
وقد فسر العلماء الضرب غير المبرح بأنه الذى لا يكسر عظما ، ولا يشين جارحة ، وأن يتقى الوجه فإنه مجمع المحاسن ولا يلجأ إليه إلا عند فشل العلاجين السابقين .
وقد قال - سبحانه - { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } ولم يقل : واللائى ينشزن ، للإِشعار بأن يبدأ الزوج بعلاج عيوب زوجته عندما تظهر أمارات هذه العيوب وعلاماتها وأن لا يتركها حتى تشترى وتشتد ، بل عليه عندما يخشى النشوز أن يعالجة قبل أن يقع ، وأن يكون علاجه بطريقة حكيمة من شأنها أن تقنع وتفيد .
وبعضهم فسر الخوف ، بالعلم أى واللاتى تعلمون نشوزهن فعظوهن . . . إلخ .
وبعضهم قدر مضافا فى الكلام أى : واللاتى تخافون دوام نشوزهن ، فعظوهن واهجروهن فى المضاجع . . الخ .
وجمهور العلماء على أن من الواجب على الزوج أن يسلك فى معالجته لزوجته تلك الأنوار الثلاثة على الترتيب بأن يبدأ بالوعظ ثم بالهجر ثم بالضرب ، لأن الله - تعالى - قد أمر بذلك ، ولأنه قد رتب هذه العقوبات بتلك الطريقة الحكيمة التى تبدأ بالعقوبة الخفيفة ثم تتدرج إلى العقوبة الشديدة ثم إلى الأكثر شدة .
قال الفخر الرازى : وبالجملة فالتخفيف مراعى فى هذا الباب على أبلغ الوجوه . والذى يدل عليه اللفظ أنه - تعالى - ابتدأ بالوعظ . ثم ترقى منه إلى الضرب . وذلك تنبيه يجرى مجرى التصريح فى أنه متى حصل الغرض بالطريق الأخف ، وجب الاكتفاء به ، ولم يجز الإِقدام على الطريق الأشق . وهذه طريقة من قال : حكم هذه الآية مشروع على الترتيب .
وقال بعض أصحابنا : " تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها ، وهل له أن يهجرها ؟ فيه احتمال . وله عند إيداء النشوز من يعظها أو يهجرها ، أو يضربها .
ثم بين - سبحانه - ما يجب على الرجال نحو النساء إذا ما أطعنهم وتركن النشوز والعصيان فقال - تعالى - : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } .
أى فإن رجعن عن النشوز إلى الطاعة وانقدن لما أوجب الله عليهن نحوكم أيها الرجال ، فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدى عليهن ، أو فلا تظلموهن بأى طريق من طرق الظلم كأن تؤذوهن بألسنتكم أو بأيدكم أو بغير لك ، بل اجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن ، وحاولوا التقرب إليهن بألوان المودة والرحمة .
{ إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } فاحذروا مخالفة أمره ، فإن قدرته - سبحانه - عليكم أعظم من قدرتكم على نسائكم .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به حث الأزواج على قبول توبة النساء ، وتحذيرهم من ظلمهن إذا ما تركن النشوز ، وعدن إلى طريق الطاعة والإِنابة .
قال بعضهم : وذكر هاتين الصفتين فى هذا الموضع فى غاية الحسن ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النساء . والمعنى : أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم ، فالله - سبحانه - ينتصف لهن منكم لأنه علىٌّ قاهر كبير .
الثانى : لا تبغوا إذا أطعنكم لعلو أيديكم ، فإن الله أعلى منكم وأكبر من كل شئ .
الثالث : أنه - سبحانه - مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصى إذا تاب ، بل يغفر له ، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تتركوا عقوبتها وتقبلوا توبتها .
الخامس : أنه - تعالى مع علوه وكبريائه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة ، وأن تقعوا فى التفتيش عما فى قلبها وضميرها من الحب والبغض .
{ الرجال قوامون على النساء } يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية ، وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال : { بما فضل الله بعضهم على بعض } بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر ، والشهادة في مجامع القضايا ، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها ، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق . { وبما أنفقوا من أموالهم } في نكاحهن كالمهر والنفقة . روي ( أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصاري نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتقتص منه ، فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام : " أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير " . { فالصالحات قانتات } مطيعات لله قائمات بحقوق الأزواج . { حافظات للغيب } لمواجب الغيب أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال ، وعنه عليه الصلاة والسلام : " خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها " . وتلا الآية . وقيل لأسرارهم . { بما حفظ الله } بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له ، أو بالذي حفظه الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن . وقرئ { بما حفظ الله } بالنصب على أن ما موصولة فإنها لو كانت مصدرية لم يكن لحفظ فاعل ، والمعنى بالأمر الذي حفظ حق الله وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرجال . { واللاتي تخافون نشوزهن } عصيانهن وترفعهن عن مطاوعة الأزواج من النشز . { فعظوهن واهجروهن في المضاجع } في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ، أو لا تباشروهن فيكون كناية عن الجماع . وقيل المضاجع المبايت أي لا تباينوهن { واضربوهن } يعني ضربا غير مبرح ولا شائن ، والأمور الثلاثة مرتبة ينبغي أن يتدرج فيها . { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } بالتوبيخ والإيذاء ، والمعنى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له { إن الله كان عليا كبيرا } فاحذروه فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم ، أو أنه على علو شأنه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم ، أو أنه يتعالى ويتكبر أن يظلم أحدا أو ينقص حقه .
وقوله تعالى : { الرجال قوامون } الآية ، قوام فعال : بناء مبالغة ، وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد ، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد{[3995]} ، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكاً ما{[3996]} ، قال ابن عباس : الرجال أمراء على النساء ، وعلى هذا قال أهل التأويل و «ما » في قوله : { بما فضل الله } مصدرية ، ولذلك استغنت عن العائد ، وكذلك { بما أنفقوا } والفضلة : هي الغزو وكمال الدين والعقل وما أشبهه{[3997]} ، والإنفاق : هو المهر والنفقة المستمرة على الزوجات ، وقيل : سبب هذه الآية أن سعد بن الربيع{[3998]} لطم زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، فجاءت مع أبيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض الحكم الأول وقال : أردت شيئاً وما أراد الله خير{[3999]} ، وفي طريق آخر أردت شيئاً وأراد الله غيره ، وقيل : إن في هذا الحكم المردود نزلت { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه }{[4000]} وقيل سببها قول أم سلمة المتقدم ، أي : لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة{[4001]} .
والصلاح في قوله { فالصالحات } هو الصلاح في الدين ، و«و القانتات » معناه : مطيعات ، والقنوت الطاعة ، ومعناه لأزواجهن ، أو لله في أزواجهن ، وغير ذلك ، وقال الزجّاج : إنها الصلاة ، وهذا هنا بعيد و { للغيب } معناه : كل ما غاب عن علم زوجها مما استرعته ، وذلك يعم حال غيب الزوج وحال حضوره ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «خير النساء امرأة اذا نظرتَ إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{[4002]} ، وفي مصحف ابن مسعود «فالصوالح قوانت حوافظ » وهذا بناء يختص بالمؤنث ، وقال ابن جني : والتكسير أشبه لفظاً بالمعنى ، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هنا ، و { بما حفظ الله } الجمهور على رفع اسم الله بإسناد الفعل إليه ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اللهَ » بالنصب على إعمال { حفظ } فأما قراءة الرفع «فما » مصدرية تقديره : يحفظ الله ، ويصح أن تكون بمعنى «الذي » ويكون العائد الذي في { الذي } وفي { حفظ } ضمير مرفوع ، وأما قراءة ابن القعقاع بما حفظ الله ، فالأولى أن تكون «ما » بمعنى «الذي » وفي { حفظ } ضمير مرفوع ، والمعنى حافظات للغيب بطاعة وخوف وبر ودين حفظن الله في أوامره حين امتثلنها ، وقيل : يصح أن تكون «ما » مصدرية ، على أن تقدير الكلام بما حفظن الله وينحذف الضمير ، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر ، كما قال [ الأعشى ] : [ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَإنَّ الحوادِثَ أَوْدَى بِها{[4003]}
يريد أَوْدَين ، والمعنى : يحفظن الله في أمره حين امتثلنه ، وقال ابن جني : الكلام على حذف مضاف تقديره : بما حفظ دين الله وأمر الله ، وفي مصحف ابن مسعود «بما حفظ الله فأصلحوا إليهن » .
{ واللاتي } في موضع رفع بالابتداء والخبر { فعظوهن } ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مضمر تقديره : وعظوا اللاتي تخافون نشوزهن ، كقوله : { والسارق والسارقة }{[4004]} على قراءة من قرأها بالنصب ، قال سيبويه : النصب القياس ، إلا أن الرفع أكثر في كلامهم ، وحكي عن سيبويه : أن تقدير الآية عنده : وفيما يتلى عليكم اللاتي ، قالت فرقة معنى { تخافون } تعلمون وتتيقنون ، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن :
ولا تَدْفُنَّنِيِ بالفلاةِ فإنَّني . . . أخافُ إذا ما مِتُّ أنْ لا أذوقُها{[4005]}
وقالت فرقة : الخوف هاهنا على بابه في التوقع ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف{[4006]} ، «والنشوز » : أن تتعوج{[4007]} المرأة وترتفع في خلقها ، وتستعلي على زوجها ، وهو من نشز الأرض ، يقال ناشز وناشص ومنه بيت الأعشى : [ الطويل ]
تَجَلَّلَها شَيْخٌ عِشَاءً فأصْبَحَتْ . . . قَضَاعِيّةً تأتي الكواهِن ناشصا{[4008]}
و { عظوهن } معناه : ذكروهن أمر الله ، واستدعوهن إلى ما يجب عليهن بكتاب الله وسنة نبيه{[4009]} ، وقرأ إبراهيم النخعي «في المضجع » ، وهو واحد يدل على الجمع ، واختلف المتأولون في قوله : { اهجروهن } فقالت فرقة معناه جنبوا جماعهن ، وجعلوا { في } للوعاء على بابها دون حذف قال ابن عباس : يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها وقال مجاهد : جنبوا مضاجعتهن فيتقدر على هذا القول حذف تقديره : واهجروهن برفض المضاجع أو بترك المضاجع وقال سعيد بن جبير : هي هجرة الكلام أي لا تكلموهن وأعرضوا عنهن فيقدر حذف تقديره : واهجروهن في سبب المضاجع حتى يراجعنها ، وقال ابن عباس أيضاً : معناه وقولوا لهن هجراً من القول أي إغلاظاً حتى يراجعن المضاجع وهذا لا يصح تصريفه إلا على من حكى هجر وأهجر بمعنى واحد ، وقال الطبري : معناه اربطوهن بالهجار ، كما يربط البعير به ، وهو حبل يشد به البعير ، فهي في معنى اضربوهن ونحوها ، ورجح الطبري منزعه هذا وقدح في سائر الأقوال ، وفي كلامه في هذا الموضع نظر ، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظماً ولا يشين جارحة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
«اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضرباً غير مبرح » وقال عطاء : قلت لابن عباس : ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالشراك ونحوه ، وروي عن ابن شهاب أنه قال : لا قصاص بين الرجل وامرأته إلا في النفس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تجاوز ، قال غيره : إلا في النفس والجراح ، وهذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها . و { تبغوا } معناه تطلبوا ، و { سبيلاً } عليهن والتمكين من أدبهن ، وحسن معه الاتصاف بالعلو والكبر ، أي قدره فوق كل قدر ويده بالقدرة فوق كل يد ، فلا يستعمل أحد على امرأته ، فالله بالمرصاد ، وينظر هذا إلى حديث أبي مسعود فصرفت وجهي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد »{[4010]} .