تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

ثم قال تعالى :

{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه ، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه ، غامضة أثاره ، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس ، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول ، وظهرت طرقه ، وتبين أمره ، وعرف الرشد من الغي ، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره ، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة ، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل ، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح ، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين ، لعدم النتيجة والفائدة فيه ، والمكره ليس إيمانه صحيحا ، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين ، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق ، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له ، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر ، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب ، كما هو قول كثير من العلماء ، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان ، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي : بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه ، وكان المتمسك به على ثقة من أمره ، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { لا انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت ، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة ، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم { والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر ، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

وبعد أن ساق - سبحانه - في آية الكرسي الأدلة الواضحة على وحدانيته وعظمته وتنزيهه عن صفات الحوادث ، عقب ذلك ببيان أن الدين الحق قد ظهر وتجلى لكل ذي عقل سليم ، وأنه لا يقسر أحد على الدخول فيه فقال - تعالى - :

{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . . }

لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 256 )

الإكراه معناه : حمل الغيرعلى قول أو فعل لا يريده عن طريق التخويف أو التعذيب أو ما يشبه ذلك . والمراد بالدين دين الإِسلام والألف واللام فيه للعهد .

والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلبه فيه ، مصدر رشيد يرشد ويرشد أي اهتدى . والمراد هنا : الحق والهدى .

والغي ضد الرشد . مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأى ، ويرى بعض العلماء أن نفي الإِكراه هنا خبر في معنى النهي ، أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإِسلام فإنه بين واضح في دلائله وبراهينه ، فمن هداه الله له ونور بصيرته دخل فيه على بصيرة ، ومن أضله وأعمى قلبه لا يفيده الإِكراه على الدخول فيه .

وقال بعض العلماء إن الجملة هنا على حالها من الخبرية والمعنى : ليس في الدين - الذي هو تصديق بالقلب ، وإذعان في النفس - إكراه وإجبار من الله - تعالى - لأحد ، لأن مبني هذا الدين على التمكين والاختيار ، وهو مناط الثواب والعقاب ، لولا ذلك لما حصل الابتلاء والاختبار ، ولبطل الامتحان .

أو المعنى : كما يرى بعضهم - إن من الواجب على العاقل بعد ظهور الآيات البينات على أن الإِيمان بدين الإِسلام حق ورشد . وعلى أن الكفر به غي وضلال ، أن يدخل عن طواعية واختيار في دين الإِسلام الذي ارتضاه الله وألا يكره على ذلك بل يختاره بدون قسر أو تردد .

فالجملة الأولى وهي قوله - تعالى - : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } : تنفى الإِجبار على الدخول في الدين ، لأن هذا الإجبار لا فائدة من ورائه ، إذ التدين إذعان قلبي ، واتجاه بالنفس والجوارح إلى اله رب العالمين بإرادة حرة مختارة فإذا أكره عليه الإِنسان إزداد كرهاً له ونفوراً منه . فالإِكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان ، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخرة .

والجملة الثانية وهي قوله - تعالى - : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } بمثابة العلة لنفي هذا الإكراه على الدخول في الدين ، أي قد ظهر الصبح لذي عينين ، وانكشف الحق من الباطل ، والهدى من الضلال وقامت الأدلة الساطعة على دين الإِسلام هو الدين الحق وغيره من الأديان ضلال وكفران وما دام الأمر كذلك فقد توافرت الأسباب التي تدعو إلى الدخول في دين الإِسلام ، ومن كفر به بعد ذلك فليحتمل نتيجة كفره ، وسوء عاقبة أمره .

ثم قال - تعالى - : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا } .

الطاغوت : اسم لكل ما يطغى الإِنسان ، كالأصنام والأوثان والشيطان وكل رأس في الضلال وكل ما عبد من دون الله . وهو مأخوذ من طغا يطغى - كسعى يسعى - طغياً وطغياناً ، أو من يطغو طغوا طغواناً ، إذا جاوز الحد وغلا في الكفر وأسرف في المعاصي والفجور .

والعروة : في أصل معناها تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي من الجهة التي يجب تعليهقمنها ، وتجمع على غرى . والعروة من الدلو والكوز مقبضه . ومن الثوب مدخل زره .

والوثقى : مؤنث الأوثق ، وهو الشيء المحكم الموثق . يقال وثق - بالضم - وثاقه أي : قوى وثبت فهو وثيق أي ثابت محكم .

والانفصام : الانكسار ، والقصم كسر الشيء وقطعة .

والمعنى : فمن خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله ، وآمن بالله - تعالى - إيماناً حالصاً صادقاً فقد ثبت أمره واستقام على الطريقة المثلى التي لا انقطاع لها وأمسك من الدين بأقوى سبب وأحكم رباط .

والفاء في قوله : { فَمَنْ يَكْفُر } للتفريع . والسين والتاء في استمسك للتأكيد والطلب ، وقوله : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } فيه - كما يقول الزمخشري - تمثيل للمعلوم بالمنظور والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى بتصوره السامع كأنما ينظر إلأيه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به ، وجملة { لاَ انفصام لَهَا } استئناف مقرر لما قبله أو حال من " العروة " والعامل " استمسك " .

ثم ختم - سبحانه الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع الأقوال ، وهمسات القلوب ، وخلجات النفوس ، عليم بما يسره الناس وما يعلنونه ، وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب .

قال القرطبي ما ملخصه : قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله - تعالى - : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإِسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا الإِسلام . وقيل إنهاه لسيت بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإِسلام إذا أدوا الجزية . . والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمي أيتها العجوز تسلمي ، إن الله بعث محمداً بالحق .

قالت أنا عجوز كبيرة والموت إلى قريب . فقال عمر : اللهم اشهد وتلا : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } .

والذي تسكن إليه النفس أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، لأن التدين لا يكون مع الإِكراه - كما أشرنا من قبل - ولأن الجهاد ما شرع في الإِسلام لإِجبار الناس على الدخول في الإِسلام إذ لا إسلام مع إجبار ، وإنما شرع الجهاد لدفع الظلم ورد العدوان وإعلاء كلمة الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما قاتل العرب ليكرههم على الدخول في الإِسلام وإنما قاتلهم لأنهم بدأوه بالعدواة .

ولأن الروايات في سبب نزول هذه الآية تؤيد أنه لا إكراه في الدين ، ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال : نزلت في رجل من الأنجز من بني سالم بن عوف يققال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله هذه الآية وفي رواية أخرى أنه حاول إكراههما على الدخول في الإِسلام فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعض النار وأنا أنظر إليه فنزلة هذه الآية .

ولأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين وهنا يمكن التوفيق بأن نقول : إن الآية التي معنا تنفى إكراه الناس على اعتقاد ما لا يريدون وآية { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } جاءت لحض النبي صلى الله عليه وسلم وحض أصحابه على قتال الكفار الذين وقفوا في طريق دعوته ، حتى يكفوا عن عدوانهم وتكون كلمة الله هي العليا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

{ لا إكراه في الدين } إذ الإكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه ، ولكن { قد تبين الرشد من الغي } تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء . وقبل إخبار في معنى النهي ، أي لا تكرهوا في الدين ، وهو إما عام منسوخ بقوله ؛ { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } ، أو خاص بأهل الكتاب لما روي ( أن أنصاريا كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعقبي النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما ) . { فمن يكفر بالطاغوت } بالشيطان ، أو الأصنام ، أو كل ما عبد من دون الله ، أو صد عن عبادة الله تعالى . فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه . { ويؤمن بالله } بالتوحيد وتصديق الرسل . { فقد استمسك بالعروة الوثقى } طلب الإمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق ، وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم . { لا انفصام لها } لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته . { والله سميع } بالأقوال { عليم } بالنيات ، ولعله تهديد على النفاق .