{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }
{ بِسْمِ اللَّهِ } أي : أبتدئ بكل اسم لله تعالى ، لأن لفظ { اسم } مفرد مضاف ، فيعم جميع الأسماء [ الحسنى ] . { اللَّهِ } هو المألوه المعبود ، المستحق لإفراده بالعبادة ، لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال . { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء ، وعمت كل حي ، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله . فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة ، ومن عداهم فلهم{[30]} نصيب منها .
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها ، الإيمان بأسماء الله وصفاته ، وأحكام الصفات .
فيؤمنون مثلا ، بأنه رحمن رحيم ، ذو الرحمة التي اتصف بها ، المتعلقة بالمرحوم . فالنعم كلها ، أثر من آثار رحمته ، وهكذا في سائر الأسماء . يقال في العليم : إنه عليم ذو علم ، يعلم [ به ] كل شيء ، قدير ، ذو قدرة يقدر على كل شيء .
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وحده لا شريك له ، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله رحمة للعالمين ، وأنزل عليه كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أولئك هم المفلحون .
وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من الكفر والظلم والفجور . [ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ]( {[1]} ) .
وقد أنزل الله –تعالى- هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم ، لمقاصد عالية ، وحكم سامية ، وأغراض شريفة . . .
من أهمها أن يكون هذا القرآن هداية للإنس وللجن في كل زمان ومكان إلى الصراط المستقيم ، وإلى السعادة التي تصبو إليها النفوس ، وتتطلع إليها الأفئدة والقلوب . . .
وقد أودع –تعالى- في هذا الكتاب من العقائد السليمة ، والعبادات القويمة ، والأحكام الجليلة ، والآداب الفاضلة ، والعظات البليغة ، والتوجيهات الحكيمة . . . ما به قوام الملة الكاملة ، والأمة الفاضلة ، والجماعة الراشدة ، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شئونه .
فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية ، وأوفاها بحاجة البشرية ، وأجمعها للخير ، وأبقاها على الدهر ، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم .
قال –تعالى- [ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ]( {[2]} ) .
وقال تعالى : [ لَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ، وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ، وَيَهْدِيهم إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ]( {[3]} ) .
وقال –تعالى- [ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ ، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَأَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ]( {[4]} ) .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن ، أن يكون هذا القرآن معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدقه فيما يبلغه عن ربه .
ولقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وقال لهم : معجزتي الدالة على صدقي هذا القرآن ، فإن كنتم في شك من ذلك فأتوا بمثله فعجزوا ، فأرخى لهم العنان وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا ، فزاد في إرخاء العنان لهم –وهم أرباب البلاغة والبيان- وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله ، فأخرسوا وانقلبوا صاغرين . فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
قال الله تعالى- : [ وَإِنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه ، وادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ]( {[5]} ) .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقرب الناس به إلى خالقهم عن طريق تلاوته ، وحفظه ، وتدبره ، والعمل بتشريعاته وآدابه وتوجيهاته . . .
ولقد تكلم الإمام القرطبي بإسهاب في مقدمة تفسيره عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه ، وفضل طالبه ، وقارئه ، ومستمعه ، والعامل به ، وكيفية تلاوته . . . فقال ما ملخصه :
اعلم أن هذا الباب واسع كبير . ألف فيه العلماء كتباً كثيرة ، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله ، وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه ، وعملوا به . فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين . كلام من ليس كمثله شيء . . .
ومن الآثار التي جاءت في هذا الباب ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . . . " .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم . . . " .
وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة( {[6]} ) ريحها طيب وطعمها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو . ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر " .
وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه –أي يقرؤه بصعوبة- وهو عليه شاق له أجران " .
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها . لا أقول الَم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " ( {[7]} ) .
هذا جانب من الأحاديث الشريفة التي أوردها القرطبي ، وهو يتحدث عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه . . . الخ .
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم : أمته تحذيراً شديداً من نسيان القرآن ، فقد روى الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعاهدوا القرآن ؛ فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً –أي : تفلتا- من الإبل في عُقُلِها " .
وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجها ثم نسيها " .
هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل الله –تعالى- القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم : أن يكون هداية للناس ، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم : فيما يبلغه عن ربه ، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم –عز وجل- ولقد تكفل الله –تعالى- بحفظ هذا القرآن ، وصانه من التحريف والتبديل ، والتغيير والمعارضة . قال –تعالى- : [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ]( {[8]} ) .
وكان من مظاهر عنايته –سبحانه- بكتابه ، أن جعله محفوظاً في كل العصور بالتواتر الصادق القاطع ، يرويه الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن وفق له في كل عصر حفاظاً متقنين جمعوه في صدورهم ، وعمروا به ليلهم ونهارهم . . .
وأن قيض لهم رجالا قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته ودراسة علومه ، فمنهم من كتب في إعجازه وبلاغته ، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره ، ومنهم من كتب في أسباب نزوله ، ومنهم من كتب في قراءاته ورسمه ، ومنهم من كتب في محكمه ومتشابهه ، ومنهم من كتب في ناسخه ومنسوخه ، ومنهم من كتب في مكيه ومدنيه ، ومنهم من كتب في غريب ألفاظه . . . . . إلى غير ذلك من ألوان علومه .
وكثير منهم كتبوا في تفسيره . وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه ، وذلك لأن سعادة الأفراد والأمم لا تتأتى إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن وتوجيهاته ، وهذا الاسترشاد لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان ، لما تدل عليه ألفاظ القرآن . وهو ما يسمى بعلم التفسير .
فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية ، والتوجيهات النافعة ، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم .
وبدون تفسير القرآن ، تفسيراً علمياً سليماً لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات ، مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون .
قال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره ، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا ، وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب . ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب " ( {[9]} ) .
ولقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان هذا المعنى " وفي بيان أحسن طرق التفسير فقال : " فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله ، وتفسير ذلك ، وطلبه من مظانه ، وتعلم ذلك وتعليمه . . . .
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : إن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك عليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له . . . . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " . يعني السنة . . . .
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فمن السنة . . . . فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين . . . قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت . ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته " . وقال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن " .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً " . . . .
فإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر ، وسعيد ابن جبير . وعكرمة مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري وغيرهم " ( {[10]} ) .
هذا ، وأنت إذا سرحت طرفك في المكتبة الإسلامية ترى العشرات من كتب التفسير ، منها القديم والحديث ، وترى منها الكبير والوسيط والوجيز ، وترى منها ما يغلب عليه طابع التفسير بالمأثور ، وترى ما يغلب عليه طابع التفسير بالرأي ، وترى منها ما تغلب عليه الصبغة الفقهية ، أو البلاغية ، أو الفلسفية ، أو الصوفية ، أو العلمية ، أو الاجتماعية ، أوالطائفية . . . . أو غير ذلك من الاتجاهات والميول التي تختلف باختلاف أفكار الكاتبين وثقافتهم ومذهبهم . . .
وترى منها المحرر أو شبه المحرر من الخرافات ، والأقوال السقيمة ، والقصص الباطلة . . . كما ترى منها ما هو محشو بذلك .
ولقد انتفعت كثيراً بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله –تعالى- ، وهاأنذا –أخي القارئ- أقدم لك تفسيراً وسيطا لسورتي الفاتحة والبقرة ، وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيراً علمياً محققاً ، محرراً من الأقوال الضعيفة ، والشبه الباطلة ، والمعاني السقيمة . .
وستلاحظ خلال قراءتك له أنني كثيراً ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغوياً مناسبا ثم أبين المراد منها –إذا كان الأمر يقتضي ذلك- .
ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات –إذا وجد وكان مقبولا- .
ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة ، عارضا( {[11]} ) ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان ، والعظات والآداب والأحكام . . . ، مدعما ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ، ومن الأحاديث النبوية ، ومن أقوال السلف الصالح .
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالرأي أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال . . .
وذلك لأنني توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة ، وأحكام سامية ، وتشريعات جليلة ، وآداب فاضلة ، وعظات بليغة ، وأخبار صادقة ، وتوجيهات نافعة ، وأساليب بليغة ، وألفاظ فصيحة . . .
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، وبهجة أفئدتنا ، وأن يعيننا ويوفقنا لإتمام ما بدأناه من خدمة كتابه ، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .
{ بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ }
الاسم : اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى . وقد اختلف النحويون فى اشتقاقه على وجهين ، فقال البصريون : هو مشتق من السمو ، ، فقيل : اسم ، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به .
وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهى العلامة ، لأن الاسم علامة لمن وضع له ، فأصل اسم على هذا " وسم " .
ويرى المحققون أن رأى البصريين أرجح ، لأنه يقال فى تصغير " اسم " سُمىَ ، وفى جمعه أسماء ، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها . ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه : أوسام ، وفى تصغيره وسيم .
ولفظ الجلالة وهو " الله " علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره ، ولا يشاركه فيه أحد . قال القرطبى : قوله " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع : فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو - سبحانه -
و { الرحمن الرحيم } صفتان مشتقتان من الرحمة . والرحمة فى أصل اللغة : رقة في القلب تقتضى الإِحسان ، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفًا لله - تعالى- ، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان . وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه .
والموافق لمذهب السلف أن يقال : هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها ، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان .
وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين ، فبعضهم يرى أن { الرحمن } هو المنعم على جميع الخلق . وأن { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة . ويرى آخرون أن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم ، وأن { الرحيم } هو المنعم بدقائقها .
ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول . والذي يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد ، بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر ، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة ، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران . والرحيم بمعنى دائم الرحمة ، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف . فكأنه قيل : العظيم الرحمة الدائمة .
أو أن { الرحمن } صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان . و { الرحيم } صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه . ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات . قال - تعالى- : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } و { الرحمن عَلَى العرش استوى } { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } وهكذا . . .
أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفًا فعليًا ، وجاء فى الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه . قال - تعالى - { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } الخ .
قال بعض العلماء " وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء ، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه ، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال فى القرآن : إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها " .
والجار والمجرور " بسم " متعلق بمحذوف تقديره أبتدئ . والمعنى : أبتدئ قراءتي متبركًا ومتيمنًا باسم الله الذي هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، والذي رحمته وسعت كل شئ ، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون ، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة .
هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل في قوله - تعالى - { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ثم اختلفوا بعد ذلك فى كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة ، أو هي آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة الخ .
فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة ، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها فى المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه ، ولذا لم يكتبوا " آمين " . فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة . وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي ، وأحمد في أحد قوليه . ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقالوا : إنها آية فذة . من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها ، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة ، لما اختلف الناس في ذلك ، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط . وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة ، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضًا - في وجوب قراءتها في الصلاة ، وفى الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت . وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه ، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام .
يقال لها : الفاتحة ، أي : فاتحة الكتاب خطا ، وبها تفتح{[1]} القراءة في الصلاة{[2]} ويقال لها أيضا : أم الكتاب عند الجمهور ، ذكره أنس ، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك ، قال الحسن وابن سيرين : إنما ذلك اللوح المحفوظ ، وقال الحسن : الآيات المحكمات : هن أم الكتاب ، ولذا كرها{[3]} - أيضا - أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في [ الحديث ]{[4]} الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم » ويقال لها : الحمد ، ويقال لها : الصلاة ، لقوله عليه السلام{[5]} عن ربه : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي » الحديث . فسميت الفاتحة : صلاة ؛ لأنها شرط فيها . ويقال لها : الشفاء ؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا : «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم{[6]} » . ويقال لها : الرقية ؛ لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما يدريك أنها رقية ؟ » . وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها : أساس القرآن ، قال : فأساسها{[7]} بسم الله الرحمن الرحيم ، وسماها سفيان بن عيينة : الواقية . وسماها يحيى بن أبي كثير : الكافية ؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها ، كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة : " أم القرآن عوض من غيرها ، وليس غيرها عوضا عنها " {[8]} . ويقال لها : سورة الصلاة والكنز ذكرهما الزمخشري في كشافه . وهي مكية ، قاله{[9]} ابن عباس وقتادة وأبو العالية ، وقيل مدنية ، قاله{[10]} أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري . ويقال : نزلت مرتين : مرة بمكة ، ومرة بالمدينة ، والأول أشبه لقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } [ الحجر : 87 ] ، والله أعلم{[11]} . وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة ، وهو غريب جدًا ، نقله القرطبي عنه . وهي سبع آيات بلا خلاف ، [ وقال عمرو بن عبيد : ثمان ، وقال حسين الجعفي : ستة{[12]} وهذان شاذان ]{[13]} . وإنما اختلفوا في البسملة : هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول الجماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف ، أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية ، كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء ؟ على ثلاثة أقوال ، سيأتي تقريره{[14]} في موضعه إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة .
قالوا : وكلماتها خمس وعشرون كلمة ، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفًا . قال البخاري في أول كتاب التفسير : وسميت أم الكتب ، أنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ، ويبدأ بقراءتها في الصلاة{[15]} وقيل : إنما{[16]} سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله{[17]} إلى ما تضمنته . قال ابن جرير : والعرب تسمي كل جامع أمر{[18]} أو مقدم لأمر - إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع - أُمًّا ، فتقول{[19]} للجلدة التي تجمع الدماغ ، أمّ الرأس ، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أُمًّا ، واستشهد{[20]} بقول ذي الرمة :
على رأسه أم لنا نقتدي به *** جماع أمور ليس{[21]} نعصي لها أمرا{[22]}
يعني : الرمح . قال : وسميت مكة : أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها ، وقيل : لأن الأرض دحيت منها .
ويقال لها أيضًا : الفاتحة ؛ لأنها تفتتح بها القراءة ، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام ، وصح تسميتها بالسبع المثاني ، قالوا : لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كل ركعة ، وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله{[23]} . قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم القرآن : «هي أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي القرآن العظيم{[24]} »{[25]} . ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به ، وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «هي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني »{[26]} . وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، ثنا محمد بن غالب بن حارث ، ثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي ، ثنا المعافى بن عمران ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن نوح بن أبي بلال ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحمد لله رب العالمين سبع آيات : بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهي أم الكتاب{[27]} »{[28]} .
وقد رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه{[29]} أو مثله ، وقال : كلهم ثقات{[30]} . وروى البيهقي عن علي{[31]} وابن عباس{[32]} وأبي هريرة{[33]} أنهم فسروا قوله تعالى : { سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } [ الحجر : 87 ] بالفاتحة ، وأن البسملة هي الآية السابعة منها ، وسيأتي تمام هذا عند البسملة .
وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال : قيل لابن مسعود : لِمَ لَمْ تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ قال : لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة . قال أبو بكر بن أبي داود : يعني حيث يقرأ في الصلاة ، قال : واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها .
وقد قيل : إن الفاتحة أول شيء نزل من القرآن ، كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة{[34]} ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة هذا [ أحدها ]{[35]} وقيل : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } كما في حديث جابر في الصحيح{[36]} . وقيل : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وهذا هو الصحيح ، كما سيأتي تقريره في موضعه ، والله{[37]} المستعان .
قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، حدثني خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المُعَلَّى ، رضي الله عنه ، قال : كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم أجبه حتى صلَّيت وأتيته ، فقال : «ما منعك أن تأتيني ؟ » . قال : قلت : يا رسول الله ، إني كنت أصلي . قال : «ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ثم قال : «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد » . قال : فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله إنك قلت : «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن » . قال : «نعم ، الحمد لله رب العالمين هي : السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته » .
وهكذا رواه البخاري عن مسدد ، وعلي بن المديني ، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان ، به{[38]} . ورواه في موضع آخر من التفسير ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق عن شعبة ، به{[39]} . ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاريّ ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المُعَلَّى ، عن أبي بن كعب ، فذكر نحوه .
وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس ، ما ينبغي التنبيه عليه ، فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي : أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبرهم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب ، وهو يصلي في المسجد ، فلما فرغ من صلاته لحقه ، قال : فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي ، وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ، ثم قال : «إني لأرجو ألا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل{[40]} في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان{[41]} مثلها » . قال أبيّ : فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك ، ثم قلت : يا رسول الله ، ما السورة التي وعدتني ؟ قال : " كيف تقرأ إذا افتتحت{[42]} الصلاة ؟ قال : فقرأت عليه : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } حتى أتيت على{[43]} آخرها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هي هذه السورة ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت »{[44]} . فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المُعَلّى ، كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه{[45]} ، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري ، وهذا تابعي من موالي خزاعة ، وذاك الحديث متصل صحيح ، وهذا ظاهره أنه منقطع ، إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبيّ بن كعب ، فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم ، والله أعلم . على أنه قد روي عن أبيّ بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد : حدثنا عفَّان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب ، وهو يصلي ، فقال : «يا أبي » ، فالتفت ثم لم يجبه ، ثم قال : أبي ، فخفف . ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : السلام عليك أيْ رسول الله . فقال : «وعليك السلام » [ قال ]{[46]} «ما منعك أيْ أبيّ إذ{[47]} دعوتك أن تجيبني ؟ » . قال : أيْ رسول الله ، كنت في الصلاة ، قال : «أولست تجد فيما أوحى الله إلي{[48]} { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] » . قال : بلى يا رسول الله ، لا أعود ، قال : «أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان{[49]} مثلها ؟ » قلت : نعم ، أي رسول الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني لأرجو ألا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها » قال : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني ، وأنا أتبطأ{[50]} ، مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث ، فلما دنونا من الباب قلت : أيْ رسول الله ، ما السورة التي وعدتني{[51]} قال : «ما تقرأ في الصلاة ؟ » . قال : فقرأت عليه أم القرآن ، قال : «والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلها ؛ إنها السبع المثاني » .
ورواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن الدَّرَاوَرْدِي ، عن العلاء ، عن{[52]} أبيه ، عن أبي هريرة ، فذكره{[53]} ، وعنده : إنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ، ثم قال : هذا حديث حسن صحيح .
وفي الباب ، عن أنس بن مالك ، ورواه عبد الله بن [ الإمام ]{[54]} أحمد ، عن إسماعيل بن أبي مَعْمَر ، عن أبي أسامة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبي بن كعب ، فذكره مطولا بنحوه ، أو قريبا منه{[55]} . وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا{[56]} ، عن أبي عمار حسين بن حريث ، عن الفضل بن موسى ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي مقسومة بيني وبين عبدي » ، هذا لفظ النسائي . وقال الترمذي : حسن غريب .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا هاشم ، يعني ابن البريد{[57]} حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن ابن جابر ، قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله . فلم يرد عليّ ، قال : فقلت : السلام عليك يا رسول الله . فلم يرد عليّ ، قال : فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فلم يرد عليّ . قال : فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ، وأنا خلفه حتى دخل رحله ، ودخلت أنا المسجد ، فجلست كئيبًا حزينًا ، فخرج عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر ، فقال : «عليك{[58]} السلام ورحمة الله ، وعليك السلام ورحمة الله ، وعليك السلام ورحمة الله » ثم قال : «ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأَخْير سورة في القرآن ؟ » قلت : بلى يا رسول الله . قال : «اقرأ : الحمد لله رب العالمين ، حتى تختمها »{[59]} . هذا إسناد جيد ، وابن عقيل تحتج{[60]} به الأئمة الكبار ، وعبد الله بن جابر هذا هو الصحابي ، ذكر ابن الجوزي أنه هو العبديّ ، والله أعلم . ويقال : إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي ، فيما ذكره الحافظ ابن عساكر{[61]} . واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض ، كما هو المحكي عن كثير من العلماء ، منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي ، وابن الحصار من المالكية . وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك ؛ لأن الجميع كلام الله ، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه ، وإن كان الجميع فاضلا نقله القُرطُبي عن الأشعريّ ، وأبي بكر الباقلاني ، وأبي حاتم بن حبان البستي ، ويحيى بن يحيى ، ورواية عن الإمام مالك [ أيضا ]{[62]} .
حديث آخر : قال البخاري في فضائل القرآن : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا وهب ، حدثنا هشام ، عن محمد بن معبد ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا في مسير لنا ، فنزلنا ، فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سليم ، وإن نَفَرَنَا غُيَّب ، فهل منكم{[63]} راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نَأبِنُه برقية ، فرقاه ، فبرأ ، فأمر له بثلاثين شاة ، وسقانا لبنا ، فلما رجع{[64]} قلنا له : أكنت تحسن رقية ، أو كنت ترقي ؟ قال : لا ما رقيت إلا بأم الكتاب ، قلنا : لا تحدثوا شيئا حتى نأتي ، أو نسأل رسول الله{[65]} صلى الله عليه وسلم ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : «وما كان يُدْريه أنها رقية ، اقسموا واضربوا لي بسهم » .
وقال أبو معمر : حدثنا عبد الوارث ، حدثنا هشام ، حدثنا محمد بن سيرين ، حدثني معبد بن سيرين ، عن أبي سعيد الخدري بهذا .
وهكذا رواه مسلم ، وأبو داود من رواية هشام ، وهو ابن حسان ، عن ابن سيرين ، به{[66]} . وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث : أن أبا سعيد هو الذي رقى ذلك السليم ، يعني : اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلا .
حديث آخر : روى مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه ، من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم ، عن عمار بن رُزَيق{[67]} ، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل ، إذ سمع نقيضًا فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا باب قد فتح من السماء ، ما فتح قط . قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، ولن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته . وهذا لفظ النسائي{[68]} .
ولمسلم نحوه حديث آخر : قال مسلم : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، هو ابن راهويه ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن العلاء ، يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي{[69]} عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم{[70]} القرآن فهي خِداج - ثلاثًا - غير تمام » . فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام ، قال : اقرأ بها في نفسك ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «قال الله عز وجل : قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ الفاتحة : 3 ] ، قال الله : أثنى علي عبدي ، فإذا قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] ، قال{[71]} مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلي عبدي - فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6 ، 7 ] ، قال{[72]} هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » .
وهكذا رواه النسائي ، عن إسحاق بن راهويه{[73]} . وقد روياه - أيضًا - عن قتيبة ، عن مالك ، عن العلاء ، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة ، عن أبي هريرة ، به{[74]} وفي هذا السياق : «فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل » .
وكذا رواه ابن إسحاق ، عن العلاء ، وقد رواه مسلم من حديث ابن جُرَيْج ، عن العلاء ، عن أبي السائب هكذا{[75]} .
ورواه - أيضًا - من حديث ابن أبي أويس ، عن العلاء ، عن أبيه وأبي السائب ، كلاهما عن أبي هريرة{[76]} .
وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وسألت أبا زُرْعَة عنه فقال : كلا الحديثين صحيح ، من قال : عن العلاء ، عن أبيه ، وعن العلاء عن أبي السائب{[77]} .
وقد روى هذا الحديث عبد الله ابن الإمام أحمد ، من حديث العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبيّ بن كعب مطولا{[78]} .
قال{[79]} ابن جرير : حدثنا صالح بن مسمار المروزي ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عَنْبسة بن سعيد ، عن مُطَرّف بن طريف ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، وله ما سأل ، فإذا قال العبد : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال : أثنى علي عبدي . ثم قال : هذا لي وله ما بقي »{[80]}
ثم الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة{[81]} من وجوه :
أحدها : أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة ، والمراد القراءة كقوله تعالى : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } [ الإسراء : 110 ] ، أي : بقراءتك كما جاء مصرحًا به في الصحيح ، عن ابن عباس{[82]} وهكذا قال في هذا الحديث : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل » ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظم{[83]} القراءة في الصلاة ، وأنها من أكبر أركانها ، إذ أطلقت العبادة وأريد بها{[84]} جزء واحد منها وهو القراءة ؛ كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [ الإسراء : 78 ] ، والمراد صلاة الفجر ، كما جاء مصرحا به في الصحيحين : من أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ، فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في الصلاة ، وهو اتفاق من العلماء .
ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني ، وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب ، أم تجزئ هي أو غيرها ؟ على قولين مشهورين ، فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنها لا تتعين ، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة ، واحتجوا بعموم قوله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] ، وبما ثبت في الصحيحين ، من حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته{[85]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن »{[86]} قالوا : فأمره بقراءة ما تيسر ، ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها ، فدل على ما قلناه .
والقول الثاني : أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، ولا تجزئ الصلاة بدونها ، وهو قول بقية الأئمة : مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء ؛ واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور ، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه : «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاج » والخداج هو : الناقص كما فسَّر به في الحديث : غير تمام . واحتجوا - أيضًا - بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهريّ ، عن محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصّامت ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب »{[87]} . وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن »{[88]} والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره ، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك ، رحمهم الله .
ثم إن مذهب الشافعيّ وجماعة من أهل العلم : أنه تجب قراءتها في كل ركعة . وقال آخرون : إنما تجب قراءتها في معظم الركعات ، وقال الحسن وأكثر البصريين : إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات ، أخذا بمطلق الحديث : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » .
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي : لا تتعين{[89]} قراءتها ، بل لو قرأ بغيرها أجزأه لقوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] ، [ كما تقدم ]{[90]} والله أعلم .
وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد مرفوعًا : «لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها »{[91]} . وفي صحة هذا نظر ، وموضح{[92]} تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير ، والله أعلم .
الوجه الثالث : هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء :
أحدها : أنه تجب عليه قراءتها ، كما تجب على إمامه ؛ لعموم الأحاديث المتقدمة .
والثاني : لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها ، لا في الصلاة الجهرية ولا السرية ، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة » ولكن في إسناده ضعف{[93]} . ورواه مالك ، عن وهب بن كَيْسَان ، عن جابر من كلامه{[94]} . وقد روي هذا الحديث من طرق ، ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .
والقول الثالث : أنه تجب القراءة على المأموم في السرية ، لما{[95]} تقدم ، ولا تجب{[96]} في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما جعل الإمام ليؤتم به ؛ فإذا كبَّر فكبّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا » وذكر بقية الحديث{[97]} .
وهكذا رواه أهل السنن ؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «وإذا قرأ فأنصتوا »{[98]} . وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضا ، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي ، رحمه الله ، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل{[99]} .
والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد{[100]} الجوهريّ ، حدثنا غسان بن عبيد ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا وضعت جنبك على الفراش ، وقرأت فاتحة الكتاب و{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فقد أمنت من كل شيء إلا الموت »{[101]}
الكلام على تفسير الاستعاذة{[102]}
قال الله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 199 ، 200 ] ، وقال تعالى : { ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 96 - 98 ] وقال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فصلت : 34 - 36 ] .
فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها ، وهو أن الله يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ، ليرده عنه طبعُهُ الطَّيب الأصل{[103]} إلى الموادة{[104]} والمصافاة ، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة ؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم ، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل ؛ كما قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } [ الأعراف : 27 ] وقال : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] وقال { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [ الكهف : 50 ] ، وقد أقسم للوالد إنه لمن الناصحين ، وكذب ، فكيف معاملته لنا وقد قال : { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 ، 83 ] ، وقال{[105]} تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 98 ، 99 ]
قالت طائفة من القراء وغيرهم : نتعوذ بعد القراءة ، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية ، ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة ؛ وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما ذكره{[106]} ابن قلوقا عنه ، وأبو حاتم السجستاني ، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جُبارة الهذلي المغربي في كتاب " الكامل " .
وروي عن أبي هريرة - أيضا - وهو غريب .
[ ونقله فخر الدين محمد بن عمر الرازي{[107]} في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال : وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري ، وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي عن المجموعة عن مالك ، رحمه الله تعالى ، أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة ، واستغربه ابن العربي . وحُكي قول ثالث وهو الاستعاذة أولا وآخرا جمعا بين الدليلين نقله فخر الدين{[108]} ]{[109]} .
والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة لدفع الوسواس فيها ، إنما تكون قبل التلاوة ، ومعنى الآية عندهم : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [ النحل : 98 ] أي : إذا أردت القراءة كقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } الآية [ المائدة : 6 ] أي : إذا أردتم القيام . والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :
حدثنا محمد بن الحسن بن آتش{[110]} حدثنا جعفر بن سليمان ، عن علي بن علي الرفاعي اليشكري ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبَّر قال : «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك » . ويقول : «لا إله إلا{[111]} الله » ثلاثًا ، ثم يقول : «أعوذ بالله السميع العليم ، من الشيطان الرجيم ، من هَمْزه ونَفْخِه ونَفْثه » .
وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان ، عن علي بن علي ، وهو الرّفاعي{[112]} ، وقال الترمذي : هو أشهر حديث في هذا الباب . وقد فسَّر الهمز بالموتة وهي الخنق ، والنَّفخ بالكبر ، والنفث بالشعر . كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، عن عاصم العَنزيّ ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة ، قال : «الله أكبر كبيرًا ، ثلاثًا ، الحمد لله كثيرا ، ثلاثًا ، سبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا ، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من هَمْزه ونَفْخه ونفْثه » .
قال عمرو : وهمزه الموتة ، ونفخه الكبر ، ونفثه الشعر{[113]} .
وقال ابن ماجه : حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا ابن فُضيل ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ، وهَمْزه ونفخه ونفثه " .
قال : همزه : الموتة ، ونَفْثُه : الشعر ، ونفخه : الكِبْر{[114]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف ، حدثنا شريك ، عن يعلى بن عطاء ، عن رجل حدثه : أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبَّر ثلاثًا ، ثم قال : «لا إله إلا الله » ثلاث مرات ، «وسبحان الله وبحمده » ، ثلاث مرات . ثم قال : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه{[115]} . وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي ، حدثنا علي بن هشام بن البريد عن يزيد بن زياد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب ، قال : تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فَتَمزّع أنف أحدهما غضبا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني لأعلم شيئا لو قاله ذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » .
وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ، عن يوسف بن عيسى المروزي ، عن الفضل بن موسى ، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد{[116]} ، به{[117]} .
وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل ، عن أبي سعيد ، عن زائدة ، وأبو داود عن يوسف بن موسى ، عن جرير بن عبد الحميد ، والترمذي ، والنسائي في اليوم والليلة عن بُنْدَار ، عن ابن مهدي ، عن الثوري ، والنسائي - أيضًا - من حديث زائدة بن قدامة ، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل ، قال : استَب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما غضبًا شديدًا حتى خُيّل إليّ أن أحدهما يَتَمزّع أنفه من شدة غضبه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب » قال : ما هي يا رسول الله ؟ قال : «يقول : اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم » . قال : فجعل معاذ يأمره ، فأبى [ ومحك ]{[118]} ، وجعل يزداد غضبًا . وهذا لفظ أبي داود{[119]} . وقال الترمذي : مرسل ، يعني أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل ، فإنه مات قبل سنة عشرين .
قلت : وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبيّ بن كعب ، كما تقدم وبلغه عن معاذ بن جبل ، فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم . قال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، قال : قال سليمان بن صُرَد : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن عنده جلوس ، فأحدهما يسب صاحبه مغضَبًا قد احمر وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » فقالوا للرجل : ألا تسمع ما يقول رسول الله{[120]} صلى الله عليه وسلم قال : إني لست بمجنون{[121]} .
وقد رواه - أيضًا - مع مسلم ، وأبي داود ، والنسائي ، من طرق متعددة ، عن الأعمش ، به{[122]} .
وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا ، وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال ، والله أعلم . وقد رُوِيَ أن جبريل عليه السلام ، أوّل ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ، حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال : يا محمد ، استعذ . قال : " أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم " ثم قال : قل : بسم الله الرحمن الرحيم . ثم قال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } قال عبد الله : وهي أول سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، بلسان جبريل{[123]} . وهذا الأثر غريب ، وإنما ذكرناه ليعرف ، فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا ، والله أعلم .
مسألة : وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها ، وحكى فخر الدين عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة قال : وقال ابن سيرين : إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب ، واحتج فخر الدين لعطاء بظاهر الآية : { فَاسْتَعِذْ } وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، ولأنها تدرأ شر الشيطان وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب . وقال بعضهم : كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته ، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ لقيام شهر رمضان في أول ليلة منه .
مسألة : وقال الشافعي في الإملاء ، يجهر بالتعوذ ، وإن أسر فلا يضر ، وقال في الأم بالتخيير لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة ، واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى : هل يستحب التعوذ فيها ؟ على قولين ، ورجح عدم الاستحباب ، والله أعلم . فإذا قال المستعيذ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وزاد{[124]} بعضهم : أعوذ بالله السميع العليم ، وقال آخرون : بل يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم ، قاله الثوري والأوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول : أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور ، والأحاديث الصحيحة ، كما تقدم ، أولى بالاتباع من هذا ، والله أعلم .
مسألة : ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد . وقال أبو يوسف : بل للصلاة ، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ ، ويتعوذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد ، والجمهور بعدها قبل القراءة .
ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث ، وتطييب له وتهيؤ لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه ، ولا يقبل مصانعة ، ولا يدارى بالإحسان ، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات القرآن في ثلاث من المثاني ، وقال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } [ الإسراء : 65 ] ، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر ، ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا ، ومن قتله العدو الباطني كان طرِيدًا ، ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا ، ومن قهره العدو الباطن كان مفتونا أو موزورًا ، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان .
فصل : والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر ، والعياذة تكون لدفع الشر ، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي :
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره *** ولا يهيضون عظما أنت جابره{[125]}
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أي : أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي ، أو يصدني عن فعل ما أمرت به ، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه ؛ فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله ؛ ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته{[126]} بإسداء الجميل إليه ، ليرده طبعه عمَّا هو فيه من الأذى ، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل ؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه ، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة ، قوله في الأعراف : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين } [ الأعراف : 199 ] ، فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ، ثم قال : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 200 ] ، وقال تعالى في سورة { قد أفلح المؤمنون } : { ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 96 - 98 ] ، وقال تعالى في سورة " حم السجدة " : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فصلت : 34 - 36 ] .
والشيطان في لغة العرب مشتق من شَطَن إذا بعد ، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر ، وبعيد بفسقه عن كل خير ، وقيل : مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار ، ومنهم من يقول : كلاهما صحيح في المعنى ، ولكن الأول أصح ، وعليه يدل كلام العرب ؛ قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان ، عليه{[127]} السلام :
أيما شاطِنٍ عصاه عكاه *** ثمّ يُلْقى في السِّجْن والأغلال{[128]}
فقال : أيما شاطن ، ولم يقل : أيما شائط .
وقال النابغة الذبياني - وهو : زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذُبْيان - :
نأت بسعاد عنك نَوًى شَطُونُ *** فبانت والفؤادُ بها رَهِينُ{[129]}
[ وقال سيبويه : العرب تقول : تشيطن فلان إذا فَعَل فِعْل الشيطان ولو كان من شاط لقالوا : تشيط ]{[130]} . والشيطان{[131]} مشتق من البعد على{[132]} الصحيح ؛ ولهذا يسمون كل ما{[133]} تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانًا ، قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [ الأنعام : 112 ] . وفي مسند الإمام أحمد ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا ذر ، تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن » ، فقلت : أو للإنس شياطين ؟ قال : «نعم »{[134]} . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر - أيضًا - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود " . فقلت : يا رسول الله ، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر{[135]} فقال : «الكلب الأسود شيطان »{[136]} . وقال ابن وهب : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، ركب برْذونًا ، فجعل يتبخْتر به ، فجعل لا يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا ، فنزل عنه ، وقال : ما حملتموني{[137]} إلا على شيطان ، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي . إسناده{[138]} صحيح{[139]} .
والرّجيم : فعيل بمعنى مفعول ، أي : إنه مرجوم مطرود عن الخير كله ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 6 - 10 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } [ الحجر : 16 - 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ وقيل : رجيم بمعنى راجم ؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر ]{[140]} .
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
افتتح بها الصحابةُ كتاب الله ، واتّفق العلماء على أنها بعض آية من سورَة النمل ، ثمّ اختلفوا : هل هي آية مستقلة في أوّل كل سورة ، أو من أول كل سورة كتبت في أوّلها ، أو أنها بعض آية من أوّل كل سورة ، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها ، أو أنها [ إنما ]{[799]} كتبت للفصل ، لا أنها{[800]} آية ؟ على أقوال للعلماء سلفًا وخلفًا ، وذلك مبسوط في غير هذا الموضع .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضًا{[801]} ، وروي مرسلا عن سعيد بن جُبَير . وفي صحيح ابن خزيمة ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدّها آية ، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي ، وفيه ضعف ، عن ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عنها{[802]} . وروى له الدارقطني متابعًا ، عن أبي هريرة مرفوعًا{[803]} . وروى مثله عن علي وابن عباس وغيرهما{[804]} . وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة : ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وأبو هريرة ، وعليّ . ومن التابعين : عطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والزهري ، وبه يقول عبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، في رواية عنه ، وإسحاق بن رَاهوَيه ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمهم الله .
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما : ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقال الشافعي في قول ، في بعض طرق مذهبه : هي آية من الفاتحة وليست من غيرها ، وعنه أنها بعض آية من أول كل سورة ، وهما غريبان .
وقال داود : هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها ، وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل . وحكاه أبو بكر الرازي ، عن أبي الحسن الكرخي ، وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة ، رحمهم الله{[805]} . هذا ما يتعلق بكونها من الفاتحة أم لا . فأمَّا ما يتعلق بالجهر بها ، فمفرّع على هذا ؛ فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها ، وكذا من قال : إنها آية من{[806]} أوّلها ، وأمَّا من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا ؛ فذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة ، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفًا وخلفًا{[807]} ، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، ومعاوية ، وحكاه ابن عبد البر ، والبيهقي عن عمر وعليّ ، ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة ، وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وهو غريب . ومن التابعين عن سعيد بن جبير ، وعِكْرِمة ، وأبي قِلابة ، والزهري ، وعليّ بن الحسين ، وابنه محمد ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وسالم ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وأبي وائل ، وابن سيرين ، ومحمد بن المنْكَدِر ، وعلي بن عبد الله بن عباس ، وابنه محمد ، ونافع مولى ابن عمر ، وزيد بن أسلم ، وعمر بن عبد العزيز ، والأزرق بن قيس ، وحبيب بن أبي ثابت ، وأبي الشعثاء ، ومكحول ، وعبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن . زاد البيهقيّ : وعبد الله بن صفوان ، ومحمد بن الحنفية . زاد ابن عبد البر : وعمرو بن دينار .
والحُجَّة في ذلك أنها بعض الفاتحة ، فيجهر بها كسائر أبعاضها ، وأيضًا فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، والحاكم في مستدركه ، عن أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة ، وقال بعد أن فرغ : إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم . وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم{[808]} .
وروى أبو داود والترمذي ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم . ثم قال الترمذي : وليس إسناده بذاك{[809]} .
وقد رواه الحاكم في مستدركه ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قال : صحيح{[810]} وفي صحيح البخاري ، عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت قراءته مدا ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم{[811]} .
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، وصحيح ابن خزيمة ، ومستدرك الحاكم ، عن أم سلمة ، قالت{[812]} : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته : بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . وقال الدارقطني : إسناده صحيح{[813]} .
وروى الشافعي ، رحمه الله ، والحاكم في مستدركه ، عن أنس : أن معاوية صلى بالمدينة ، فترك البسملة ، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك ، فلما صلى المرّة الثانية بسمل{[814]} .
وفي هذه الأحاديث ، والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها ، فأما المعارضات والروايات الغريبة ، وتطريقها ، وتعليلها وتضعيفها ، وتقريرها ، فله موضع آخر .
وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة ، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل ، وطوائف من سلف التابعين والخلف ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والثوري ، وأحمد بن حنبل .
وعند الإمام مالك : أنه لا يقرأ البسملة بالكلية ، لا جهرًا ولا سرًّا ، واحتجوا بما في صحيح مسلم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله رب العالمين{[815]} . وبما في الصحيحين ، عن أنس بن مالك ، قال : صلَّيْتُ خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين . ولمسلم : لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ولا في آخرها{[816]} . ونحوه في السنن عن عبد الله بن مُغَفَّل ، رضي الله عنه{[817]} .
فهذه مآخذ الأئمة ، رحمهم الله ، في هذه المسألة وهي قريبة ؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر ، ولله الحمد والمنة{[818]} .
قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، رحمه الله ، في تفسيره :
حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني ، حدثنا سلام بن وهب الجَنَديّ ، حدثنا أبي ، عن طاوس ، عن ابن عباس ؛ أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم . فقال : " هو اسم من أسماء الله ، وما بينه وبين اسم الله الأكبر ، إلا كما بين سواد العينين وبياضهما{[819]} من القرب " .
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُويه ، عن سليمان بن أحمد ، عن عليّ بن المبارك ، عن زيد بن المبارك ، به{[820]} .
وقد روى الحافظ ابن مَرْدُويه من طريقين ، عن إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن مِسْعَر ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتَّاب ليعلمه ، فقال المعلم : اكتب ، قال{[821]} ما أكتب ؟ قال : بسم الله ، قال له عيسى : وما باسم الله ؟ قال المعلم : ما أدري{[822]} . قال له عيسى : الباء بَهاءُ الله ، والسين سناؤه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة " .
وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب : زِبْرِيق ، عن إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، ومسعر ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[823]} . وهذا غريب جدًا ، وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات ، والله أعلم .
وقد روى جُوَيبر{[824]} ، عن الضحَّاك ، نحوه من قبله .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من حديث يزيد بن خالد ، عن سليمان بن بريدة ، وفي رواية عن عبد الكريم أبي{[825]} أمية ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله{[826]} صلى الله عليه وسلم قال : «أنزلت عليّ آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري ، وهي بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »{[827]} .
وروي بإسناده عن عبد الكبير{[828]} بن المعافى بن عمران ، عن أبيه ، عن عمر بن ذَرّ ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لما نزل { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } هرب الغيم إلى المشرق ، وسكنت الرياح ، وهاج البحر ، وأصغت البهائم بآذانها ، ورُجِمت الشياطين من السماء ، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله{[829]} ألا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه{[830]} .
[ وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، ليجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد ، ذكره ابن عطية والقرطبي{[831]} ووجهه ابن عطية ونصره بحديث : " فقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها " {[832]} لقول الرجل : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفا وغير ذلك ]{[833]} .
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عاصم ، قال : سمعت أبا تميمة يحدث ، عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال : عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : تَعِس الشيطان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تقل تعس الشيطان . فإنك إذا قلت : تعس الشيطان تعاظم ، وقال : بقوتي صرعته ، وإذا قلت : باسم الله ، تصاغر حتى يصير مثل الذباب » .
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد{[834]} وقد روى{[835]} النسائي في اليوم والليلة ، وابن مَرْدُويه في تفسيره ، من حديث خالد الحذاء ، عن أبي تميمة هو الهجيمي ، عن أبي المليح بن أسامة بن عمير ، عن أبيه ، قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال : «لا تقل هكذا ، فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت ، ولكن قل : بسم الله ، فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة »{[836]} . فهذا من تأثير بركة بسم الله ؛ ولهذا تستحب في أوّل كل عمل وقول . فتستحب في أوّل الخطبة لما جاء : " كل أمر{[837]} لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ، فهو أجذم " {[838]} ، [ وتستحب البسملة عند دخول الخلاء ولما ورد من الحديث في ذلك{[839]} ]{[840]} ، وتستحب في أوّل الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن ، من رواية أبي هريرة ، وسعيد بن زيد ، وأبي سعيد مرفوعًا : " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " {[841]} ، وهو حديث حسن . ومن العلماء من أوجبها عند الذكر هاهنا ، ومنهم من قال بوجوبها مطلقًا ، وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة ، وأوجبها آخرون عند الذكر ، ومطلقا في قول بعضهم ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله ، وقد ذكر الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أتيت أهلك فسم الله ؛ فإنه إن ولد لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات " وهذا لا أصل له ، ولا رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ولا غيرها .
وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة : «قل : باسم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك »{[842]} . ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه ، وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال : باسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا »{[843]} .
ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك : باسم الله ، هل هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن ؛ أما من قدره باسم ، تقديره : باسم الله ابتدائي ، فلقوله تعالى : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ هود : 41 ] ، ومن قدره بالفعل [ أمرًا وخبرًا نحو : أبدَأ ببسم الله أو ابتدأت ببسم الله ]{[844]} ، فلقوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وكلاهما صحيح ، فإن الفعل لا بُدّ له من مصدر ، فلك أن تقدر الفعل ومصدره ، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله ، إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكلا أو شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلاة ، فالمشروع ذكر [ اسم ]{[845]} الله في الشروع في ذلك كله ، تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل ، والله أعلم ؛ ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث بشر بن عُمَارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : إن أوّل ما نزل به جبريل على محمد{[846]} صلى الله عليه وسلم قال : " يا محمد قل : أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال : قال له جبريل : قل : باسم الله يا محمد ، يقول : اقرأ بذكر الله ربك ، وقم ، واقعد بذكر الله . [ هذا ]{[847]} لفظ ابن جرير{[848]} .
وأما مسألة الاسم : هل هو المسمى أو غيره ؟ ففيها للناس ثلاثة أقوال :
[ أحدها : أن الاسم هو المسمى ، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه ، واختاره الباقلاني وابن فورك ، وقال فخر الدين الرازي - وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري - في مقدمات تفسيره :
قالت الحشوية والكرامية والأشعرية : الاسم نفس المسمى وغير التسمية ، وقالت المعتزلة : الاسم غير المسمى ونفس التسمية ، والمختار عندنا : أن الاسم غير المسمى وغير التسمية ، ثم نقول : إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة ، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى ، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى ، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث ، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث .
ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى ، بأنه قد يكون الاسم موجودًا والمسمى مفقودًا كلفظة المعدوم ، وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون الاسم واحدًا والمسميات متعددة كالمشترك ، وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى ، وأيضا فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها ، وأيضًا فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك ، ولا يقوله عاقل ، وأيضا فقد قال الله تعالى : { وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسمًا »{[849]} ، فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى ، وأيضا فقوله : { وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } أضافها إليه ، كما قال : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 74 ، 96 ] ونحو ذلك . والإضافة تقتضي المغايرة وقوله : { فَادْعُوهُ بِهَا } أي : فادعوا الله بأسمائه ، وذلك دليل على أنها غيره ، واحتج من قال : الاسم هو المسمى ، بقوله تعالى : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } [ الرحمن : 78 ] والمتبارك هو الله . والجواب : أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة ، وأيضا فإذا قال الرجل : زينب طالق ، يعني امرأته طالق ، طلقت ، ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق ، والجواب : أن المراد أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق . قال الرازي : وأما التسمية فإنها جعل الاسم معينا لهذه الذات فهي غير الاسم أيضا ، والله أعلم ]{[850]} .
{ الله } عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى ، يقال : إنه الاسم الأعظم ؛ لأنه يوصف بجميع الصفات ، كما قال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر : 22 - 24 ] ، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له ، كما قال تعالى : { وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وقال تعالى : { قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110 ] وفي الصحيحين ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة »{[851]} ، وجاء تعدادها في رواية الترمذي ، [ وابن ماجه{[852]} وبين{[853]} الروايتين اختلاف زيادات ونقصان ، وقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم : ألف في الكتاب والسنة الصحيحة ، وألف في التوراة ، وألف في الإنجيل ، وألف في الزبور ، وألف في اللوح المحفوظ ]{[854]} .
وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى ؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل ويفعل ، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له . وقد نقل القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم ، وروي عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة . قال الخطابي : ألا ترى أنك تقول : يا الله ، ولا تقول : يا الرحمن ، فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام{[855]} . وقيل : إنه مشتق ، واستدلوا عليه بقول رؤْبَة بن العَجّاج :
لله در الغانيات المُدّه *** سبحن واسترجعن من تألهي{[856]}
فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر ، وهو التأله ، من أله يأله إلاهة وتألهًا ، كما روي أن ابن عباس قرأ : " ويذرك وَإلاهَتَك " قال : عبادتك ، أي : أنه كان يُعْبَد ولا يَعْبُد ، وكذا قال مجاهد وغيره .
وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ } [ الأنعام : 3 ] أي : المعبود في السماوات والأرض ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] ، ونقل سيبويه عن الخليل : أن أصله : إلاه ، مثل فعال ، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة ، قال سيبويه : مثل الناس ، أصله : أناس ، وقيل : أصل الكلمة : لاه ، فدخلت الألف واللام للتعظيم وهذا اختيار سيبويه . قال الشاعر :
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب *** عني ولا أنت دياني فتخزوني{[857]}
قال القرطبي : بالخاء المعجمة ، أي : فتسوسني ، وقال الكسائي والفراء : أصله : الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية ، كما قال : { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي } [ الكهف : 38 ] أي : لكن أنا ، وقد قرأها كذلك الحسن ، قال القرطبي : ثم قيل : هو مشتق من وله : إذا تحير ، والوله ذهاب العقل ؛ يقال : رجل واله ، وامرأة ولهى ، وماء موله : إذا أرسل في الصحاري ، فالله تعالى تتحير أولو الألباب والفكر في حقائق صفاته ، فعلى هذا يكون أصله : ولاه ، فأبدلت الواو همزة ، كما قالوا في وشاح : أشاح ، ووسادة : أسادة ، وقال فخر الدين الرازي : وقيل : إنه مشتق من ألهت إلى فلان ، أي : سكنت إليه ، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره ، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته ؛ لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره قال الله تعالى : { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] قال : وقيل : من لاه يلوه : إذا احتجب . وقيل : اشتقاقه من أله الفصيل ، إذ ولع بأمه ، والمعنى : أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال ، قال : وقيل : مشتق من أله الرجل يأله : إذا فزع من أمر نزل به فألهه ، أي : أجاره ، فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه ؛ لقوله تعالى : " { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88 ] ، وهو المنعم لقوله : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] وهو المطعم لقوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] وهو الموجد لقوله : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [ النساء : 78 ] .
وقد اختار فخر الدين أنه اسم علم غير مشتق البتة ، قال : وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء ، ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه :
منها : أنه لو كان مشتقًا لاشترك في معناه كثيرون ، ومنها : أن بقية الأسماء تذكر صفات له ، فتقول : الله الرحمن الرحيم الملك القدوس ، فدل أنه ليس بمشتق ، قال : فأما قوله تعالى : { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ } [ إبراهيم : 1 ، 2 ] على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان ، ومنها قوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] ، وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامدًا غير مشتق نظر ، والله أعلم .
وحكى فخر الدين عن بعضهم أنه ذهب إلى أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي ، ثم ضعفه ، وهو حقيق بالتضعيف كما قال ، وقد حكى فخر الدين هذا القول ثم قال : واعلم أن الخلق قسمان : واصلون إلى ساحل بحر المعرفة ، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة ؛ فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم ، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال ، فتاهوا في ميادين الصمدية ، وبادوا في عرصة الفردانية ، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته ، وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال : لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام وجرها لغتان ، وقيل : إنه مشتق من الارتفاع ، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع : لاها ، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس : لاهت .
وأصل ذلك الإله ، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة ، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أوّلها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى ، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة ، وفخمت تعظيما ، فقيل : الله .
{ الرحمن الرحيم } اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، ورحمن أشد مبالغة من رحيم ، وفي كلام ابن جرير ما يُفْهِم حكاية الاتفاق على هذا ، وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك ، كما تقدم في الأثر ، عن عيسى عليه السلام ، أنه قال : والرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة .
وقد زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم وقد قال : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] ، وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد : أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي ، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن : وقال أحمد بن يحيى : الرحيم عربي ، والرحمن عبراني ، فلهذا جمع بينهما . قال أبو إسحاق : وهذا القول مرغوب عنه{[858]} . وقال القرطبي : والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «قال الله تعالى : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي ، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته »{[859]} . قال : وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق .
قال : وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له ، قال القرطبي : هما بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيد ، وقيل : ليس بناء فعلان كفعيل ، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك : رجل غضبان ، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول ، قال أبو علي الفارسي : الرحمن : اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين ، قال الله تعالى : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] ، وقال ابن عباس : هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر ، أي أكثر رحمة ، ثم حكي عن الخطابي وغيره : أنهم استشكلوا هذه الصفة ، وقالوا : لعله أرفق كما جاء في الحديث : «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وإنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف »{[860]} . وقال ابن المبارك : الرحمن إذا سئل أعطى ، والرحيم إذا لم يسأل يغضب ، وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من لم يسأل الله يغضب عليه »{[861]} ، وقال بعض الشعراء :
لا تطلبن بني آدم حاجة *** وسل الذي أبوابه لا تغلق{[862]}
الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يسأل يغضب
قال{[863]} ابن جرير : حدثنا السري بن يحيى التميمي ، حدثنا عثمان بن زُفَر ، سمعت العَرْزَميّ يقول : الرحمن الرحيم ، قال : الرحمن لجميع الخلق ، الرحيم ، قال : بالمؤمنين . قالوا : ولهذا قال : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 ] وقال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته ، وقال : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] فخصهم باسمه الرحيم ، قالوا : فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه ، والرحيم خاصة بالمؤمنين ، لكن جاء في الدعاء المأثور : رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما .
واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يُسم به غيره كما قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به ؛ فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب ، فصار يُضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر ، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب .
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن ؛ لأنه أكد به ، والتأكيد{[864]} لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد ، والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد{[865]} ، وإنما هو من باب النعت [ بعد النعت ]{[866]} ولا يلزم فيه ما ذكروه ، وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره ، ووصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره ، كما قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110 ] . وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة . وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ الإنسان : 2 ] .
والحاصل : أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ، ومنها ما لا يسمى به غيره ، كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك ؛ فلهذا بدأ باسم الله ، ووصفه بالرحمن ؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم ؛ لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف{[867]} الأسماء ، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص .
فإن قيل : فإذا كان الرحمن أشد مبالغة ؛ فهلا اكتفى به عن الرحيم ؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه : أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن ، جيء بلفظ الرحيم ليقطع التوهم بذلك ، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى . كذا رواه ابن جرير عن عطاء . ووجهه بذلك ، والله أعلم .
وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن ، حتى رد الله عليهم ذلك بقوله : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110 ] ؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَلي : " اكتب { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } " ، فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم . رواه البخاري{[868]} ، وفي بعض الروايات : لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة . وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } [ الفرقان : 60 ] .
والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جُحود وعناد وتعنت في كفرهم ؛ فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية{[869]} تسمية الله تعالى بالرحمن ، قال ابن جرير : وقد أنشد لبعض الجاهلية الجُهَّال{[870]} :
ألا ضَرَبَتْ تلك الفتاةُ هَجِينَها *** ألا قَضَبَ الرحمنُ رَبى يمينها{[871]}
عَجِلتم علينا عَجْلَتينَا عليكُمُ *** وما يَشَأ الرّحْمَن يَعْقِد ويُطْلِقِ{[872]}
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ، حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : الرحمن : الفعلان من الرحمة ، وهو من كلام العرب ، وقال : { الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 3 ] الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه ، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه ، وكذلك أسماؤه كلها .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا حماد بن مَسْعَدة ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : الرحمن اسم ممنوع{[873]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد [ بن ]{[874]} يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو الأشهب ، عن الحسن ، قال : الرحمن : اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه ، تسمى به تبارك وتعالى{[875]} .
وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قرآنه حرفًا حرفًا { بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }{[876]} ، فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة من الكوفيين ومنهم من وصلها بقوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور . وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ{[877]} قوله تعالى : { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } قال ابن عطية : ولم ترد بهذه قراءة عن أحد فيما علمت{[878]} .
قال ابن عباس ، وموسى بن جعفر عن أبيه ، وعلي بن الحسين ، وقتادة ، وأبو العالية ، ومحمد بن يحيى بن حبان( {[1]} ) : إنها مكية ، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] والحجر مكية بإجماع . ( {[2]} )
وفي حديث أُبَيّ بن كعب أنها السبع المثاني ، والسبع الطُّول( {[3]} ) نزلت بعد الحجر بمدد ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير " الحمد لله رب العالمين " .
وروي عن عطاء بن يسار ، وسوادة بن زياد ، والزهري محمد بن مسلم ، وعبد الله بن عبيد بن عمير( {[4]} ) أن سورة الحمد مدنية .
وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب ، لأن موضعها يعطي ذلك .
واختلف هل يقال لها أم الكتاب ، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال : «أم الكتاب الحلال والحرام » . قال الله تعالى : { آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }( {[5]} ) [ آل عمران : 7 ] .
وقال ابن عباس وغيره : «يقال لها أم الكتاب » .
وقال البخاري : سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة .
وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة( {[6]} ) رضي الله عنه .
واختلف هل يقال لها أم القرآن ؟ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء . قال يحيى بن يعمر : «أم القرى مكة ، وأم خراسان مرو ، وأم القرآن سورة الحمد » . وقال الحسن بن أبي الحسن : اسمها أم القرآن .
وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة . وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخراً لها .
وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها »( {[7]} ) ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن( {[8]} ) ، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني ، وإما أن يكون تفضيلاً من الله تعالى لا يعلل ، وكذلك يجيء عدل { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] وعدل { زلزلت } [ الزلزلة : 1 ] . وغيرها . ( {[9]} )
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ل " لحمد لله رب العالمين " فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام » . وورد حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة ، ومن قال " الحمد لله رب العالمين " كتبت له ثلاثون حسنة »( {[10]} )
وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجراً طالب ثواب ، لأن قوله : { الحمد لله } في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله ، ففي قوله توحيد وحمد ، وفي قول : { لا إله إلا الله } توحيد فقط . فأما إذا أُخِذَ بموضعهما من شرع الملة ومَحَلِّهِما مِنْ دَفْعِ( {[11]} ) الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل ، والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :«أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله »( {[12]} )
القول في بسم الله الرحمن الرحيم
روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه قال : البسملة تيجان السور . وروي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم تعس الشيطان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقل ذلك فإنه يتعاظم عنده ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يصغر حتى يصير أقل من ذباب » .
وقال علي بن الحسين رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } قال معناه إذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم .
وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «كيف تفتتح الصلاة يا جابر قلت بالحمد لله رب العالمين قال قل بسم الله الرحمن الرحيم » .
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتاني جبريل فعلمني الصلاة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يجهر بها » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذان الحديثان يقتضيان أنها آية من الحمد . ويرد ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم «هل لك ألا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها ؟ قال فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك فقال لي كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال فقرأت : الحمد لله رب العالمين . . حتى أتيت على آخرها .
ويرده الحديث الصحيح بقوله عز وجل { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين . . . } .
ويرده أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أبي بكر ولا عن عمر ولا عثمان رضي الله عنهم أنهم قرؤوا في صلاتهم بسم الله الرحمن الرحيم .
ويرده عدد آيات السورة لأن الإجماع أنها سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست آيات وهذا شاذ لا يعول عليه . وكذلك روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل { إياك نعبد } آية ، فهي على عده ثماني آيات ، وهذا أيضا شاذ .
وقول الله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } هو الفصل في ذلك .
والشافعي رحمه الله يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية من الحمد . وكثير من قراء مكة والكوفة لا يعدون { أنعمت عليهم } .
ومالك رحمه الله وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء والقراء لا يعدون البسملة آية . والذي يحتمله عندي حديث جابر وأبي هريرة إذا صحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قراءة جابر وحكايته أمر الصلاة قراءة في غير صلاة على جهة التعلم فأمره بالبسملة لهذا لا لأنها آية .
وكذلك في حديث أبي هريرة رآها قراءة تعليم ، ولم يفعل ذلك مع أبي لأنه قصد تخصيص السورة ووسمها من الفضل بما لها ، فلم يدخل معها ما ليس منها ، وليس هذا القصد في حديث جابر وأبي هريرة والله أعلم .
وقال ابن المبارك : إن البسملة آية في كل سورة وهذا قول شاذ رد الناس عليه . وروى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب : " باسمك اللهم " ، حتى أمر أن يكتب " بسم الله " فكتبها ، فلما نزلت { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } كتب بسم الله الرحمن . فلما نزلت { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } كتبها .
وروى عمرو بن شرحبيل أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال له قل بسم الله الرحمن الرحيم .
وروي عن ابن عباس أن أول ما نزل به جبريل بسم الله الرحمن الرحيم .
وفي بعض طرق حديث خديجة وحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ورقة أن جبريل قال للنبي عليهما السلام قل بسم الله الرحمن الرحيم فقالها فقال اقرأ قال ما أنا بقارىء . . . . الحديث .
والبسملة تسعة عشر حرفا . فقال بعض الناس : إن روايةً بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم { عليها تسعة عشر } ( المدثر 30 ) إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم لكل حرف ملك ، وهم يقولون في كل أفعالهم " بسم الله الرحمن الرحيم " فمن هنالك هي قوتهم . وباسم الله استضلعوا .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذه من ملح التفسير وليست من متين العلم ، وهي نظير قولهم في ليلة القدر : إنها ليلة سبع وعشرين مراعاة للفظة هي في كلمات سورة { إنا أنزلناه } . ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل " ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه " فإنها بضعة وثلاثون حرفا قالوا فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول .
والباء في بسم الله متعلقة عند نحاة البصرة باسمٍ تقديره : ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله . وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره : ابتدأت بسم الله ، فبسم الله في موضع رفع على مذهب البصريين ، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين ، كذا أطلق القول قوم .
والظاهر من مذهب سيبويه أن الباء متعلقة باسم كما تقدم . وبسم الله في موضع نصب تعلقا بثابت أو مستقر بمنزلة في الدار من قولك زيد في الدار ، وكسرت باء الجر ليناسب لفظها عملها أو لكونها لا تدخل إلا على الأسماء ، فخصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء ، أو ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول الأعشى :
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفُتُل
وحذفت الألف من بسم الله في الخط اختصارا وتخفيفا لكثرة الاستعمال .
واختلف النحاة إذا كتب " باسم الرحمن " و " باسم القاهر " فقال الكسائي وسعيد الأخفش يحذف الألف . وقال يحيى بن زياد لا تحذف إلا مع " بسم الله " فقط لأن الاستعمال إنما كثر فيه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فأما في غير اسم الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف .
واسم أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها ، وهو عند البصريين مشتق من السمو ، يقال سما يسمو ؛ فعلى هذا تضم السين في قولك سمو . ويقال سمي يسمى ؛ فعلى هذا تكسر . وحذفت الواو من سمو وكسرت السين من سم كما قال الشاعر : ( *** باسم الذي في كل سورة سمه ***
وسكنت السين من بسم اعتلالا على غير قياس . وإنما استدل على هذا الأصل الذي ذكرناه بقولهم في التصغير : سمي ، وفي الجمع : أسماء ، وفي جمع الجمع : أسامي . وقال الكوفيون : أصل اسم وسم من السمة وهي العلامة ؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له ، وحذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس ، والتصغير والجمع المذكوران يردان هذا المذهب الكوفي . وأما المعنى فيه فجيد لولا ما يلزمهم من أن يقال في التصغير : وسيم وفي الجمع أوسام ؛ لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها .
وقد ذكر بعض المفسرين في هذا الموضع الاسم والمسمى هل هما واحد ؟ فقال الطبري رحمه الله : إنه ليس بموضع للمسألة ، وأنحى في خطبته على المتكلمين في هذه المسألة ونحوها ؛ ولكن بحسب ما قد تدوول القول فيها فلنقل إن الاسم كزيد وأسد وفرس قد يرد في الكلام ويراد به الذات كقولك : زيد قائم والأسد شجاع . وقد يراد به التسمية ذاتها كقولك : أسد ثلاثة أحرف ؛ ففي الأول يقال : الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى ، وفي الثاني لا يراد به المسمى . ومن الورود الأول قولك : يا رحمن اغفر لي وقوله تعالى { الرحمن علم القرآن } ( الرحمن 1 ) . ومن الورود الثاني قولك : الرحمن وصف الله تعالى .
وأما اسم الذي هو ألف وسين وميم فقد يجري في لغة العرب مجرى الذات . يقال ذات ونفس واسم وعين بمعنى . وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى { سبح اسم ربك الأعلى } ( الأعلى 1 ) وقوله تعالى { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } . وقوله تعالى { ما تعبدون من دون إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } . وعضدوا ذلك بقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقد يجري اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها فمنه قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } على أشهر التأويلات فيه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة » وعلى هذا النحو استعمل النحويون الاسم في تصريف أقوالهم فالذي يتنخل من هذا أن الأسماء قد تجيء يراد بها ذوات المسميات ، وفي هذا يقال الاسم هو المسمى . وقد تجيء يراد بها ذواتها نفسها لا مسمياتها . ومر بي أن مالكا رحمه الله سئل عن الاسم أهو المسمى فقال ليس به ولا هو غيره ، يريد دائما في كل موضع ، وهذا موافق لما قلناه .
والمكتوبة التي لفظها " الله " أبهر أسماء الله تعالى وأكثرها استعمالا وهو المتقدم لسائرها في الأغلب وإنما تجيء الأخر أوصافا .
واختلف الناس في اشتقاقه فقالت فرقة من أهل العلم هو اسم مرتجل لا اشتقاق له من فعل وإنما هو اسم موضوع له تبارك وتعالى . والألف واللام لازمة له لا لتعريف ولا لغيره بل هكذا وضع الاسم .
وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد وتأله إذا تنسك . ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج :
لله در الغانيات المده *** سبحن واسترجعن من تألهي
ومن ذلك قول الله تعالى { ويذرك وآلهتك } على هذه القراءة فإن ابن عباس وغيره قال وعبادتك قالوا فاسم الله مشتق من هذا الفعل لأنه الذي يألهه كل خلق ويعبده . حكاه النقاش في صدر سورة آل عمران فإلاه فعال من هذا .
واختلف كيف تعلل " إله " حتى جاء " الله " ؟ فقيل حذفت الهمزة حذفا على غير قياس ودخلت الألف واللام للتعظيم على لاه وقيل بل دخلتا على اله ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام فجاء أَلِلاَه ثم أدغمت اللام في اللام . وقيل إن أصل الكلمة " لاه " وعليه دخلت الألف واللام . والأول أقوى .
وروي عن الخليل أن أصل إله ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما هي في إشاح ووشاح وإسادة ووسادة . وقيل : إن أصل الكلمة ولاه كما قال الخليل إلا أنها مأخوذة من وله الرجل إذا تحير لأنه تعالى تتحير الألباب في حقائق صفاته والفكر في المعرفة به . وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللات ، وقيل طرحت تخفيفا ، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط ، ومنها قول الشاعر ابن الأعرابي :
أقبل سيل جاء من أمر الله *** يحرد حرد الجنة المغله
والرحمن صفة مبالغة من الرحمة ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر وهي أبلغ من فعيل ، وفعيل أبلغ من فاعل لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة ، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك ، والرحمن النهاية في الرحمة .
وقال بعض الناس : الرحمن الرحيم بمعنى واحد كالندمان والنديم ، وزعم أنهما من فعل واحد ولكن أحدهما أبلغ من الآخر .
وأما المفسرون فعبروا عن الرحمن الرحيم بعبارات :
فمنها أن العرزمي قال : معناه : الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ، ونعم الحواس ، والنعم العامة ، الرحيم بالمؤمنين بالهداية لهم واللطف بهم .
ومنها أن أبا سعيد الخدري وابن مسعود رويا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة » .
وقال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين كما قال تعالى { وكان بالمؤمنين رحيما } وهذه كلها أقوال تتعاضد .
وقال عطاء الخراساني : كان الرحمن فلما اختزل وسمي به مسيلمة الكذاب قال الله سبحانه لنفسه الرحمن الرحيم فهذا الاقتران بين الصفتين ليس لأحد إلا لله تعالى . وهذا قول ضعيف لأن بسم الله الرحمن الرحيم كان قبل أن ينجم أمر مسيلمة . وأيضا فتَسَمِّي مسيلمة بهذا لم يكن مما تأصل وثبت .
وقال قوم : إن العرب كانت لا تعرف لفظة الرحمن ، ولا كانت في لغتها ، واستدلوا على ذلك بقول العرب : { وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا } وهذا القول ضعيف وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له لا على نفس اللفظة . واختلف في وصل الرحيم بالحمد فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { الرحيمْ الْحمْدُ } تُسكن الميم ويوقف عليها ، ويبتدأ بألف مقطوعة . وقرأ به قوم من الكوفيين .
وقرأ جمهور الناس { الرحيمِ الْحَمْد } يعرب الرحيم بالخفض وتوصل الألف من الحمد ، ومن شاء أن يقدر أنه أسكن الميم ثم لما وصل حركها للالتقاء ولم يعتد بألف الوصل فذلك سائغ والأول أخصر .
وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ : ( الرحيمَ الحمد ) بفتح الميم وصلة الألف كأنها سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت . ولم ترو هذه قراءةً عن أحد فيما علمت ، وهذا هو نظر يحيى بن زياد في قول الله تعالى { الم الله }