{ 117 - 118 } { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } فغفر لهم الزلات ، ووفر لهم الحسنات ، ورقاهم إلى أعلى الدرجات ، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات ، ولهذا قال : { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } أي : خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة " تبوك " {[386]} وكانت في حر شديد ، وضيق من الزاد والركوب ، وكثرة عدو ، مما يدعو إلى التخلف .
فاستعانوا اللّه تعالى ، وقاموا بذلك { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } أي : تنقلب قلوبهم ، ويميلوا إلى الدعة والسكون ، ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم . وزَيْغُ القلب هو انحرافه عن الصراط المستقيم ، فإن كان الانحراف في أصل الدين ، كان كفرا ، وإن كان في شرائعه ، كان بحسب تلك الشريعة ، التي زاغ عنها ، إما قصر عن فعلها ، أو فعلها على غير الوجه الشرعي .
وقوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي : قبل توبتهم { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة ، وقبلها منهم وثبتهم عليها .
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده المؤمنين ، حيث تقبل توبتهم ، وتجاوز عن زلاتهم ، فقال - تعالى - : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي . . . . } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك ، وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه فيما سبق ، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقى من أحكامها ، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجرى مجرى ترك الأولى ، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة ، فذكر - سبحانه - أنه تفضل عليهم ، وتاب عليهم ، في تلك الزلات ، فقال - تعالى - : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار } .
وللعلماء أقوال في المراد بالتوبة التي تابها الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - وعلى المهاجرين والأنصار : فمنهم من يرى أن المرد بها قبول توبتهم ، وغفران ذنوبهم ، والتجاوز عن زلاتهم التي حدثت منهم في تلك الغزوة أو في غيرها ، وإلى هذا المعنى أشارة القرطبى بقوله :
قال ابن عباس : كانت التوبة على النبى - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنه أذن للمنافقين في القعود ، بدليل قوله - سبحانه - قبل ذلك : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . . } وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه - أى : إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك .
ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها ، والحض على تجديدها ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال : { تَابَ الله على النبي } كقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وكقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبى والمهاجرين والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . .
ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا : دوامها لا أصلها ، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : لقد تاب الله على النبى . . " أى : أدام توبته على النبى والمهاجرين والأنصار . وهذا جواب عما يقال : من أن النبى معصوم من الذبن ، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا في هذه القضية ، بل اتبعوه من غير تلعثم ، قلنا : المراد بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها . . " .
ومنهم من يرى أن ذكر النبى هنا إنما هو من باب التشريف ، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات . وقد وضح هذا المعنى الإِمام الآلوسى فقال : قال أصحاب المعانى : المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار ، إلا أنه جئ في ذلك بالنبى - صلى الله عليه وسلم - تشريفا لهم ، وتعظيما لقدرهم ، وهذا كما قالوا في ذكره - تعالى - في قوله :
{ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية أى : عفا - سبحانه - عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم حنين . .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله - تعالى - على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت في هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ، وبمقتضى الاجتهاد في أمور لم يبين الله - تعالى - حكمه فيها ، فهى لا تنقص من منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من منزلة أصحابه الصادقين في إيمانهم .
والمعنى : لقد تقبل الله - تعالى - توبة النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار ، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص في ساعة العسرة . أى في وقت الشدة والضيق ، وهو وقت غزوة تبوك ، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت .
وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، كما كان الجيش الذي اشترك فيها يسمى بجيش العسرة ، وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها في مجدبة ، وحر شديد ، وفقر في الزاد والماء والراحلة .
قال ابن كثير : قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر في الزاد والماء .
وقال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر - أى شدته - على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم تعب شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما .
وقال الحسن : كان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحداً . يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك ، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ، ثم يشر عليها جرعة من الماء . . ومضوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - على صدقهم ويقينهم - رضى الله عنهم .
وقوله : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } بيان لتناهى الشدة ، وبلوغها الغاية القصوى .
أى : تاب - سبحانه - على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب .
وفى ذكر { فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار ، مضوا معه - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد في قوة إيمانهم وصدق يقينهم ، وضماء عزيمتهم ، وشدة إخلاصهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : وفى " كاد " ضمير الشأن و " قلوب " فاعل " يزيغ " والجملة في موضع الخبر لكاد . . وهذا على قراءة " يزيغ " بالياء ، وهى قراءة حمزة ، وحفص والأعمش .
وأما على قراء " تزيغ " بالتاء ، وهى قراءة الباقين . فيحتمل أن يكون " قلوب " اسم كان " وتزيغ " خبرها ، وهي ضمير يعود على اسمها .
وقوه : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم . ولطفه بهم .
أى : ثم تاب عليهم - سبحانه - بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس . إنه بهم رءوف رحيم .
قال بعضهم : فإن قلت : قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار ؟
قلت : إنه - سبحانه - ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه - تعالى - قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم ، ثم أتبعه بقوله - سبحانه - { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تأكيدا لذلك . والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع .
وقال القرطبى : قوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وتلك سنة الحق - سبحانه - مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك ، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم .
منك أرجوا ولست أعرب ربا . . . يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأر . . . ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجو . . . ع ، وصروا على الذنوب ولجوا
قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مُجدبة وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء .
قال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر ، على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم فيها جهد شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين{[13946]} كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، [ ثم يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ]{[13947]} فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم .
وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عتبة بن أبي عتبة ، عن نافع بن جُبَير بن مطعم ، عن عبد الله بن عباس ؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عَطَش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع{[13948]} [ حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء ، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ]{[13949]} حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ، إن الله عز وجل ، قد عَوّدك في الدعاء خيرا ، فادع لنا . قال : " تحب ذلك " . قال : نعم ! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت{[13950]} ثم سكبت ، فملئوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر . {[13951]}
وقال ابن جرير في قوله : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } أي : من النفقة والظهر والزاد والماء ، { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } {[13952]} أي : عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتاب ، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه ، { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم ، والرجوع إلى الثبات على دينه ، { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام ، وأنصار رسوله في الله ، الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء مِنْ بعدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِنْهُمُ يقول : من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحقّ ويشكّ في دينه ويرتاب بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه . ثُمّ تابَ عَلَيْهِمْ يقول : ثم رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه وإبصار الحقّ الذي كان قد كاد يلتبس عليهم . إنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ يقول : إن ربكم بالذين خالط قلوبهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدّة والمشقة ، رَءُوفٌ بهم ، رَحِيمٌ أن يهلكهم ، فينزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلوا في الله ما أبلو مع رسوله وصبروا عليه من البأساء والضرّاء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فِي ساعَةِ العُسْرَةِ في غزوة تبوك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل : فِي ساعَةِ العُسْرَةِ قال : خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير ، وخرجوا في حرّ شديد ، وأصابهم يومئذ عطش شديد ، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها ، كان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ساعَةِ العُسْرَةِ قال : غزوة تبوك ، قال : «العسرة » : أصابهم جهد شديد حتى أن الرجلين ليشقان التمرة بينهما وإنهم ليمصون التمرة الواحدة ويشربون عليها الماء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الّذِينَ اتّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسرَةِ قال : غزوة تبوك .
قال : حدثنا زكريا بن عليّ ، عن ابن مبارك ، عن معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر : الّذِينَ اتّبَعُوهِ فِي ساعَةِ العُسْرَةِ قال : عسرة الظهر ، وعسرة الزاد ، وعسرة الماء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ تابَ اللّهُ على النّبِيّ والمُهاجِرَينِ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهِ فِي ساعَةِ العُسْرَةِ . . . الآية ، الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو تبوك قِبَلَ الشأم في لهبان الحرّ على ما يعلم الله من الجهد أصابهم فيها جهد شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عتبة بن أبي عتبة ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن عبد الله بن عباس : أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة ، فقال عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى أن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع جتى يظنّ أن رقبته ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر : يا رسول الله إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرا ، فادع لنا قال : «تُحِبّ ذلكَ ؟ » قال : نعم . فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء ، فأظلت ثم سكبت ، فملئوا ما معهم ، ثم رجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر .
حدثني إسحاق بن زيادة العطار ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : حدثنا عمرو بن الحرث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه : حدثنا عن شأن جيش العسرة ، فقال عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه .
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى : ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا } إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده . { الذين اتبعوه في ساعة العُسرة } في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا القيظ . { من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم } عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وفي { كاد } ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في { منهم } . وقرأ حمزة وحفص { يزيغ } بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي . وقرئ " من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم " يعني المتخلفين . { ثم تاب عليهم } تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة ، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم . { إنه بهم رءوف رحيم } .
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف ، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تُجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده ، فالجملة استئناف ابتدائي .
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالاً ماضية .
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك .
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغُزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
ومعنى { تاب } عليه : غفر له ، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنباً أم لم يكنه ، كقوله تعالى : { علم أنْ لن تحصوه فتاب عليكم } [ المزمل : 20 ] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة . فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم « لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم .
والمهاجرون والأنصار : هم مجموع أهل المدينة ، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة ، ولكنهم خُصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم ، فكانوا إسوة لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل .
ووصف المهاجرون والأنصار ب { الذين اتبعوه } للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبباً في هذه المغفرة .
ومعنى { اتبعوه } أطاعوه ولم يخالفوا عليه ، فالاتباع مجازي .
والعسرة : اسم العسر ، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة . وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك . فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه ، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد . ويدل لذلك قوله : { من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم } أي من المهاجرين والأنصار ، فإنه متعلق ب { اتبعوه } أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين ، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج ، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع .
و { كاد } من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عَملَ كانَ ، واسمُها هنا ضمير شأن مقدر ، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن ، وإنما جُعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ .
وقرأ الجمهور { تَزيغ } بالمثناة الفوقية . وقرأه حمزة ، وحفص عن عاصم ، وخلف بالمثناة التحتية . وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر . والزيغ : الميل عن الطريق المقصود . وتقدم عند قوله تعالى : { ربنا لا تزغ قلوبنا } في سورة آل عمران ( 8 ) .
وجملة { ثم تاب عليهم } عطف على جملة { لقد تاب الله } أي تاب على غير هذا الفريق مطلقاً ، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ ، فتكون { ثم } على أصلها من المهلة . وذلك كقوله في نظير هذه الآية { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] . والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر ، فالضمير في قوله { عليهم } لل { فريق } . وجوز كثير من المفسرين أن تكون { ثم } للترتيب في الذكر ، والجملة بعدها توكيداً لجملة { تاب الله } ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم .
وجملة : { إنه بهم رءوف رحيم } تعليل لما قبلها على التفسيرين .