ثم ذكر تعالى ، نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم ، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ، ركنا من أركان الإسلام ، حاطا للذنوب والآثام .
وفيه من آثار الخليل وذريته ، ما عرف به إمامته ، وتذكرت به حالته فقال : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي : مرجعا يثوبون إليه ، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية ، يترددون إليه ، ولا يقضون منه وطرا ، { و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد ، حتى الوحش ، وحتى الجمادات كالأشجار .
ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام ، ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم ، فلا يهيجه ، فلما جاء الإسلام ، زاده حرمة وتعظيما ، وتشريفا وتكريما .
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك ، المقام المعروف الذي قد جعل الآن ، مقابل باب الكعبة ، وأن المراد بهذا ، ركعتا الطواف ، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم ، وعليه جمهور المفسرين ، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا ، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج ، وهي المشاعر كلها : من الطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفة ، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر ، وغير ذلك من أفعال الحج .
فيكون معنى قوله : { مُصَلًّى } أي : معبدا ، أي : اقتدوا به في شعائر الحج ، ولعل هذا المعنى أولى ، لدخول المعنى الأول فيه ، واحتمال اللفظ له .
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي : أوحينا إليهما ، وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك ، والكفر والمعاصي ، ومن الرجس والنجاسات والأقذار ، ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : المصلين ، قدم الطواف ، لاختصاصه بالمسجد [ الحرام ] ، ثم الاعتكاف ، لأن من شرطه المسجد مطلقا ، ثم الصلاة ، مع أنها أفضل ، لهذا المعنى .
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد ، منها : أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره ، لكونه بيت الله ، فيبذلان جهدهما ، ويستفرغان وسعهما في ذلك .
ومنها : أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام ، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه .
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن مكانة البيت الحرام ، وعن قصة بنائه ، وعن الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم يتضرع بها إلى الله عند رفعه البيت فقال : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ . . . }
قوله - تعالى - : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنا } معطوف على قوله - تعالى - { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } وجعلنا : بمعنى صرنا . والبيت : المقصود به الكعبة ، إذ غلب استعمال البيت فيها حتى صار اسما لها .
ومثابة للناس : مرجعاً للناس يرجعون إليه من كل جانب ، وهو مصدر ميمي من ثاب القوم إلى المكان رجعوا إليه . فهم يثوبون إليه ثواباً وثوبانا . أو معاذا لهم يلجأون إليه أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره .
والأمن : السلامة من الخوف ، وأمن المكان : اطئمنان أهله به ، وعدم خوفهم من أن ينالهم فيه مكروه فالبيت مأمن ، أي موضع أمن . وأخبر - سبحانه - بأنه جعله أمنا ليدل على كثرة ما يقع به من الأمن حتى صار كأنه نفس الأمن .
وكذلك صار البيت الحرام محفوظاً بالأمن من كل ناحية ، فقد كان الناس في الجاهلية يقتتلون ويعتدي بعضهم على بعض من حوله ، أما أهله فكانوا في أمان واطمئنان . قال تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وقال - تعالى - : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وقد أقرت تعاليم الإِسلام هذه لحرمة للبيت الحرام على وجه لا يضيع حقاً ولا يعطل حداً ، وزادت في تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل قادر عليها .
قال الإِمام ابن كثير : " ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس . أي : جعهل محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه في كل عام استجابة من الله - تعالى - لدعاء خليله إبراهيم في قوله تعالى : { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } ويصفه - تعالى - بأنه جعله أمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له :
{ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } الاتخاذ : الجعل ، تقوم اتخذت فلاناً صديقاً أي : جعلته صديقاً . والمقام في اللغة : موضع القدمين من قام يقوم ، ومقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار ، وهو - على المشهور - تحت المصلى المعروف الآن بهذا الاسم .
ومعنى اتخاذ مصلى منه : القصد إلى الصلاة عنده . فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإِمام مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين " .
ومن العلماء من فسر مقام إبراهيم بالمسجد الحرام ، ومنهم من أطلقه على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها لعبادة الله تعالى .
قال الإِمام ابن كثير : " وقد كان هذا المقام - أي الحجر الذي يسمى مقام إبراهيم - ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر على يمين الداخل من الباب في البقة المستقلة هناك ، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة . . ثم قال : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر - رضي الله عنه - ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة :
ثم قال - تعالى - : { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود } .
عهدنا : أمرنا وأوحينا ، و { أَن } مفسرة المأمور به أو الموصى به المشار إليه بقوله : { عَهِدْنَآ } أي : أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي .
وأضاف - سبحانه - البيت إليه والتكريم ومعنى تطهيره : صيانته من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار والأرجاس والأوثان وكل ما كان مظنة للشرك ، فالمقصود تطهيره من كل رجس حسى ومعنوى .
والطائفين : جمع طائف من طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا دار حول الشيء والمراد بهم : المتقربون إلى الله بالطواف حول الكعبة .
والعاكفين : جمع عاكف ، من عكف على الشيء عكوفاً إذا أقام عليه ملازماً له ، والمراد بهم : المقيمون في الحرم بقصد العبادة ، ويدخل في العبادة ، ويدخل في العبادة مدارسة العلوم الدينية وما يساعد على فهمها .
والركع السجود : الركع جمع راكع ، والسجود : جمع ساجد .
والركوع والسجود من هيئات الصلاة وأركانها ، فمعنى " والركع السجود " الصملون .
فالآية الكريمة جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام : وهم الطائفون وإن لم يكونوا مقيمين ، كمنن يأتون لحج أو عمرة ثم ينصرفون .
والعاكفون الذين يقيمون في الحرم بقصد الإِكثار من العبادة في المسجد الحرام . والمصلون يتقربون إلى الله بالصلوات سواء أكانت فرائص أم نوافل .
ولم يعطف السجود على الركع ، لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان .
قال العوفي ، عن ابن عباس : قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } يقول : لا يقضون منه وطرًا ، يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَثَابَةً لِلنَّاسِ } يقول : يثوبون .
رواهما{[40]} ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي ، أخبرنا عبد الله بن رجاء ، أخبرنا إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال : يثوبون إليه ثم يرجعون . قال : وروي عن أبي العالية ، وسعيد بن جبير - في رواية - وعطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وعطية ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، نحو ذلك . وقال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، حدثني الوليد بن مسلم قال : قال أبو عمرو - يعني الأوزاعي - حدثني عبدة بن أبي لبابة ، في قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال : لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا .
وحدثني يونس ، عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } قال : يثوبون إليه من البُلْدان كلها ويأتونه .
[ وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى ، أورده القرطبي{[41]} :
جعل البيتُ مثابًا لهم . . . ليس منه الدهر يقضون الوَطَرْ ]{[42]}
وقال سعيد بن جبير - في الرواية الأخرى - وعكرمة ، وقتادة ، وعطاء الخراساني { مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي : مجمعا .
{ وَأَمْنًا } قال الضحاك عن ابن عباس : أي أمنًا للناس .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } يقول : أمنًا من العدو ، وأن يُحْمَل فيه السلاح ، وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من حولهم ، وهم آمنون لا يُسْبَون .
وروي عن مجاهد ، وعطاء ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، قالوا : من دخله كان آمنًا .
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية : أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس ، أي : جعله مَحَلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ، ولا تقضي منه وطرًا ، ولو ترددَت إليه كلَّ عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم ، عليه السلام ، في قوله : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } إلى أن قال : { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ{[43]} } [ إبراهيم : 37 - 40 ] ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا ، من دخله أمن ، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يَعْرض له ، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى{[44]} { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] أي : يُرْفَع عنهم بسبب تعظيمها{[45]} السوءُ ، كما قال ابن عباس : لو لم يحج الناسُ هذا البيت لأطبق الله السماءَ على الأرض ، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن ، كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا } [ الحج : 26 ] وقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 96 ، 97 ] .
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده . فقال : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو ؟ فقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عمر بن شَبَّة النميري ، حدثنا أبو خلف - يعني عبد الله بن عيسى - حدثنا داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال : مقام إبراهيم : الحرم كله . وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك .
وقال [ أيضا ]{[46]} حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فقال : سمعت ابن عباس قال : أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا ، فمقام إبراهيم هذا الذي{[47]} في المسجد ، ثم قال : و { مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ } يعد كثير ، " مقام إبراهيم " الحج كله . ثم فسره لي عطاء فقال : التعريف ، وصلاتان بعرفة ، والمشعر ، ومنى ، ورمي الجمار ، والطواف بين الصفا والمروة . فقلت : أفسره ابن عباس ؟ قال : لا ولكن قال : مقام إبراهيم : الحج كله . قلت : أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع . قال : نعم ، سمعته منه .
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال : الحَجر مقام إبراهيم نبي الله ، قد جعله الله رحمة ، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة . ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه .
[ وقال السدي : المقام : الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه . حكاه القرطبي ، وضعفه ورجحه غيره ، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس ]{[48]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن ابن جُرَيج ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، سمع جابرًا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال : نعم ، قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }{[49]} .
وقال عثمان بن أبي شيبة : أخبرنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال : قال عمر : قلت : يا رسول الله ، هذا مقام خليل ربنا ؟ قال : نعم ، قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }{[50]} .
وقال ابن مَرْدويه : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا غيلان بن عبد الصمد ، حدثنا مسروق بن المرزبان ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مَرَّ بمقام إبراهيم فقال : يا رسول الله ، أليس نقوم مقام خليل ربنا{[51]} ؟ قال : " بلى " . قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى نزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد{[52]} بن أحمد بن محمد القزويني ، حدثنا علي بن الحسين الجنيد ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد ، عن مالك بن أنس ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر ، قال : لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم ، قال له عمر : يا رسول الله ، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ؟ قال : " نعم " . قال الوليد : قلت لمالك : هكذا حدثك { وَاتَّخِذُوا } قال : نعم . هكذا وقع في هذه الرواية . وهو غريب .
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه{[53]} .
وقال البخاري : باب قوله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } مثابة يثوبون يرجعون .
حدثنا مُسدَّد ، حدثنا يحيى ، عن حميد ، عن أنس بن مالك . قال : قال عمر بن الخطاب وافقتُ ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب . وقال : وبلغني مُعَاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ، فدخلت عليهن{[54]} فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلَن الله رسوله خيرًا منكن ، حتى أتيت إحدى نسائه ، فقالت : يا عمر ، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تَعظهن أنت ؟ ! فأنزل الله : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ] .
وقال ابن أبي مريم : أخبرنا يحيى بن أيوب ، حدثني حميد ، قال : سمعت أنسًا عن عمر ، رضي الله عنهما{[55]} .
هكذا ساقه البخاري هاهنا ، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري . وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة . وروى عنه الباقون بواسطة ، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين{[56]} فيه اتصال إسناد الحديث ، وإنما لم يسنده ؛ لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء ، كما قال الإمام أحمد فيه : هو سيئ الحفظ ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، قال : قال عمر رضي الله عنه{[57]} وافقت ربي عز وجل في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله ، إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ فنزلت آية الحجاب . واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك{[58]} ثم رواه أحمد ، عن يحيى وابن أبي عدي ، كلاهما عن حميد ، عن أنس ، عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث فذكره{[59]} .
وقد رواه البخاري عن عَمْرو بن عَوْن والترمذي عن أحمد بن منيع ، والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، كلهم عن هُشَيم بن بشير ، به{[60]} . ورواه الترمذي - أيضًا - عن عبد بن حُميد ، عن حجاج بن مِنهال ، عن حماد بن سلمة ، والنسائي عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، كلاهما عن حميد ، وهو ابن تيرويه الطويل ، به{[61]} . وقال الترمذي : حسن صحيح . ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زُرَيع ، عن حميد به . وقال : هذا من صحيح الحديث ، وهو بصري ، ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ، ولفظ آخر ، فقال : حدثنا عقبة بن مُكْرَم ، أخبرنا سعيد بن عامر ، عن جويرية بن أسماء ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : وافقت ربي في ثلاث : في الحجاب ، وفي أسارى بدر ، وفي مقام إبراهيم{[62]} .
وقال أبو حاتم الرازي : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : وافقني ربي في ثلاث - أو وافقت ربي - قلت{[63]} يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله لو حجبت النساء ؟ فنزلت آية الحجاب . والثالثة : لما مات عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه . قلت : يا رسول الله ، تصلي على هذا الكافر المنافق ! فقال : " إيهًا عنك يا بن الخطاب " ، فنزلت : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [ التوبة : 84 ] {[64]}
وهذا إسناد صحيح أيضًا ، ولا تعارض بين هذا ولا هذا ، بل الكل صحيح ، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قُدم عليه ، والله أعلم .
وقال ابن جريج{[65]} أخبرني جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعًا ، حتى إذا فرغ عَمَد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وقال ابن جرير : حدثنا يوسف بن سلمان{[66]} حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ، فرمل ثلاثًا ، ومشى أربعًا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ، فقرأ : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .
وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه ، من حديث حاتم بن إسماعيل{[67]} .
وروى البخاري بسنده ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت ابن عمر يقول : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين{[68]} .
فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم عليه السلام ، يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل ، عليه السلام ، به ليقومَ فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، كلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة ، وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا ، حتى تم جدارات الكعبة ، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت ، من رواية ابن عباس عند البخاري . وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها ؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية :
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة *** على قدميه حافيًا غير ناعل{[69]}
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا . وقال{[70]} عبد الله بن وهب : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب : أن أنس بن مالك حدثهم ، قال : رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلام ، وإخْمَص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه . ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها ، ولقد ذُكِرَ لنا من رأى أثر عَقِبِه وأصابعه فيه{[71]} فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى .
قلت : وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل ، عليه السلام{[72]} لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ؛ ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف ، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه ، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه{[73]} [ وهو ]{[74]} أحدُ الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين ، الذين أُمِرْنا باتباعهم ، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر " . وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين .
قال عبد الرزاق ، عن ابن جُرَيج ، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا : قالوا : أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه{[75]} وقال عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن حَمِيد الأعرج ، عن مجاهد قال : أول من أخر المقام إلى موضعه الآن ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه{[76]} .
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي{[77]} أخبرنا أبو [ الحسين بن ]{[78]} الفضل القطان ، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي ، حدثنا أبو ثابت ، حدثنا الدراوردي ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني قال : قال سفيان - [ يعني ابن عيينة ]{[79]} وهو إمام المكيين في زمانه - كان المقام في{[80]} سُقْع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله :
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا ، فرده عمر إليه .
وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله . قال سفيان : لا أدري أكان{[81]} لاصقًا بها أم لا ؟{[82]} .
فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه ، والله أعلم .
وقد قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أبو عَمْرو ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : قال عمر : يا رسول الله لو صلينا خلف المقام ؟ فأنزل الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا . قال مجاهد : قد كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن{[83]} .
هذا مرسل عن مجاهد ، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مَرْدُويه ، مع اعتضاد هذا بما تقدم ، والله أعلم{[84]} .
قال الحسن البصري : قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } قال : أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنَّجَس ولا يصيبه من ذلك شيء .
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } أي : أمرناه . كذا قال . والظاهر أن هذا الحرف إنما عُدِّيَ بإلى ، لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا .
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قوله : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } قال : من الأوثان .
وقال مجاهد وسعيد بن جُبَير : { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } إن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس .
قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن عُبَيد بن عمير ، وأبي العالية ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء وقتادة : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي : بلا إله إلا الله ، من الشرك .
وأما قوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ } فالطواف بالبيت معروف . وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ } يعني : من أتاه من غُرْبة ،
{ وَالْعَاكِفِينَ } المقيمين فيه . وهكذا روي عن قتادة ، والربيع بن أنس : أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه ، كما قال سعيد بن جبير .
وقال يحيى [ بن ]{[85]} القطَّان ، عن عبد الملك - هو ابن أبي سليمان - عن عطاء في قوله : { وَالْعَاكِفِينَ } قال : من انتابه{[86]} من الأمصار فأقام عنده{[87]} وقال لنا - ونحن مجاورون - : أنتم من العاكفين .
وقال وكيع ، عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال : إذا كان جالسًا فهو من العاكفين .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مُكَلِّم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون{[88]} ويُحدثون . قال : لا تفعل ، فإن ابن عمر سئل عنهم ، فقال : هم العاكفون .
[ ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة ، به ]{[89]} .
قلت : وقد ثبت في الصحيح أنّ ابن عمرَ كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عَزَب{[90]} .
وأما قوله تعالى : { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فقال وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء ، عن ابن عباس { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } قال : إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود . وكذا قال عطاء وقتادة .
وقال ابن جَرير رحمه الله : فمعنى الآية : وأمَرْنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين . والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيرُه من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك . ثم أورد سؤالا فقال : فإن قيل : فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه ؟ وأجاب بوجهين : أحدهما : أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زَمَان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سُنَّة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إمامًا يقتدى به كما قال عبد الرحمن بن زيد : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } قال : من الأصنام التي يعبدون ، التي كان المشركون يعظمونها .
قلت : وهذا الجواب مُفَرَّع على أنه كان يُعْبَدُ عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم .
الجواب الثاني : أنه أمرهما أن يخلصا [ في ]{[91]} بنائه لله وحده لا شريك له ، فيبنياه مطهرًا من الشرك والرَّيْب ، كما قال جل ثناؤه : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] قال : فكذلك قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي : ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب ، كما قال السدي : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } ابنيا بيتي للطائفين .
وملخص هذا الجواب : أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده ، والمصلين إليه من الركع السجود ، كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } الآيات [ الحج : 26 - 37 ] .
[ وقد اختلف الفقهاء : أيما أفضل ، الصلاة عند البيت أو الطواف ؟ فقال مالك : الطواف به لأهل الأمصار أفضل من الصلاة عنده ، وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقا ، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام ]{[92]} .
والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته ، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] .
ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له ، إما بطواف أو صلاة ، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة : قيامها ، وركوعها ، وسجودها ، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين ، واجتزأ بذكر الركوع والسجود عن القيام ؛ لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام . وفي ذلك - أيضًا - رَدّ على من لا يحجه من أهل الكتابين : اليهود والنصارى ؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته ، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا من ذلك ، فكيف يكونون{[93]} مقتدين بالخليل ، وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حَجَّ البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم السلام ، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 4 ] .
وتقدير الكلام إذًا : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [ أي : تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ]{[94]} { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصًا لله ، معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود . وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية ، ومن قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ النور : 36 ] ومن السنة من أحاديث كثيرة ، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك ، من صيانتها من الأذى والنجاسات{[95]} وما أشبه ذلك . ولهذا قال عليه السلام : " إنما بنيت المساجد لما بنيت له " {[96]} . وقد جَمَعْتُ في ذلك جزءًا على حدة ولله الحمد والمنة .
وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة ، فقيل : الملائكة قبل آدم ، وروي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين ، ذكره القرطبي وحكى لفظه ، وفيه غرابة ، وقيل : آدم عليه السلام رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم : أن آدم بناه من خمسة أجبل : من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي ، وهذا غريب أيضًا . وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه : أن أول من بناه شيث ، عليه السلام ، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب ، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها ، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين .
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُواْ مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ، وَعَهِدْنَا إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ }
أما قوله : وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً فإنه عطف ب«إذْ » على قوله : وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ . وقوله : { وَإذِا ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ }معطوف على قوله : { يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي } ، { واذكروا إذ ابتلى إبراهيمَ ربّه } ، { وإذ جعلنا البيت مثابة } . والبيت الذي جعله الله مثابة للناس هو البيت الحرام .
وأما المثابة فإن أهل العربية مختلفون في معناها ، والسبب الذي من أجله أنثت فقال بعض نحويي البصرة : ألحقت الهاء في المثابة لما كثر من يثوب إليه ، كما يقال سيارة لمن يكثر ذلك ، ونَسّابة .
وقال بعض نحويي الكوفة : بل المَثَابُ والمثابة بمعنى واحد ، نظيرة المقام والمقامة والمقام ، ذُكّر على قوله لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه ، وأنثت المقامة لأنه أريد بها البقعة . وأنكر هؤلاء أن تكون المثابة كالسّيارة والنّسابة ، وقالوا : إنما أدخلت الهاء في السيارة والنسابة تشبيها لها بالداعية والمثابة مفعلة من ثاب القوم إلى الموضع : إذا رجعوا إليهم فهم يثوبون إليه مَثَابا وَمَثَابةً وَثَوَابا .
فمعنى قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ } وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا يأتونه كل عام ويرجعون إليه ، فلا يقضون منه وطرا . ومن المثاب قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم :
مَثابٌ لأفْنَاء القَبَائِلِ كُلّها تَخُبّ إلَيْهِ اليَعْمَلاتُ الصّلاَئِحُ
ومنه قيل : ثاب إليه عقله ، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : لا يقضون منه وَطَرا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه ، لا يقضون منه وَطَرا .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : أما المثابةُ فهو الذي يثوبون إليه كل سنة لاَ يَدَعُهُ الإنسان إذا أتاه مرّة أن يعود إليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : لا يقضون منه وطرا ، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه .
وحدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثني الوليد بن مسلم ، قال : قال أبو عمرو ، حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ } قال : لا يَنْصرِف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك عن عطاء في قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه من كل مكان ، ولا يقضون منه وطرا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .
حدثني محمد بن عمار الأسدي ، قال : حدثنا سهل بن عامر ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن عطية في قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ } قال : لا يقضون منه وَطَرا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهذيل ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ } قال : يحجّون ويثوبون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي الهذيل ، عن سعيد بن جبير في قوله : { مَثَابَةً للنّاسِ } قال : يحجون ، ثم يحجون ، ولا يقضون منه وطرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن بكير ، قال : حدثنا مسعر ، عن غالب ، عن سعيد بن جبير : { مَثابَةً للنّاسِ } قال : يثوبون إليه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وأمْنا }قال : مجمعا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :
{ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأمْنا } .
والأمن : مصدر من قول القائل أمِنَ يَأْمَنُ أَمْنا . وإنما سماه الله أمنا لأنه كان في الجاهلية مَعَاذا لمن استعاذ به ، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه ، وكان كما قال الله جل ثناؤه : { أَوَ لَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنَا حَرَما آمِنا وَيُتَخَطّف النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وأمْنا }قال : من أَمّ إليه فهو آمن كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما أمْنا فمن دخله كان آمنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله : { وأمْنا }قال : تحريمه لا يخاف فيه من دخله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَأمْنا }يقول : أمنا من العدوّ أن يحمل فيه السلاح ، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَوْنَ .
حدثت عن المنجاب ، قال : أخبرنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وأمْنا } قال : أمنا للناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : { وَأمْنا }قال : تحريمه لا يخاف فيه من دخله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } .
اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } بكسر الخاء على وجه الأمر باتخاذه مصلّى وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة ، وقراءة عامة قرّاء أهل مكة وبعض قرّاء أهل المدينة . وذهب إليه الذين قرءوه كذلك من الخبر الذي :
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت المقام مصلّى ؟ فأنزل الله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن حميد ، عن أنس ، عن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، فذكر مثله .
قالوا : فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيّهُ صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى فغير جائز قراءتها وهي أمرٌ على وجه الخبر .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } معطوف على قوله : { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي } ، { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } ، فكان الأمر بهذه الآية وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم على قول هذا القائل لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثنا الربيع بن أنس بما حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : من الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم قوله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى ، فهم يصلون خلف المقام .
فتأويل قائل هذا القول : وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأتَمّهُنّ قالَ إنّي جَاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقال : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } . والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ، يدلّ على خلاف الذي قاله هؤلاء ، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين .
وقرأه بعض قرّاء أهل المدينة والشام : «واتّخَذُوا » بفتح الخاء على وجه الخبر .
ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله : «وَاتّخَذُوا » إذا قرىء كذلك على وجه الخبر ، فقال بعض نحويي البصرة : تأويله إذا قرىء كذلك : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا وإذِ اتخذوا من مقام إبْرَاهِيمَ مصلّى .
وقال بعض نحويي الكوفة : بل ذلك معطوف على قوله : جَعَلْنَا فكان معنى الكلام على قوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس واتّخَذُوه مصلى .
والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا : وَاتّخِذُوا بكسر الخاء ، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا ، وأن عمرو بن عليّ :
حدثنا قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، قال : حدثني أبي ، عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَاتّخِذُوا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } وفي مقام إبراهيم .
فقال بعضهم : مقام إبراهيم : هو الحجّ كله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { مَقامِ إبْرَاهِيمَ } قال : الحجّ كله مقام إبراهيم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : الحجّ كله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان . عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الحجّ كله مقام إبراهيم . وقال آخرون : مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء بن أبي رياح : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : لأني قد جعلْتُه إماما فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله :
{ وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : مقامه جمع وعرفة ومِنًى لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله :
{ وَاتخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : مقامه عرفة .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي قال : نزلت عليه وهو واقف بعرفة مقام إبراهيم :
{ اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية .
حدثنا عمرو قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي ، مثله .
وقال آخرون : مقام إبراهيم : الحرم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : الحرم كله مقام إبراهيم .
وقال آخرون : مقام إبراهيم : الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه ، وضعف عن رفع الحجارة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سنان القزاز ، قال : حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، قال : حدثنا إبراهيم بن نافع ، قال : سمعت كثير بن كثير يحدّث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جعل إبراهيم يبنيه ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : { رَبنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر ، فهو مقام إبراهيم .
وقال آخرون : بل مقام إبراهيم ، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى } إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا مما تكلفته الأمم قبلها ، ولقد ذكرَ لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه فيها ، فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخْلَوْلق وانمحى .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } فهم يصلون خلف المقام .
حدثني يونس ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى }وهو الصلاة عند مقامه في الحجّ . والمقام : هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب ، فغسلت شقه ثم دفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر ، فوضعته تحت الشقّ الاَخر فغسلته ، فغابت رجله أيضا فيه ، فجعلها الله من شعائره ، فقال : { وَاتّخِذوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } .
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون إن مقام إبراهيم : هو المقام المعروف بهذا الاسم ، الذي هو في المسجد الحرام لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب ، ولما :
حدثنا يوسف بن سليمان ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ، فرمل ثلاثا ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين . فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى بمقام إبراهيم الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى هو الذي وصفنا . ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف دون باطنه المجهول ، حتى يأتي ما يدلّ على خلاف ذلك مما يجب التسليم له .
ولا شكّ أن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى } فإن أهل التأويل مختلفون في معناه ، فقال بعضهم : هو المُدّعَى . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : مصلى إبراهيم مُدّعًى .
وقال آخرون : معنى ذلك : اتخذوا مصلى تصلون عنده . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : أمروا أن يصلوا عنده .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هو الصلاة عنده . فكأن الذين قالوا تأويل المصلى ههنا المدعَى ، وجهوا المصلى إلى أنه مفعّل من قول القائل : صليت بمعنى دعوت . وقائلو هذه المقالة هم الذين قالوا : إن مقام إبراهيم هو الحجّ كله .
فكان معناه في تأويل هذه الآية : واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار وسائر أماكن الحجّ التي كان إبراهيم يقوم بها مداعي تدعونني عندها ، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها ، فإني قد جعلته لمن بعده من أوليائي وأهل طاعتي إماما يقتدون به وبآثاره ، فاقتدوا به .
وأما تأويل القائلين القول الاَخر ، فإنه : اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده ، عبادة منكم ، وتكرمة مني لإبراهيم . وهذا القول هو أولى بالصواب لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِي } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَعَهِدْنَا وأمرنا . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } قال : أمرناه .
فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين . والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت ، هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك بالله .
فإن قال قائل : وما معنى قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطائِفِينَ } وهل كان أيام إبراهيم قبل بنائه البيت بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم ، فيجوز أن يكونا أُمِرا بتطهيره ؟ قيل : لذلك وجهان من التأويل ، قد كان لكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل ، أحدهما : أن يكون معناه : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطهّرا من الشرك والريب ، كما قال تعالى ذكره : أفَمنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ ، فكذلك قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ } أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ } يقول : ابنيا بيتي .
فهذا أحد وجهيه ، والوجه الاَخر منهما أن يكونا أُمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه والبيت بعد بنيانه مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه على عهد نوح ومن قبله من الأوثان ، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما ، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به مَنْ بعده . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أنْ طَهّرَا }قال : من الأصنام التي يعبدون التي كان المشركون يعظمونها .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير : { أنْ طَهّرَا بَيتِيَ للطّائِفِينَ }قال : من الأوثان والريب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، مثله .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : من الشرك .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن مجاهد : { طَهّرَا بَيْتِيَ للطّائَفِينَ }قال : من الأوثان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { طَهّرَا بَيْتِيَ للطّائِفِينَ }قال : من الشرك وعبادة الأوثان .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بمثله ، وزاد فيه : وقول الزور .
القول في تأويل قوله تعالى : للطّائِفِينَ .
اختلف أهل التأويل في معنى الطائفين في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غربة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو حصين ، عن سعيد بن جبير في قوله : { للطّائِفِينَ } قال : من أتاه من غربة .
وقال آخرون : بل الطائفون هم الذين يطوفون به غرباء كانوا أو من أهله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء : { للطّائِفِينَ } قال : إذا كان طائفا بالبيت ، فهو من الطائفين .
وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء لأن الطائف هو الذي يطوف بالشيء دون غيره ، والطارىء من غربة لا يستحقّ اسم طائف بالبيت إن لم يطف به .
القول في تأويل قوله تعالى : { والعاكِفِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَالعاكِفِينَ } والمقيمين به ، والعاكف على الشيء : هو المقيم عليه ، كما قال نابغة بني ذبيان :
عُكُوفا لَدَى أبْياتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْ *** رمى اللّهُ فِي تِلْكَ الأكُفّ الكوَانِعِ
وإنما قيل للمعتكف معتكف من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : وَالعاكِفِينَ فقال بعضهم : عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء ، قال : إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين .
وقال بعضهم : العاكفون هم المعتكفون المجاورون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة : { طَهّرَا بَيْتِيَ للطائِفِينَ وَالعاكِفِينَ } قال : المجاورون .
وقال بعضهم : العاكفون هم أهل البلد الحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو حصين ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَالعاكِفِينَ } قال : أهل البلد .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالعاكِفِينَ } قال : العاكفون : أهله .
وقال آخرون : العاكفون : هم المصلون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : { طَهّرَا بَيْتِي للطّائِفِينَ وَالعاكِفِينَ } قال : العاكفون : المصلون .
وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء ، وهو أن العاكف في هذا الموضع : المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة ، لأن صفة العكوف ما وصفنا من الإقامة بالمكان . والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصلَ وطائف وقائم ، وعلى غير ذلك من الأحوال فلما كان تعالى ذكره قد ذكر في قوله : { أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ للطّائِفِينَ والعاكِفِينَ والركّعِ السّجُودِ } المصلين والطائفين ، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من العاكف غير حال المصلي والطائف ، وأن التي عنى من أحواله هو العكوف بالبيت على سبيل الجوار فيه ، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالرّكّعِ السّجودِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَالرّكّعِ جماعة القوم الراكعين فيه له ، واحدهم راكع . وكذلك السجود هم جماعة القوم الساجدين فيه له واحدهم ساجد ، كما يقال رجل قاعد ورجال قعود ورجل جالس ورجال جلوس فكذلك رجل ساجد ورجال سجود . وقيل : بل عنى بالركّع السجود : المصلين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء : { وَالرّكّعِ السّجُودِ } قال : إذا كان يصلي فهو من الركّع السجود .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالرّكّعِ السجّودِ }أهل الصلاة . وقد بينا فيما مضى بيان معنى الركوع والسجود ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا .