{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي : كال لكل واحد من إخوته ، ومن جملتهم أخوه هذا . { جَعَلَ السِّقَايَةَ } وهو : الإناء الذي يشرب به ، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ } أوعوا متاعهم ، فلما انطلقوا ذاهبين ، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن ، لم يعلم بحقيقة الحال .
ثم بين - سبحانه - ما فعله يوسف - عليه السلام - مع إخوته ، لكى يبقى أخاه معه فلا يسافر معهم عند رحيلهم فقال : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ . . . } والجهاز كما سبق أن بينا : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع . .
والسقاية : إناء كان الملك يشرب فيه ، وعادة ما يكون من معدن نفيس ولقد كان يوسف - عليه السلام - يكتال به في ذلك الوقت نظراً لقلة الطعام وندرته .
وهذه السقاية هي التي أطلق عليها القرآن بعد ذلك لفظ الصواع أى :
وحين أعطى يوسف إخوته ما هم في حاجة إليه من زاد وطعام ، أوعز إلى بعض فتيانه أن يدسوا الصواع في متاع أخيه " بنيامين " دون أن يشعر بهم أحد . .
وقوله { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } بينا لما قاله بعض أعوان يوسف لإِخوته عندما تهيأوا للسفر ، وأوشكوا على الرحيل .
والمراد بالمؤذن هنا : المنادى بصوت مرتفع ليعلم الناس ما يريد إعلامهم به . والمراد بالعير هنا : أصحابها . والأصل فيها أنها اسم للإِبل التي تحمل الطعام وقيل العير تطلق في الأصل على قافلة الحمير ، ثم تجوز فيها فأطلقت على كل قافلة تحمل الزاد وألوان التجارة .
أى : ثم نادى مناد على إخوة يوسف - عليه السلام - وهم يتجهزون للسفر ، أو وهم منطلقون إلى بلادهم بقوله : يا أصحاب هذه القافلة حتى يفصل في شأنكم فأنتم متهمون بالسرقة .
قال الآلوسى ما ملخصه : " والذى يظهر أن ما فعله يوسف ، من جعله السقاية في رحل أخيه . ومن اتهامه لإِخواته بالسرقة . . إنما كان بوحى من الله - تعالى - لما علم - سبحانه - في ذلك من الصلاح ، ولما أراد من امتحانهم بذلك . ويؤيده قوله - تعالى - : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما جهزهم بجهازهم}، يقول: فلما قضى في أمر الطعام حاجتهم {جعل السقاية}، وهي الإناء الذي يشرب به الملك، {في رحل أخيه}، بنيامين، {ثم أذن مؤذن}، يعني نادى مناد، من فتيان يوسف: {أيتها العير}، يعني الرفقة، {إنكم لسارقون} فانقطعت ظهورهم وساء ظنهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: ولما حمّل يوسف إبل إخوته ما حَملها من الميرة وقضى حاجتهم...
وقوله:"جَعَلَ السّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ" يقول: جعل الإناء الذي يكيل به الطعام في رحل أخيه. والسقاية: هي المشربة، وهي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك ويكيل به الطعام...
قوله: "فِي رَحْلِ أخِيهِ "فإنه يعني: في متاع أخيه ابن أمه وأبيه وهو بنيامين...
وقوله: "ثُمّ أذّنَ مُؤَذّنٌ" يقول: ثم نادى مناد، وقيل: أعلم مُعْلِم، "أيّتُها العِيرُ": وهي القافلة فيها الأحمال "إنّكُمْ لَسارِقُونَ"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) قيل: هي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك، وقيل هو الصاع الذي كان يكال به الطعام. ولكن لا نعلم ما كان ذلك سوى أنا نعلم أنها كانت ذات قيمة وثمن. ألا ترى أن ذلك الرسول قال: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [الآية: 72] فلولا أنها كانت ذات قيمة وثمن لم يعط لمن جاء بها حمل بعير، وكانت قيمة الطعام عندهم في ذلك الوقت ما كانت.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه السلام، وذلك أنه كان في دين يعقوب أن يستعبد السارق، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، فعلم يوسف أن إخوته -لثقتهم ببراءة ساحتهم- سيدعون في السرقة إلى حكمهم؛ فتحيل لذلك، واستسهل الأمر -على ما فيه من رمي أبرياء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه السلام، وعليهم- لما علم في ذلك من الصلاح في الآجل، وبوحي لا محالة وإرادة من الله محنتهم بذلك، -هذا تأويل قوم، ويقويه قوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} [يوسف: 76] وقيل: إنما أوحي إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى على ما ظهر إليه- ورجحه الطبري؛ وتفتيش الأوعية يرد عليه. وقيل: إنهم لما كانوا قد باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا، وإنه عوقب على ذلك بأن قالوا: «فقد سرق أخ له من قبل» وقوله: {جعل} أي بأمره خدمته وفتيانه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إنَّمَا جَعَلَ السِّقَايَةَ حِيلَةً فِي الظَّاهِرِ لِأَخْذِ الْأَخِ مِنْهُمْ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَهُ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يَمْنَعْ الْحِيلَةَ، وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، حَكِيمٌ فِي تَفْصِيلِ الْحَالَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ رَضِيَ يُوسُفُ أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِمْ السَّرِقَةَ وَلَمْ يَفْعَلُوهَا؟ قِيلَ: عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ وَبَاعُوهُ، فَاسْتَحَقُّوا هَذَا الِاسْمَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَيَّتُهَا الْعِيرُ حَالُكُمْ حَالُ السُّرَّاقِ. الْمَعْنَى: إنَّ شَيْئًا لِغَيْرِكُمْ صَارَ عِنْدَكُمْ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَلِكِ وَلَا عِلْمِهِ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا كَانَ حِيلَةً لِاجْتِمَاعِ شَمْلِهِ بِأَخِيهِ وَفَصْلِهِ عَنْهمُ إلَيْهِ، وَهُوَ ضَرَرٌ دَفَعَهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَكَيْفَ اسْتَجَازَ يُوسُفُ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ أَخِيهِ وَأَبِيهِ فَيَزِيدُهُ حُزْنًا عَلَى حُزْنٍ وَكَرْبًا عَلَى كَرْبٍ.
قُلْنَا: إذَا اسْتَوَى الْكَرْبُ جَاءَ الْفَرْجُ.
جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِإِذْنٍ مِنْ اللَّهِ فَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ.
جَوَابٌ ثَالِثٌ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحُزْنَ كَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَى يَعْقُوبَ غَلَبَةً لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا فَقْدُ أَخِيهِ كُلَّ التَّأْثِيرِ، أَوَ لَا تَرَاهُ لَمَّا فَقَدَ أَخَاهُ قَالَ: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم إنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا. وكأنه في المرة الأولى أبطأ في تجهيزهم ليتعرف أخبارهم في طول المدة من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبرها، فلذلك أتت الفاء في قوله: {فلما جهزهم} أي أعجل جهازهم وأحسنه... {ثم} أي بعد انطلاقهم وإمعانهم في السير {أذن} أي أعلم فيهم بالنداء {مؤذن} قائلاً برفيع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه -بما دل عليه إسقاط الأداة: {أيتها العير} أي أهلها، وأكد لما لهم من الإنكار {إنكم لسارقون} أي ثابت لكم ذلك لا محالة... مع أن هذا النداء ليس من قول يوسف عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن لا يكون بأمره حتى يحتاج إلى تصحيحه، بل يكون قائله فهم ذلك من قوله عليه السلام: صواعي مع الركب، أو كأنهم أخذوا صواعي فاذهب فأتني به أو بهم- ونحو ذلك مما هو حق في نفسه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم جعله السياق أول عمل لأنه كان أول خاطر. وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب! ويطوي السياق كذلك فترة الضيافة، وما دار فيها بين يوسف وإخوته، ليعرض مشهد الرحيل الأخير. فنطلع على تدبير يوسف ليحتفظ بأخيه، ريثما يتلقى إخوته درسا أو دروسا ضرورية لهم، وضرورية للناس في كل زمان ومكان... وهو مشهد مثير، حافل بالحركات والانفعالات والمفاجآت، كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة وانفعالا، غير أن هذا صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي الأخاذ. فمن وراء الستار يدس يوسف كأس الملك -وهي عادة من الذهب- وقيل: إنها كانت تستخدم للشراب، ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الأخرى في كيل القمح، لندرته وعزته في تلك المجاعة. يدسها في الرحل المخصص لأخيه، تنفيذا لتدبير خاص ألهمه الله له وسنعلمه بعد قليل. ثم ينادي مناد بصوت مرتفع، في صيغة إعلان عام، وهم منصرفون: (أيتها العير إنكم لسارقون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإسناد جعل السقاية إلى ضمير يوسف مجاز عقليّ، وإنما هو آمر بالجعل والذين جعلوا السقاية هم العبيد الموكّلون بالكيل... وأسندت السرقة إلى جميعهم جريا على المعتاد من مؤاخذة الجماعة بجرم الواحد منهم. وتأنيث اسم الإشارة وهو {أيتها} لتأويل العير بمعنى الجماعة لأن الركاب هم الأهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{بجهازهم} أي الجهاز الذي ابتغوه وأرادوه غير منقوص، وقد جعل السقاية في رحل أخيه، أو وضعه في الرحل الذي يحمل البعير المخصص له، ثم بحث عن السقاية، فتبين أنها غير موجودة، وأنها في رحال القوم، فانطلق حراس القافلة منادين، وهذا معنى {أذن مؤذن}، أي أعلم معلم {أيتها العير}،أي أيتها القافلة، وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال، وهنا مجاز مرسل إذ أطلقت، وأريد راكبوها. وفي وصفهم بالسرقة مع أنه لم تكن منهم سرقة، وما كان لنبي الله يوسف أن يكذب، ولو لخير، وقد أجيب عن ذلك بأنه لم يكن هو الذي وصفهم بالسارقين، إنما الحارس المنوط به حراسة حاجة الملك هو الذي قال ذلك، وإن كان يوسف هو الذي وصفهم، فالوصف حقيقي، لأنهم سرقوا يوسف من أبيه، فكيف لا يمسون سارقين وقد سرقوا من الأب أعز ولد عنده...