{ 71-72 } { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا }
يخبر تعالى عن حال الخلق يوم القيامة ، وأنه يدعو كل أناس ، ومعهم إمامهم وهاديهم إلى الرشد ، وهم الرسل ونوابهم ، فتعرض كل أمة ، ويحضرها رسولهم الذي دعاهم ، وتعرض أعمالهم على الكتاب الذي يدعو إليه الرسول ، هل هي موافقة له أم لا ؟ فينقسمون بهذا قسمين : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } لكونه اتبع إمامه ، الهادي إلى صراط مستقيم ، واهتدى بكتابه ، فكثرت حسناته ، وقلت سيئاته { فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ } قراءة سرور وبهجة ، على ما يرون فيها مما يفرحهم ويسرهم . { وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } مما عملوه من الحسنات .
وقوله - سبحانه - : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } شروع فى بيان تفاوت أحوال بنى آدم فى الآخرة ، بعد بيان حالهم فى الدنيا .
ولفظ { يوم } منصوب بفعل محذوف ، أى : واذكر يوم ندعو كل أناس بإمامهم . والمراد بإمامهم هنا : كتاب أعمالهم .
وقد اختار هذا القول الإِمام ابن كثير ورجحه فقال : يخبر الله - تعالى - عن يوم القيامة ، أنه يحاسب كل أمة بإمامهم ، وقد اختلفوا فى ذلك . فقال مجاهد وقتادة أى : بنبيهم ، وهذا كقوله - تعالى - : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط }
وقال ابن زيد : بإمامهم أى بكتابهم الذى أنزل على نبيهم من التشريع ، واختاره ابن جرير . . .
وروى العوفى عن ابن عباس فى قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أى : بكتاب أعمالهم . . .
وهذا القول هو الأرجح لقوله - تعالى - : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } وقال - تعالى - : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } ويحتمل أن المراد بإمامهم : أن كل قوم بمن يأتمون به ، فأهل الإِيمان ائتموا بالأنبياء - عليهم السلام - ، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم فى الكفر . . .
وفى الصحيحين : " لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت . . . " الحديث . . .
ثم قال - رحمه الله - ولكن المراد ههنا بالإِمام ، هو كتاب الأعمال .
والمعنى : واذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - يوم ندعو كل أناس من بنى آدم الذين كرمناهم وفضلناهم على كثير من خلقنا ، بكتاب أعمالهم الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الذين أخلصوا دينهم لله فقال - تعالى - : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
أى : فمن أوتى من بنى آدم يوم القيامة ، كتابه بيمينه ، بأن ثقلت موازين حسناته على سيئاته ، فأولئك السعداء يقرءون كتابهم بسرور وابتهاج ، ولا ينقصون من أجورهم قدر فتيل ، وهو الخيط المستطيل فى شق النواة ، وبه يضرب المثل فى الشئ القليل و { من } فى قوله { فمن أوتى } يجوز أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، ودخلت الفاء فى الخبر وهو { فأولئك } لشبهه بالشرط .
وجاء التعبير فى قوله { أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } بالإِفراد ، حملا على لفظ من ، وجاء التعبير بالجمع فى { أولئك } حملا على معناها .
وفى قوله - سبحانه - { بيمينه } تشريف وتبشير لصاحب هذا الكتاب الملئ بالإِيمان والعمل الصالح وقال - سبحانه - : { فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ } بالإِظهار ، ولم يقل : يقرءونه ، لمزيد العناية بهؤلاء السعداء ، ولبيان أن هذا الكتاب تبتهج النفوس بتكرار اسمه .
ومن التكريم أن يكون الإنسان قيما على نفسه ، محتملا تبعة اتجاهه وعمله . فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا . حرية الاتجاه وفردية التبعة . وبها استخلف في دار العمل . فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب :
( يوم ندعو كل أناس بإمامهم . فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ) .
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . .
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة . وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته ، أو الرسول الذي اقتدت به ، أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا . تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة . . فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه ، ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة !
وقوله تعالى { يوم ندعو } الآية ، يحتمل قوله { يوم } أن يكون منصوباً على الظرف ، والعامل فيه : فعل مضمر تقديره أنكر{[7638]} ، أو فعل يدل عليه ، قوله { ولا يظلمون } تقديره «ولا يظلمون يوم ندعو » . ثم فسره { يظلمون } الأخير ، ويصح أن يعمل فيه { وفضلناهم } ، وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن ، لأنهم المنعمون المكلمون المحاسبون الذين لهم القدر ، إما أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر ؛ يا ليتني كنت تراباً{[7639]} ، ولا يعمل فيه { ندعو } لأنه مضاف إليه ، ويحتمل أن يكون { يوم } منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله { فمن أوتي } إلى قوله { ومن كان }{[7640]} . وقرأ الجمهور «ندعو » بنون العظمة ، وقرأ مجاهد «يدعو » ، بالياء على معنى يدعو الله ورويت عن عاصم .
وقرأ الحسن «يُدعو » بضم الياء وسكون الواو ، وأصلها يدعى ولكنها لغة لبعض العرب ، يقلبون هذه الألف واواً ، فيقولون افعو حبلو{[7641]} ، ذكرها أبو الفتح وأبو علي في ترجمة أعمى بعد وقرأ الحسن : «كل » بالرفع ، على معنى يدعى كل ، وذكر أبو عمرو الداني عن الحسن ، أنه قرأ «يدعى كل » { أناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وقوله { بإمامهم } يحتمل أن يريد باسم إمامهم ، ويحتمل أن يريد مع إمامهم ، فعلى التأويل الأول : يقال يا أمة محمد ، ويا أتباع فرعون ، ونحو هذا ، وعلى التأويل الثاني : تجيء كل أمة معها إمامها ، من هاد أو مضل ، واختلف المفسرون في «الإمام » ، فقال مجاهد وقتادة : نبيهم ، وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليهم ، وقال ابن عباس والحسن : كتابهم الذي فيه أعمالهم ، وقالت فرقة : متبعهم ، من هاد أو مضل ، ولفظة «الإمام » تعم هذا كله ، لأن الإمام هو ما يؤتم به ويهتدي به في المقصد ، ومنه قيل لخيط البناء إمام ، قال الشاعر يصف قدحاً : [ الطويل ]
وقومته حتى إذا تم واستوى . . . كمخة ساق أو كمتن إمام{[7642]}
ومنه قيل للطريق إمام ، لأنه يؤتم به في المقاصد حتى ينهي إلى المراد وقوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } حقيقة في أن يوم القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الأيمان لأهل الإيمان ، وفي الشمائل لأهل الكفر ، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد ، فسيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار ، وقوله { يقرؤون كتابهم } عبارة عن السرور بها أي يرددنها ويتأملونها ، وقوله { ولا يظلمون فتيلاً } أي ولا أقل ولا أكثر ، فهذا هو مفهوم الخطاب حكم المسكوت عنه كحكم المذكور . كقوله تعالى { فلا تقل لهما أف }{[7643]} وكقوله { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }{[7644]} وهذا كثير ومعنى الآية : أنهم لا يبخسون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئاً ، و «الفتيل » هو الخيط الذي في شق نواة التمرة يضرب به المثل في القلة وتفاهة القدر .
انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله : { ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر } إلى قوله : { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } [ الإسراء : 66 69 ] إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيراً وإنذاراً ، فالكلام استئناف ابتدائي ، والمناسبة ما علمتَ . ولا يحسن لفظ ( يومَ ) للتعلق بما قبله من قوله : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [ الإسراء : 70 ] على أن يكون تخلصاً من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل ، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافاً ابتدائياً ، ففتحة { يوم } إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية وهو فِعل « اذكر » فيكون { يوم } هنا اسمَ زمان مفعولاً للفعل المقدر وليس ظرفاً .
والفاء في قوله : { فمن أوتي } للتفريع لأن فعْل ( اذكر ) المقدر يقتضي أمراً عظيماً مجملاً فوقع تفصيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل يتفرع على الإجمال .
وإما أن تكون فتحته فتحةَ بناء لإضافته اسم الزمان إلى الفعل ، وهو إما في محل رفع بالابتداء ، وخبره جملة { فمن أوتي كتابه بيمينه } . وزيدت الفاء في الخبر على رأي الأخفش ، وقد حكى ابن هشام عن ابن بَرهان أن الفاء تزاد في الخبر عند جميع البصريين ما عدا سيبويه ؛ وإما ظرف لفعل محذوف دل عليه التقسيم الذي بعده ، أعني قوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } إلى قوله : { وأضل سبيلاً } . وتقدير المحذوف : تتفاوت الناس وتتغابَن . وبُيّن تفصيل ذلك المحذوف بالتفريع بقوله : { فمن أوتي كتابه } الخ .
والإمام : ما يؤتم به ، أي يُعمل على مِثل عمله أو سيرته . والمراد به هنا مبين الدين : من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة .
ومعنى دعاء الناس أن يُدعى يا أمةَ فلان ويا أتباعَ فلان ، مثل : يا أمة محمد ، يا أمةَ موسى ، يا أمة عيسى ، ومثل : يا أمة زَرادشت . ويا أمةَ برْهَما ، ويا أمةَ بُوذا ، ومثل : يا عبدة العزى ، يا عبدة بَعل ، يا عبدةَ نَسْر .
والباء لتعدية فعل { ندعوا } لأنه يتعدى بالباء ، يقال : دعوته بكنيته وتدَاعَوا بِشعارهِم .
وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجيلُ بالمسرة لاتباع الهُداة وبالمساءة لاتباع الغُواة ، لأنهم إذا دُعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم .
وفرع على هذا قوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } تفريع التفصيل لما أجمله قوله : { ندعوا كل أناس بإمامهم } ، أي ومن الناس من يُؤتى كتابه ، أي كتاب أعماله بيمينه .
وقوله : { فمن أوتي } عطف على مقدر يقتضيه قوله : { ندعوا كل أناس بإمامهم } أي فيؤتَوْن كتبهم ، أي صحائف أعمالهم .
وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين . وتلك علامة عناية بالمأخوذ ، لأن اليمين يأخذ بها من يعْزم عملاً عظيماً قال تعالى : { لأخذنا منه باليمين } [ الحاقة : 45 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقاها الرحمان بيَمينه وكلتَا يديْه يَمين . . . " الخ ، وقال الشمّاخ :
إذا ما رايةٌ رفعت لمجد *** تلقاها عَرابة باليمين
وأما أهل الشقاوة فيؤتَون كتبهم بشمائلهم ، كما في آية [ الحاقة : 25 ] { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه } .
والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب ( أما ) ، للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرؤون كتابهم ، لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخَير والجزاء عليْه مسرة لهم ونعيماً بتذكر ومعرفة ثوابه ، وذلك شأن كل صحيفة تشتمل على ما يسر وعلى تذكر الأعمال الصالحة ، كما يطالع المرء أخبار سلامة أحبائه وأصدقائه ورفاهة حالهم ، فتوفرُ الرغبة في قراءة أمثال هذه الكتب شنشنة معروفة .
وأما الفريق الآخر فسكت عن قراءة كتابهم هنا . وورد في الآية التي قبلها في هذه السورة { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 13 14 ] .
والظلم مستعمل هنا بمعنى النقص كما في قوله تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } [ الكهف : 33 ] ، لأن غالب الظلم يكون بانتزاع بعض ما عند المظلوم فلزمه النقصان فأطلق عليه مجازاً مرسلاً . ويفهم من هذا أن ما يعطاه من الجزاء مما يرغب الناس في ازدياده .
والفتيل : شبه الخَيط تكون في شق النواة وتقدم في قوله تعالى : { بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا } في سورة [ النساء : 49 ] ، وهو مثَل للشيء الحقير التافه ، أي لا ينقصون شيئاً ولو قليلاً جداً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم ندعوا كل أناس بإمامهم}، يعني: كل أمة بكتابهم الذي عملوا في الدنيا من الخير والشر، مثل قوله عز وجل في يس: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [يس:12]، وهو اللوح المحفوظ،
{فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم} الذي عملوه في الدنيا،
{ولا يظلمون فتيلا}، يعني: بالفتيل القشر الذي يكون في شق النواة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت أهل التأويل في معنى الإمام الذي ذكر الله جلّ ثناؤه أنه يدعو كلّ أناس به؛ فقال بعضهم: هو نبيّه، ومن كان يُقتدى به في الدنيا ويُؤتمّ به...
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يدعوهم بكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
وقال آخرون: بل معناه: يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الذي أنزلت عليهم فيه أمري ونهيي
وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتمُّون به في الدنيا، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما ائتمّ واقتدي به، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر أولى ما لم تثبت حجة بخلافه يجب التسليم لها.
وقوله:"فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ" يقول: فمن أعطي كتاب عمله بيمينه "فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ "ذلك حتى يعرفوا جميع ما فيه "وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا" يقول تعالى ذكره: ولا يظلمهم الله من جزاء أعمالهم فتيلا وهو المنفتل الذي في شقّ بطن النواة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَمَنْ أُوتَىَ كِتَابَهُ بِيَمِنِهِ فَأَوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ}: لكمالِ صحوهم وقيادة عقلهم، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفِهم وتَرَدّدِهم لا يقرأون كتابهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرأون كتابهم؟ قلت: بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أمام التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول؛ فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرأون كتابهم أحسن قراءة وأبينها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قرر سبحانه قدرته على التفضيل في الحياة الحسية والمعنوية، والمفاضلة بين الأشياء في الشيئين فثبتت بذلك قدرته على البعث، وختم ذلك بتفضيل البشر، وكان يوم الدين أعظم يوم يظهر في التفضيل، أبدل من قوله {يوم يدعوكم} مرهباً من سطواته في ذلك اليوم، ومرغباً في اقتناء الفضائل في هذا اليوم قوله تعالى: {يوم ندعوا} أي بتلك العظمة {كل أناس} أي منكم {بإمامهم} أي بمتبوعهم الذي كانوا يتبعونه، فيقال: يا أتباع نوح! يا أتباع إبراهيم! يا أتبا ع موسى! يا أتباع عيسى! يا أتباع محمد! فيقومون فيميز بين محقيهم ومبطليهم، ويقال: يا أتباع الهوى! يا أتباع النار! يا أتباع الشمس! يا أتباع الأصنام! ونحو هذا، أو يكون المراد بسبب أعمالهم التي ربطناهم بها ربط المأموم بإمامه كما قال تعالى {وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه} وسماها إماماً لكونهم أموها واجتهدوا في قصدها، وندفع إليهم الكتب التي أحصت حفظتنا فيها تلك الأعمال {فمن أوتي} منهم من مؤتٍ ما {كتابه بيمينه} فهم البصراء القلوب لتقواهم وإحسانهم، وهم البصراء في الدنيا، ومن كان في هذه الدنيا بصيراً فهو في الآخرة أبصر وأهدى سبيلاً {فأولئك} أي العالو المراتب {يقرءون كتابهم} أي يجددون قراءته ويكررونها سروراً بما فيه كما هو دأب كل من سر بكتاب {ولا يظلمون} بنقص حسنة ما من ظالم ما {فتيلاً} أي شيئاً هو في غاية القلة والحقارة، بل يزادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاء الأعمال، ومن أوتي كتابه بشماله فهو لا يقرأ كتابه لأنه أعمى في هذه الدار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة. وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته، أو الرسول الذي اقتدت به، أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا. تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة.. فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرأه ويتملاه، ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر} إلى قوله: {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} [الإسراء: 66 69] إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيراً وإنذاراً، فالكلام استئناف ابتدائي، والمناسبة ما علمتَ. ولا يحسن لفظ (يومَ) للتعلق بما قبله من قوله: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء: 70] على أن يكون تخلصاً من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافاً ابتدائياً، ففتحة {يوم} إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية وهو فِعل « اذكر» فيكون {يوم} هنا اسمَ زمان مفعولاً للفعل المقدر وليس ظرفاً.
والفاء في قوله: {فمن أوتي} للتفريع لأن فعْل (اذكر) المقدر يقتضي أمراً عظيماً مجملاً فوقع تفصيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل يتفرع على الإجمال...
والإمام: ما يؤتم به، أي يُعمل على مِثل عمله أو سيرته. والمراد به هنا مبين الدين: من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة.
ومعنى دعاء الناس أن يُدعى: يا أمةَ فلان ويا أتباعَ فلان، مثل: يا أمة محمد، يا أمةَ موسى، يا أمة عيسى، ومثل: يا أمة زَرادشت. ويا أمةَ برْهَما، ويا أمةَ بُوذا، ومثل: يا عبدة العزى، يا عبدة بَعل، يا عبدةَ نَسْر.
والباء لتعدية فعل {ندعوا} لأنه يتعدى بالباء، يقال: دعوته بكنيته وتدَاعَوا بِشعارهِم.
وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجيلُ بالمسرة لاتباع الهُداة وبالمساءة لاتباع الغُواة، لأنهم إذا دُعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم.
وفرع على هذا قوله: {فمن أوتي كتابه بيمينه} تفريع التفصيل لما أجمله قوله: {ندعوا كل أناس بإمامهم}، أي ومن الناس من يُؤتى كتابه، أي كتاب أعماله بيمينه.
وقوله: {فمن أوتي} عطف على مقدر يقتضيه قوله: {ندعوا كل أناس بإمامهم} أي فيؤتَوْن كتبهم، أي صحائف أعمالهم.
وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين. وتلك علامة عناية بالمأخوذ، لأن اليمين يأخذ بها من يعْزم عملاً عظيماً...
وأما أهل الشقاوة فيؤتَون كتبهم بشمائلهم، كما في آية [الحاقة: 25] {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه}.
والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب (أما)، للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرأون كتابهم، لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخَير والجزاء عليْه مسرة لهم ونعيماً بتذكر ومعرفة ثوابه، وذلك شأن كل صحيفة تشتمل على ما يسر وعلى تذكر الأعمال الصالحة، كما يطالع المرء أخبار سلامة أحبائه وأصدقائه ورفاهة حالهم، فتوفرُ الرغبة في قراءة أمثال هذه الكتب شنشنة معروفة.
وأما الفريق الآخر فسكت عن قراءة كتابهم هنا. وورد في الآية التي قبلها في هذه السورة {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 13 14].
والظلم مستعمل هنا بمعنى النقص كما في قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33]، لأن غالب الظلم يكون بانتزاع بعض ما عند المظلوم فلزمه النقصان فأطلق عليه مجازاً مرسلاً. ويفهم من هذا أن ما يعطاه من الجزاء مما يرغب الناس في ازدياده.
والفتيل: شبه الخَيط تكون في شق النواة وتقدم في قوله تعالى: {بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا} في سورة [النساء: 49]، وهو مثَل للشيء الحقير التافه، أي لا ينقصون شيئاً ولو قليلاً جداً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الواضح أنّ كلمة (إمام) في هَذا المكان لها معنى أوسع، وتشمل أية قيادة سواء تمثَّلت بالأنبياء أو أئمّة الهدى أو العلماء أو الكتاب والسنة. وَيدخل في معنى الكلمة أيضاً أئمّة الكفر والضلال، وَبهذا الترتيب فإنَّ كل إنسان سيسلك في الآخرة مسار القائد الذي انتخبه لنفسه في الدنيا إماما وقائداً...