{ 117 - 118 } { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } فغفر لهم الزلات ، ووفر لهم الحسنات ، ورقاهم إلى أعلى الدرجات ، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات ، ولهذا قال : { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } أي : خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة " تبوك " {[386]} وكانت في حر شديد ، وضيق من الزاد والركوب ، وكثرة عدو ، مما يدعو إلى التخلف .
فاستعانوا اللّه تعالى ، وقاموا بذلك { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } أي : تنقلب قلوبهم ، ويميلوا إلى الدعة والسكون ، ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم . وزَيْغُ القلب هو انحرافه عن الصراط المستقيم ، فإن كان الانحراف في أصل الدين ، كان كفرا ، وإن كان في شرائعه ، كان بحسب تلك الشريعة ، التي زاغ عنها ، إما قصر عن فعلها ، أو فعلها على غير الوجه الشرعي .
وقوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي : قبل توبتهم { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة ، وقبلها منهم وثبتهم عليها .
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده المؤمنين ، حيث تقبل توبتهم ، وتجاوز عن زلاتهم ، فقال - تعالى - : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي . . . . } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك ، وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه فيما سبق ، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقى من أحكامها ، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجرى مجرى ترك الأولى ، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة ، فذكر - سبحانه - أنه تفضل عليهم ، وتاب عليهم ، في تلك الزلات ، فقال - تعالى - : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار } .
وللعلماء أقوال في المراد بالتوبة التي تابها الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - وعلى المهاجرين والأنصار : فمنهم من يرى أن المرد بها قبول توبتهم ، وغفران ذنوبهم ، والتجاوز عن زلاتهم التي حدثت منهم في تلك الغزوة أو في غيرها ، وإلى هذا المعنى أشارة القرطبى بقوله :
قال ابن عباس : كانت التوبة على النبى - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنه أذن للمنافقين في القعود ، بدليل قوله - سبحانه - قبل ذلك : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . . } وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه - أى : إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك .
ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها ، والحض على تجديدها ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال : { تَابَ الله على النبي } كقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وكقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبى والمهاجرين والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . .
ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا : دوامها لا أصلها ، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : لقد تاب الله على النبى . . " أى : أدام توبته على النبى والمهاجرين والأنصار . وهذا جواب عما يقال : من أن النبى معصوم من الذبن ، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا في هذه القضية ، بل اتبعوه من غير تلعثم ، قلنا : المراد بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها . . " .
ومنهم من يرى أن ذكر النبى هنا إنما هو من باب التشريف ، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات . وقد وضح هذا المعنى الإِمام الآلوسى فقال : قال أصحاب المعانى : المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار ، إلا أنه جئ في ذلك بالنبى - صلى الله عليه وسلم - تشريفا لهم ، وتعظيما لقدرهم ، وهذا كما قالوا في ذكره - تعالى - في قوله :
{ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية أى : عفا - سبحانه - عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم حنين . .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله - تعالى - على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت في هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ، وبمقتضى الاجتهاد في أمور لم يبين الله - تعالى - حكمه فيها ، فهى لا تنقص من منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من منزلة أصحابه الصادقين في إيمانهم .
والمعنى : لقد تقبل الله - تعالى - توبة النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار ، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص في ساعة العسرة . أى في وقت الشدة والضيق ، وهو وقت غزوة تبوك ، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت .
وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، كما كان الجيش الذي اشترك فيها يسمى بجيش العسرة ، وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها في مجدبة ، وحر شديد ، وفقر في الزاد والماء والراحلة .
قال ابن كثير : قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر في الزاد والماء .
وقال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر - أى شدته - على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم تعب شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما .
وقال الحسن : كان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحداً . يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك ، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ، ثم يشر عليها جرعة من الماء . . ومضوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - على صدقهم ويقينهم - رضى الله عنهم .
وقوله : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } بيان لتناهى الشدة ، وبلوغها الغاية القصوى .
أى : تاب - سبحانه - على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب .
وفى ذكر { فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار ، مضوا معه - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد في قوة إيمانهم وصدق يقينهم ، وضماء عزيمتهم ، وشدة إخلاصهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : وفى " كاد " ضمير الشأن و " قلوب " فاعل " يزيغ " والجملة في موضع الخبر لكاد . . وهذا على قراءة " يزيغ " بالياء ، وهى قراءة حمزة ، وحفص والأعمش .
وأما على قراء " تزيغ " بالتاء ، وهى قراءة الباقين . فيحتمل أن يكون " قلوب " اسم كان " وتزيغ " خبرها ، وهي ضمير يعود على اسمها .
وقوه : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم . ولطفه بهم .
أى : ثم تاب عليهم - سبحانه - بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس . إنه بهم رءوف رحيم .
قال بعضهم : فإن قلت : قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار ؟
قلت : إنه - سبحانه - ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه - تعالى - قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم ، ثم أتبعه بقوله - سبحانه - { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تأكيدا لذلك . والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع .
وقال القرطبى : قوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وتلك سنة الحق - سبحانه - مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك ، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم .
منك أرجوا ولست أعرب ربا . . . يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأر . . . ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجو . . . ع ، وصروا على الذنوب ولجوا
ولما كانت تلك طبيعة البيعة ، كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أياً كانت الأسباب - أمراً مستنكراً عظيماً ؛ وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها . . وفي الآيات التالية يبين مدى فضل اللّه ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين ، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من اخطاء صغرت أم كبرت . . كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم - وهم المرجون لأمر اللّه الذين سبق ذكرهم - حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان :
( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ، من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا . إن اللّه هو التواب الرحيم ) .
وتوبة اللّه على النبي - [ ص ] - تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها ؛ والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال اللّه عنه لنبيه : ( عفا اللّه عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) . . ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم . وقد عفا اللّه عنه في اجتهاده
[ ص ] - مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين !
وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى : ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) . . وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل - وهم من خلص المؤمنين - وبعضهم استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم ! ثم ثبت اللّه قلبه ومضى بعد تردد .
ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر اللّه - سبحانه - أنه كان ( ساعة العسرة ) . ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها [ ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام ، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي ، ومن البداية والنهاية لابن كثير ، ومن تفسير ابن كثير ] :
لما نزل قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . . )أمر رسول اللّه - [ ص ] - أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم [ ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريراً للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن ] وذلك في زمن عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاء ، وحين طابت الثمار ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه . وكان رسول اللّه - [ ص ] - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها ، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له [ أي يقصد إليه ] إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس ، لبعد الشقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو الذي يصمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته . فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنه يريد الروم .
واستأذن بعض المنافقين رسول اللّه - [ ص ] - في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم ! فأذن ! وفي هذا نزل عتاب اللّه لنبيه في الإذن مصدراً بالعفو عنه في اجتهاده :
( عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ? ) . .
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض : لا تنفروا في الحر - زهادة في الجهاد ، وشكاً في الحق ، وإرجافاً برسول اللّه - [ ص ] - فأنزل اللّه تبارك وتعالى فيهم :
( وقالوا : لا تنفروا في الحر ، قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون ) .
وبلغ رسول اللّه - [ ص ] - أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي ، يثبطون الناس عن رسول اللّه - [ ص ] - في غزوة تبوك ؛ فبعث إليهم النبي - [ ص ] - طلحة ابن عبيد اللّه في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة ، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه فأفلتوا . ثم تاب الضحاك .
ثم إن رسول اللّه - [ ص ] - جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع . وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون ؛ فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند اللّه . وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين ، عثمان بن عفان - رضي اللّه عنه - فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها . . قال ابن هشام : فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار ، فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض " . وقال عبد اللّه بن أحمد في مسند أبيه -بإسناده - عن عبد الرحمن بن حباب السلمي ، قال : خطب النبي - [ ص ] - فحث على جيش العسرة ، فقال عثمان بن عفان : عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها . قال : ثم نزل مرقاة من المنبر ، ثم حث ، فقال عثمان : عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها . قال : فرأيت رسول اللّه - [ ص ] - يقول بيده هكذا يحركها [ وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب ] : " ما على عثمان ما عمل بعد هذا " . . [ وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي ، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به . وقال : غريب من هذا الوجه ] . ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به ، وقال : ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها . .
وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير ، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال : حث رسول اللّه - [ ص ] - على الصدقة [ يعني في غزوة تبوك ] فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف [ أي درهم ] ، فقال يا رسول اللّه ، ما لي ثمانية آلاف ، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها . فقال : " بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " . وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال : يا رسول اللّه أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون ، وقالوا : ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء . وقالوا ألم يكن اللّه ورسوله غنيين عن صاع هذا ? !
وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل [ وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول اللّه - [ ص ] - ] إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه !
ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه - [ ص ] - وهم البكاءون . وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فاستحملوا رسول اللّه - [ ص ] - [ أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة ] ، وكانوا أهل حاجة . فقال : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) . فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .
قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد اللّه بن مغفل [ من السبعة البكائين ] وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما ? قال : جئنا رسول اللّه - [ ص ] - ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه . فأعطاهما ناضحاً له [ أي جملاً يستقي عليه الماء ] فارتحلاه . وزودهما شيئاً من تمر ، فخرجا مع رسول اللّه [ ص ] .
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق : وأما علبة بن زيد [ أحد البكائين ] فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء اللّه ، ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض . . ثم أصبح مع الناس . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " أين المتصدق هذه الليلة ? " فلم يقم أحد ! ثم قال : " أين المتصدق ? فليقم " فقام إليه فأخبره . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " أبشر ، فوالذي نفسي بيده ، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة " . .
ثم خرج رسول اللّه - [ ص ] - بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفاً من أهل المدينة ومن قبائلالأعراب من حولها . وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب ، منهم : كعب ابن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية [ وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم ] وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي . . وضرب رسول اللّه - [ ص ] - عسكره على " ثنية الوداع " وضرب عبد اللّه بن أبي - رأس النفاق - عسكره على حدة ، أسفل منه ، قال ابن إسحاق : [ وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين ] . . ولكن الروايات الأخرى تقول : إن الذين تخلفوا فعلاً دون المائة . . فلما سار رسول اللّه - [ ص ] - تخلف عنه عبد اللّه بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب .
ثم مضى رسول اللّه - [ ص ] - سائراً ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول اللّه ، تخلف فلان ، فيقول : " دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه تعالى بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه " حتى قيل : يا رسول اللّه ، قد تخلف أبو ذر ، وأبطأ به بعيره ، فقال : " دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه " . وتلوم أبو ذر على بعيره [ أي انتظر عليه ] ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه - [ ص ] - ماشياً . ونزل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول اللّه ، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو ذر . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " رحم اللّه أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " .
ثم إن أبا خيثمة رجع - بعد أن سار رسول اللّه [ ص ] أياماً - إلى أهله في يوم حار ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه [ أي في حديقته ] قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت له فيه ماء . وهيأت له فيه طعاماً . فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول اللّه - [ ص ] - في الضحَ [ أي الشمس ] والريح والحر ، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ? ! ما هذا بالنصف ! ثم قال : واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه - [ ص ] - فهيئا لي زاداً . ففعلتا . ثم قدم ناضحه فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول اللّه - [ ص ] - حتى أدركه حين نزل تبوك . . وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول اللّه - [ ص ] - فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول اللّه - [ ص ] - ففعل . حتى إذا دنا من رسول اللّه - [ ص ] - وهو نازل بتبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " كن أبا خيثمة " . فقالوا : يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اللّه - [ ص ] - فقال له رسول اللّه [ ص ] " أولى لك يا أبا خيثمة ! " . ثم أخبر رسول اللّه - [ ص ] - الخبر . فقال له رسول اللّه - [ ص ] - خيرا ، ودعا له بخير .
قال ابن إسحاق : وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : " مُخشن بن حُمير " [ قال ابن هشام : ويقال : مخشى ] يشيرون إلى رسول اللّه - [ ص ] - وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر[ يعنون الروم ] كقتال العرب بعضهم بعضاً ? واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال . . إرجافاً وترهيباً للمؤمنين . . فقال مخشن بن حمير : واللّه لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وقد قال رسول اللّه [ ص ] - فيما بلغني - لعمار بن ياسر : " أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا " . فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول اللّه - [ ص ] - يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ، ورسول اللّه - [ ص ] - واقف على ناقته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها [ وهو الحبل يشد على بطن البعير ] يا رسول اللّه ، إنما كنا نخوض ونلعب . فأنزل اللّه عز وجل : ( ولئن سألتهم ليقولن : إنما كنا نخوض ونلعب . قل : أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ? )وقال مخشن بن حمير : يا رسول اللّه ، قعد بي اسمي واسم أبي ! وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير . فتسمى عبد الرحمن . وسأل اللّه تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر . .
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : لما قفل رسول اللّه - [ ص ] من تبوك - بعدما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حرباً - هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به ، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق ، فأخبر بخبرهم ، فأمر الناس بالمسير من الوادي ، وصعد هو العقبة ، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا ، وأمر رسول اللّه - [ ص ] - عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه . عمار آخذ بزمام الناقة ، وحذيفة يسوقها ؛ فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم ، فغضب رسول اللّه - [ ص ] - وأبصر حذيفة غضبه ، فرجع إليهم ومعه محجن ، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه ، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم ؛ فأسرعوا حتى خالطوا الناس ؛ وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول اللّه - [ ص ] - فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ، ووقفوا ينتظرون الناس . ثم قال رسول اللّه - [ ص ] - لحذيفة : " هل عرفت هؤلاء القوم ? " قال : ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم . ثم قال : " علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب ? " قالا : لا . فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه ، وسماهم لهما ، واستكتمهما ذلك ، فقالا : يا رسول اللّه ، أفلا تأمر بقتلهم ? فقال : " أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " . .
قال ابن كثير في البداية والنهاية :
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي - [ ص ] - إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده . وهذا هو الأشبه ، واللّه أعلم . .
فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها . . قال ابن كثير في التفسير :
قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية : ( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم ) . . في غزوة تبوك . وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء . . قال قتادة : خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر ، على ما يعلم اللّه من الجهد ، فأصابهم فيها جهد شديدحتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب اللّه عليهم وأقفلهم من غزوتهم .
وروى ابن جرير - بإسناده - إلى عبد اللّه بن عباس : أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول اللّه - [ ص ] - إلى تبوك ، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده .
وقال ابن جرير في قوله : ( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة )- أي من النفقة والظهر والزاد والماء - ( من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم )- أي عن الحق ، ويشك في دين الرسول - [ ص ] ويرتاب للذي نالهم من المشقة ولشدة في سفرهم وغزوهم - ( ثم تاب عليهم ) يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه ( إنه بهم رؤوف رحيم ) . .
ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت( العسرة )كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة ؛ يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية ؛ من اليقين الجاد عند طائفة . إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة . إلى القعود والتخلف - بغير ريبة - عند طائفة . إلى النفاق الناعم عند طائفة . إلى النفاق الفاجر عند طائفة . إلى النفاق المتآمر عند طائفة . . مما يشي أولاً بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة ؛ ويشي ثانياً بمشقة الغزوة - في مواجهة الروم ومع العسرة - هذه المشقة الممحصة . الممتحنة الكاشفة ؛ والتي لعل اللّه سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز .
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى : ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا } إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده . { الذين اتبعوه في ساعة العُسرة } في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا القيظ . { من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم } عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وفي { كاد } ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في { منهم } . وقرأ حمزة وحفص { يزيغ } بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي . وقرئ " من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم " يعني المتخلفين . { ثم تاب عليهم } تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة ، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم . { إنه بهم رءوف رحيم } .
«التوبة » من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها ، فقد تكون في الأكثر رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله ، وأما توبته عل «المهاجرين والأنصار » فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا ، و { اتبعوه } معناه : دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، وقوله { في ساعة العسرة } ، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن ، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلَّ من الزمن كالقطعة من النهار .
ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية » الحديث{[5950]} ، فهي هنا بتجوز ، ويمكن أن يريد بقوله { في ساعة العسرة } الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله ، وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين «في ساعة عسرة » و { العسرة } الشدة وضيق الحال والعدم ، ومنه قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة }{[5951]} وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه : «من جهز جيش العسرة فله الجنة »{[5952]} فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلب الدنانير بيده وقال : «وما على عثمان ما عمل بعد هذا » ، وجاء أيضاً رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر{[5953]} ، وقال مجاهد وقتادة : إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين ، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر ، وحينئذ قال رجل من المنافقين : وهل هذه إلا سحابة مرت ؟{[5954]} ، وكانت الغزوة في شدة الحر ، وكان الناس كثيراً ، فَقَّل الَّظْهر فجاءتهم العسرة من جهات ، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة{[5955]} وغيرهما على الجزية ونحوهما ، وانصرف وأما «الزيغ » الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه ، فقيل همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة ، قاله الحسن ، وقيل زيغها إنما بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود ، وقرأ جمهور الناس وأبو بكر عن عاصم «تزيغ » بالتاء من فوق على لفظ القلوب .
وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الدال في التاء ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم والأعمش والجحدري «يزيغ » بالياء على معنى جمع القلوب ، وقرأ ابن مسعود «من بعد ما زاغت قلوب فريق » وقرأ أبي بن كعب «من بعد ما كادت تزيغ » وأما كان فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء أولها وأقواها القصة والشأن هذا مذهب سيبويه ، وترتفع «القلوبُ » على هذا ب «تزيغ » والثاني أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولاً ، ويقدر ذلك القوم فكأنه قال من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوبهم فريق منهم ، والثالث أن يرتفع بها «القلوب » ويكون في قوله «تزيغ » ضمير «القلوب » ، وجاز ذلك تشبيهاً بكان في قوله { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين }{[5956]} وأيضاً فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير ، وشبهت { كاد } ب «كان » للزوم الخبر لها ، قال أبو علي ولا يجوز ذلك في عسى{[5957]} .
ثم أخبر عز وجل أنه تاب أيضاً على هذا الفريق وراجع به ، وأنس بإعلامه للأمة بأنه { رؤوف رحيم } والثلاثة هم كعب بن مالك{[5958]} وهلال بن أمية الواقفي{[5959]} ومرارة بن الربيع العامري ويقال ابن ربيعة ويقال ابن ربعي{[5960]} ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم{[5961]} وهو في السير ، فلذلك اختصرنا سوقه ، وهم الذين تقدم فيهم { وآخرون مرجون } [ الآية : 106 ] .