ثم قال تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : دلنا وأرشدنا ، ووفقنا للصراط المستقيم ، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله ، وإلى جنته ، وهو معرفة الحق والعمل به ، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط . فالهداية إلى الصراط : لزوم دين الإسلام ، وترك ما سواه من الأديان ، والهداية في الصراط ، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا . فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته ، لضرورته إلى ذلك .
ثم بين - سبحانه - أن أفضل شئ يطلبه العبد من ربه ، إنما هو هدايته إلى الطريق الذى يوصل إلى أسمى الغايات ، وأعظم المقاصد ، فقال - تعالى - : { اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } ، والهداية : هى الإِرشاد والدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية ، وتسند الهداية إلى الله وإلى النبى وإلى القرآن ، وقد يراد منها الإِيصال إلى ما فيه خير ، وهى بهذا المعنى لا تضاف إلى الله - تعالى - .
قال أبو حيان فى البحر ما ملخصه : وقد تأتى بمعنى التبيين كما فى قوله - تعالى - { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } أى بينا لهم طريق الخير . أو بمعنى الإِلهام كما فى قوله تعالى . { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } قال المفسرون معناه : ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها ، أو بمعنى الدعاء كما فى قوله . تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أى : داع . والأصل فى هدى أن يصل إلى ثانى معموليه باللام كما فى قوله . تعالى . { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أو بإلي كما فى قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه ومنه : { اهدنا الصراط المستقيم } .
والصراط : الجادة والطريق ، من سَرط الشئ إذا ابتلعه ، وسمى الطريق بذلك لأنه يبتلع المارين فيه ، وتبدل سينه صاد على لغة قريش .
والمسقيم : المعتدل الذى لا اعوجاج فيه .
وأنعمت عليهم : النعمة لين العيش وخفضه ، ونعم الله كثيرة لا تحصى
{ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } الغضب هيجان النفس وثورتها ، عند الميل إلى الانتقام ، وهو ضد الرضا . وإذا أسند إلى الله فسر بمعنى إرادة الانتقام أو بمعنى الانتقام نفسه .
والموافق لمذهب السلف أن يقال : هو صفة له - تعالى - لائقة بجلاله لا نعلم حقيقتها مجردة عن اللوازم البشرية وإنما نعرف أثرها وهو الانتقام من العصاة ، وإنزال العقوبة بهم . والمعنى : اهدنا يا ربنا إلى طريقك المستقيم ، الذى يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة ، ويجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من خلقك ، وجنبنا يا مولانا طريق الذين غضبت عليهم من الأمم السابقة أو الأجيال اللاحقة بسبب سوء أعمالهم وطريق الذين هاموا فى الضلالات ، فانحرفوا عن القصد ، وحق عليهم العذاب . وفى هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب ، لأن هذا الدعاء قد تضرع به المؤمنون إلى خالقهم بعد أن اعترفوا له - سبحانه - قبل ذلك بأنه هو المستحق لجميع المحامد ، وأنه هو رب العالمين ، والمتصرف فى أحوالهم يوم الدين .
قال الإِمام ابن كثير : وهذا أكمل أحوال السائل . أن يمدح مسئوله ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } لأنه أنجح للحاجة ، وأنجع للإِجابة ، ولهذا أرشدنا الله إليه لأنه الأكمل .
وقد تكلم المفسرون كلامًا كثيرًا عن المراد بالصراط المستقيم الذى جعل الله طلب الهداية إليه فى هذا السورة أول دعوة علمها لعباده . والذى نراه : أن أجمع الأقوال فى ذلك أن المراد بالصراط المستقيم ، هو ما جاء به الإِسلام من عقائد وآداب وأحكام ، توصل الناس متى اتبعوها إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فإن طريق السلام هو الطريق الذى ختم الله به الرسالات السماوية ، وجعل القرآن دستوره الشامل ، ووكل إلى النبى صلى الله عليه وسلم أمر تبليغه وبيانه . وقد ورد فى الأحاديث النبوية ما يؤيد هذا القول ، ومن ذلك ما أخرجه الإِمام أحمد فى مسنده ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعلى جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإِنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال له : ويحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإِسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعى من فوق الصراط واعظ الله فى قلب كل مسلم " . والمراد بقوله - تعالى - { اهدنا الصراط المستقيم } أى : ثبتنا عليه ، واجعلنا من المداومين على السير فى سبيله ، فإن العبد مفتقر إلى الله فى كل وقت لكى يثبته على الهداية ، ويزيده منها ، ويعينه عليها .
وقد أمر سبحانه المؤمنين أن يقولوا : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب }
وبعد تقرير تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي ؛ وتقرير الاتجاه إلى الله وحده بالعبادة والاستعانة . . يبدأ في التطبيق العملي لها بالتوجه إلى الله بالدعاء على صورة كلية تناسب جو السورة وطبيعتها : ( اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) . .
( اهدنا الصراط المستقيم ) . . وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل ؛ ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته . . فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته . والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين . وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه . فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين . . وهي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله الذي ينسق بين حركة الإنسان وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين .
{ اهدنا الصراط المستقيم } بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا { اهدنا } أو إفراد لما هو المقصود الأعظم . والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير وقوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } وارد على التهكم . ومنه الهداية وهوادي الوحش لمقدماتها ، والفعل منه هدى ، وأصله أن يعدى باللام ، أو إلى ، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : { واختار موسى قومه } وهداية الله تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عد كما قال تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة .
الثاني نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال { وهديناه النجدين } وقال : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } .
الثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإياها عنى بقوله : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } وقوله { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } .
الرابع أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي ، أو الإلهام والمنامات الصادقة ، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقوله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } . فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى ، أو الثبات عليه ، أو حصول المراتب المرتبة عليه فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا ، وتميط غواشي أبداننا ، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك . والأمر والدعاء يتشاركان لفظا ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل ، وقيل بالرتبة .
والسراط : من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة ، ولذلك سمي لقما لأنه يلتقمهم . و{ الصراط } من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق ، وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه . وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه ، ورويس عن يعقوب بالأصل ، وحمزة بالإشمام ، والباقون بالصاد وهو لغة قريش ، والثابت في الإمام وجمعه سرط ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث .
و{ المستقيم } المستوي والمراد به طريق الحق ، وقيل هو ملة الإسلام .