ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم " أحد " وما الذي أوجب لهم الفرار ، وأنه من تسويل الشيطان ، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم . فهم الذين أدخلوه على أنفسهم ، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي ، لأنها مركبه ومدخله ، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان .
قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة ، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم .
{ إن الله غفور } للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار ، والمصائب المكفرة ، { حليم } لا يعاجل من عصاه ، بل يستأني به ، ويدعوه إلى الإنابة إليه ، والإقبال عليه .
ثم إن تاب وأناب قبل منه ، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب ، ولم يصدر منه عيب ، فلله الحمد على إحسانه .
ثم أخبر - سبحانه - عن الذين لم يثبتوا مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبين السبب فى ذلك وفتح لهم باب عفوه فقال : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
وقوله { تَوَلَّوْاْ } من التولي ويستعمل هذا اللفظ بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال كما فى قوله - تعالى - { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ } وإذا كان متعديا بعن أو غير متعد أصلا كان بمعنى الإعراض كما فى الآية التى معنا .
والتولي الذى وقع فيه من ذكرهم الله - تعالى - فى الآية التى معنا يتناول الرماة الذين تركوا أماكنهم التى أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء فيها لحماية ظهور المسلمين كما يتناول الذين لم يثبتوا بجانب النبى صلى الله عليه وسلم بل فروا إلى الجبل أو إلى غيره عندما اضطربت الصفوف .
ولقد حكى لنا التاريخ أن هناك جماعة من المسلمين ثبتت إلى جانب النبى صلى الله عليه وسلم بدون وهن أو ضعف وقد أصيب ممن كان حوله أكثر من ثلاثين ، وكلهم يفتدى النبى صلى الله عليه وسلم بنفسه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ونفسي لنفسك الفداء . وعليك السلام غير مودع .
ومعنى { استزلهم الشيطان } طلب لهم الزلل والخطيئة ، أو حملهم عليها بوسوسته لهم : أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالثبات فى مواقفهم التى عينها لهم ، فكانت مخالفتهم لرسولهم وقائدهم طاعة للشيطان . فحرمهم الله تأييده وتقوية قلوبهم .
قال الراغب : استزله إذا تحرى زلته ، وقوله - تعالى - { إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } أى استجرهم الشيطان حتى زلوا ، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه ، والزلة فى الأصل : استرسال الرجل من غير قصد " .
والمراد بالزلة هنا ما حدث منهم من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ترتب عليها هزيمتهم .
والمعنى : إن الذين تولوا منكم - يا معشر المؤمنين - عن القتال أو تركوا أماكنهم فلم يثبتوا فيها طلبا للغنيمة يوم التقيتم بالمشركين فى معركة أحد ؛ { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } أى طلب منهم الزلل والمعصية ، ودعاهم إليها بمكر منه وكان ذلك { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } أى بسبب بعض ما اكتسبوه من ذنوب ، لأن نفوسهم لم تتجه بكليتها إلى الله فترتب على ذلك أن منعوا النصر والتأييد وقوة القلب والثبات .
قال ابن القيم : " كانت أعمالهم جنداً عليهم ازداد بها عدوهم قوة . فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولا بد للعبد فى كل وقت من سرية ن نفسه تهزمه أو تنصره . فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها ، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه .
فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى .
ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله بعثه له الشيطان واستزله به " .
ثم أخبر - سبحانه - أنه قد عفا عن هؤلاء الزالين ، حتى تكون أمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم . وبعثها على التوبة الصادقة والإخلاص لله رب العالمين ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
أى : ولقد عفا - سبحانه - عنهم لصدق توبتهم وندمهم على ما فرط منهم ، لأن فرارهم لم يكن عن نفاق ، بل كان عارضا عرض لهم عندما اضطربت الصفوف واختلطت الأصوات ثم عادوا إلى صفوف الثابتين من المؤمنين ليكونوا معهم فى قتال أعدائهم .
ولقد أكد الله - تعالى - هذا العلو بلام التأكيد وبقد المفيدة للتحقيق ، وبرصفه - سبحانه - لذته بالمغفرة فإن هذا الوصف يؤكد أن العفو شأن من شئونه ، وبوصفه - سبحانه - لذاته بالحلم ، فإن هذا الوصف يفيد أنه لا يعاجل عابده بالعقاب ، بل إن ما أصابهم من مصائب فهو بسبب ما اقترفوه من ذنوب ويعفو - سبحانه - عن كثير .
وصدق الله إذ يقول : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } وقد أكد - سبحانه - شان هذا العفو لتذهب عن نفوس هؤلاء الذين استزلهم الشيطان حيرتها ولتتخلع عن الماضى ، ولتستقبل الحاضر والمستقبل بقلوب عامرة بالإيمان ، وبنفوس متغلبة على أهوائها مطيعة لتعاليم دينها .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين بعض الأسباب الظاهرة والخفية لما أصابهم فى أحد ، وفتحت لهم باب التوبة لتطهير أنفسهم ، وأخبرتهم بعفو الله عنهم ، وفى ذلك ما فيه من عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
وبعد هذا الحديث الحكيم عن أحداث معركة أحد ، وعما تم للمسلمين فى أولها من نصر ، ثم عما جرى لهم بعد ذلك من اضطراب وتفرق بسبب مخالفة بعضهم لوصايا نبيهم صلى الله عليه وسلم .
بعد كل ذلك وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم عن التشبه بالكافرين وعن الاستماع إلى أباطيلهم وحضهم فيه على مواصلة الجهاد فى سبيل الله ، حتى تكون كلمة الله هى العليا وأخبرهم بأن الآجال بيد الله ، وأن موتهم من أجل الدفاع عن الحق أشرف لهم من الحياة الذليلة .
استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعانى بأسلوبه البليغ فيقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة . إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها ؛ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها ، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ ، واستزلهم فزلوا وسقطوا :
( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم ، إن الله غفور حليم ) . .
وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم . فكان هذا هو الذي كسبوه ، وهو الذي استزلهم الشيطان به . .
ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة ، فتفقد ثقتها في قوتها ، ويضعف بالله ارتباطها ، ويختل توازنها وتماسكها ، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس ، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه ! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس ، فيقودها إلى الزلة بعد الزلة ، وهي بعيدة عن الحمى الآمن ، والركن الركين .
ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء . الاستغفار الذي يردهم إلى الله ، ويقوي صلتهم به ، ويعفي قلوبهم من الأرجحة ، ويطرد عنهم الوساوس ، ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ، ثغرة الانقطاع عن الله ، والبعد عن حماه . هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة ، حتى ينقطع بهم في التيه ، بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه !
ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم ، فلم يدع الشيطان ينقطع بهم ، فعفا عنهم . . ويعرفهم بنفسه - سبحانه - فهو غفور حليم . لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم ؛ متى علم من نفوسهم التطلع إليه ، والاتصال به ؛ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق !
ثم قال{[5968]} { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } أي : ببعض ذنوبهم السالفة ، كما قال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها{[5969]} .
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } أي : عَمّا كان منهم من الفرار { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : يغفر الذنب ويحلُم عن خلقه ، ويتجاوز عنهم ، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان ، رضي الله عنه ، وتوليه يوم أحد ، وأن الله [ قد ]{[5970]} عفا عنهم ، عند قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } ومناسب ذكره هاهنا .
قال{[5971]} الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عَمْرو ، حدثنا زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق ، قال : لقي عبدُ الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة{[5972]} فقال له الوليد : ما لي أراك جفوتَ أمير المؤمنين عثمانَ ؟ فقال له عبد الرحمن : أبلغه أني لم أفر يوم عَيْنَيْن{[5973]} - قال عاصم : يقول يوم أحد - ولم أتخلف عن بدر ، ولم أترك سُنة عمر . قال : فانطلق فَخَبر ذلك عثمان ، قال : فقال : أما قوله : إني لم أفر يوم عَيْنَيْن{[5974]} فكيف يعَيرني بذَنْب قد{[5975]} عفا الله عنه ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } وأما قولُهُ : إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت ، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهِد . وأما قوله : " إني لم أترك سنَّة عمر " فإني لا أطيقها ولا هو ، فأته فحدثه بذلك{[5976]} .
{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } يعني إن الذين انهزموا يوم أحد إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل فأطاعوه واقترفوا ذنوبا لمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم بترك المركز ، والحرص على الغنيمة أو الحياة فمنعوا التأييد وقوة القلب . وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بسبب ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضا كالطاعة . وقيل استزلهم بذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتال قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة . { ولقد عفا الله عنهم } لتوبتهم واعتذارهم . { إن الله غفور } للذنوب { حليم } لا يعاجل بعقوبة الذنب كي يتوب .
اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان }{[3637]} فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو .
قال القاضي أبو محمد : يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفاً لقتال ، وأسند الطبري رحمه الله قال : خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله { إن الذين تولوْا منكم يوم التقى الجمعان } ، قال : لما كان يوم -أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى{[3638]} ، والناس يقولون قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها ، قال قتادة : هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه ، وعفا الله عنهم هذه الزلة ، قال ابن فورك : لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً ، أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسائرهم من الانصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره : إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليه صعد قوم الجبل ، وفر آخرون حتى أتوا المدينة ، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة .
قال القاضي : جعل الفرار إلى الجبل تحيزاً إلى فئة ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فراراً كثيراً ، منهم رافع بن المعلى{[3639]} ، وأبو حذيفة بن عتبة{[3640]} ورجل آخر ، قال ابن إسحاق : فر عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد ، ورجلان من الأنصار زرقيان ، حتى بلغوا الجلعب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ، فأقاموا به ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة{[3641]} ، قال ابن زيد : فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة ؟ أم على المؤمنين جميعاً ؟ و «استزل » - معناه طلب منهم أن يزلوا ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، وقوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } ظاهره عند جمهور المفسرين : أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم ، وبخلق ما اكتسبوه أيضاً هم من الفرار ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن المعنى ، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، قال المهدوي : بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله : { ببعض ما كسبوا } إلى هذه العبرة ، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم ، فهو شريك في بعضه ، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم ، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة ، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبد الله بن عدي بن الخيار{[3642]} ، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي{[3643]} ، وقال ابن جريج : معنى الآية ، { عفا الله عنهم } إذ لم يعاقبهم ، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها{[3644]} .
استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم ، وأراد بـ { يوم التقى الجمعان } يومَ أُحُد ، و( استزلّهم ) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين ، والزلل مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النَّابغة :
وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة *** أبا جابر فاسْتَنْكحوا أم جابر
أي نكحوا . ومنه قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقوله : { أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] . ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع .
والمراد بالزّلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى : { وثبت أقدامنا } [ آل عمران : 147 ] .
( والباء في { ببعض ما كسبوا } للسببية وأريد { ببعض ما كسبوا } مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرّسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد . وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية .
ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطىء وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعالِ الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين . وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : { ثم صرفكم عنهم . . . } [ آل عمران : 152 ] الآيات . وضمير { منكم } راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا . وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة .
وللمفسّرين في قوله : { استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } احتمالات ذكرها صاحب « الكشاف » والفخر ، وهي بمعزل عن القصد .
وقوله : { ولقد عفا الله عنهم } أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله : { ولقد عفا عنكم } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين ولوا عن المشركين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وانهزموا عنهم، وقوله: {تَوَلّوْا}: تفّعَلوا، من قولهم: ولّى فلان ظهره. وقوله: {يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ} يعني: يوم التقى جمع المشركين والمسلمين بأُحد، {إنّمَا اسْتَنزَلّهُمْ الشّيْطانُ}: أي إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان. وقوله استزلّ: استفعل، من الزلة، والزلة: هي الخطيئة. {بِبَعْضِ ما كَسَبُوا} يعني: ببعض ما عملوا من الذنوب. {وَلَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ} يقول: ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه. {إنّ اللّهَ غَفُورٌ} يعني به: مغطّ على ذنوب من آمن به واتبع رسوله بعفوه عن عقوبته إياهم عليها. {حَلِيمٌ} يعني: أنه ذو أناة، لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة. ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها كلّ من ولى الدبر عن المشركين بأُحد... وقال آخرون: بل عني بذلك خاصّ ممن ولى الدبر يومئذٍ، قالوا: وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم...
وقال آخرون: بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين...
وأما قوله: {ولَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ} فإن معناه: ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان، أن يعاقبهم، بتوليهم عن عدوّهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يعني: إن الذين انصرفوا عن عدوهم مدبرين منهم منهزمين {يوم التقى الجمعان} جمع المؤمنين وجمع المشركين. وقوله تعالى: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} أي: إنما انهزموا ولم يثبتوا خوفا أن يقتلوا بالثبات فيلقون الله، وعليهم عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يقتلوا وعليهم معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا من الله عز وجل {ولقد عفا الله عنهم} بما خافوا الله بعصيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويحتمل قوله تعالى: {إنما استزلهم الشيطان ببعض كسبوا} أن اللعين لما رآهم أجابوه على ما دعاهم من اشتغالهم بالغنيمة وترك المركز وعصيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم على الهزيمة وتولوا عدوهم...
وقوله تعالى: {إن الله غفور} قبل توبتكم وعفا عنكم {حليم} لم يأخذكم وقت عصيانكم ولا عاقبتكم و {حليم} بتأخير العذاب عنكم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} فيه قولان: أحدهما: أنه محبتهم للغنيمة وحرصهم على الحياة.
والثاني: استزلهم بذكر خطايا سلفت لهم، وكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة منها والخروج من المظلمة فيها، وهذا قول الزجاج...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله: (إنما استزلهم الشيطان) أي: طلب زلتهم، يقال: استعجل فلانا، أي: طلب عجلته، ومعناه: أن الشيطان استزلهم حتى انهزموا. وقوله (ببعض ما كسبوا) يعني: من مخالفة الرسول...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{استزلهم}: طلب منهم الزلل ودعاهم إليه. {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من ذنوبهم ومعناه: إنّ الذين انهزموا يوم أحد كان السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً، فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وقيل: استزلال الشيطان إياهم هو التولي، وإنما دعاهم إليه بذنوب قد تقدمت لهم، لأنّ الذنب يجرّ إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفاً فيها. وقال الحسن رضي الله عنه: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة. وقيل: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات فيه. فجرّهم ذلك إلى الهزيمة وقيل: ذكرهم تلك الخطايا فكرهوا لقاء الله معها، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية. فإن قلت: لم قيل {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}؟ قلت: هو كقوله تعالى: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [المائدة: 15]. {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} لتوبتهم واعتذارهم {إن الله غَفُورٌ} للذنوب {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله: {ببعض ما كسبوا} إلى هذه العبرة، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم، فهو شريك في بعضه، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبد الله بن عدي بن الخيار، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي، وقال ابن جريج: معنى الآية، {عفا الله عنهم} إذ لم يعاقبهم، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم قال {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} أي: ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} أي: عَمّا كان منهم من الفرار {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي: يغفر الذنب ويحلُم عن خلقه، ويتجاوز عنهم، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان، رضي الله عنه، وتوليه يوم أحد، وأن الله [قد] عفا عنهم، عند قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} ومناسب ذكره هاهنا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان فيه مع ذلك معنى التعليل والتنبيه على أنه غني عن الاختبار، خبير بدقائق الأسرار أتبعه قوله مستأنفاً لبيان ما هو من ثمرات العلم: {إن الذين تولوا منكم} أي عن القتال ومقارعة الأبطال {يوم التقى الجمعان} أي من المؤمنين والكفار {إنما استزلّهم} أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي {الشيطان} أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة {ببعض ما كسبوا} أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضرات القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال، فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر. ولما كان ذلك مفهماً أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله: {ولقد عفا الله} أي الذي له صفات الكمال {عنهم} لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيداً للاسم الأعظم تنبيهاً على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال: {إن الله غفور} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً. ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله: {حليم} أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم -كما تقدم- حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا. ولما كان قولهم: إنا لو ثبتنا في المدينة الممثلة بالدرع الحصينة -كما "كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأكابر من أصحابه "لسلمنا، إلى غير ذلك مما أشار سبحانه وتعالى إليه قولاً موجباً لغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. لما فيه من الاتهام وسوء العقيدة، وكان مع ذلك مظنة لأن يخدع كثيراً من أهل الطاعة لشدة حبهم لمن قتل منهم وتعاظم أسفهم عليهم. كان أنسب الأشياء المبادرة إلى الوعظ بما يزيل هذا الأثر.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ} الدبر عن المشركين بأحد {مّنكُمْ} أيها المسلمون، أو إن الذين هربوا منكم إلى المدينة {يَوْمَ التقى الجمعان} وهما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع أبي سفيان. {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إن الذين تولوا وفروا من أماكنهم يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد، لم يكن ذلك التولي منهم إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل، أي زلوا وانحرفوا عما يجب أن يكونوا ثابتين عليه باستجرار الشيطان لهم بالوسوسة. قال الراغب: استجرهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه، اه. ولعله يشير بذلك أن المراد بالذين تولوا الرماة الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، فإنهم ما زلوا وانحرفوا عن مكانهم إلا مترخصين في ذلك، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنيمة ضرر، فكان هذا الترخيص والتأويل للنهي الصريح عن التحول وترك المكان سببا لكل ما جرى من المصائب، وأعظمها ما أصاب الرسول (صلى الله عليه وسلم). وهناك وجه آخر: وهو أن الذين تولوا هم جميع الذين تخلوا عن القتال من الرماة وغيرهم، كالذين انهزموا عندما جاءهم العدو من خلفهم، واستدل القائلون بهذا الوجه بما روي من أن عثمان بن عفان عوتب في هزيمته يوم أحد فقال: إن ذلك خطأ عفا الله عنه. أما كون الاستزلال قد كان ببعض ما كسبوا فقد قيل: إن الباء في قوله (ببعض) على أصلها، وأن الزلل الذي وقع هو عين ما كسبوا من التولي عن القتال. وقيل إنها للسببية، أي إن بعض ما كسبوا قد كان سببا لزلتهم، ولما كان السبب متقدما دائما على المسبب وجب أن يكون ذلك البعض من كسبهم متقدما على زللهم هذا ومفضيا إليه. فإن كان المراد بالذين تولوا الرماة جاز أن يكون المراد بالزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا في الغنيمة، ويكون هذا التولي هو المراد ببعض ما كسبوا.
ولا يصح هذا التأويل على الوجه الآخر القائل بأن الذين تولوا هم جميع الذين أدبروا عن القتال إلا إذا أريد ببعض ما كسبوا: ما كسب الرماة منهم وهم بعضهم، فيكون المعنى إن الذين تولوا منكم مدبرين عن القتال إنما استزلهم الشيطان بسبب بعض ما كسبت طائفة منهم وهم بعض الرماة، فإنه لولا ذلك لما كر المشركون بعد هزيمتهم وجاؤوا المؤمنين من ورائهم حتى أدهشوهم وهزموهم. وللسببية وجه آخر ينطبق على كل من القولين في الذين تولوا وهو أن توليهم عن القتال لم يكن إلا ناشئا عن بعض ما كسبوا من السيئات من قبل، فإنها هي التي أحدثت الضعف في نفوسهم حتى أعدتها إلى ما وقع منها.
ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] فهو بمعنى ما هنا، إلا أنه هنالك عام وهنا خاص بالذين تولوا يوم أحد، فالآيتان واردتان في بيان سنة من سنن الله تعالى في أخلاق البشر وأعمالهم، وهي أن المصائب التي تعرض لهم في أبدانهم وشؤونهم الاجتماعية إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، وأن من أعمالهم ما لا يترتب عليه عقوبة تعد مصيبة وهو المعفو عنه، أي الذي مضت سنة الله تعالى بأن يعفى ويمحى أثره من النفس، فلا تترتب عليه الأعمال وهو بعض اللمم والهفو الذي لا يتكرر ولا يصير ملكة وعادة. وقد عبر عنه في الآية التي هي الأصل والقاعدة في بيان هذه السنة بقوله: {ويعفو عن كثير} ويؤيد ذلك قوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [الأنعام: 71] أي بجميع ما كسبوا فإن "ما "من الكلمات التي تفيد العموم. وقد بينا هذه السنة الإلهية في مواضع كثيرة من التفسير وجرينا على أنها عامة في عقوبات الدنيا والآخرة فجميعها آثار طبيعية للأعمال السيئة، وقد اهتدى إلى هذه السنة بعض حكماء الغرب في هذا العصر.
أما قوله تعالى: {ولقد عفا الله عنهم} فالعفو فيه غير العفو في آية الشورى ذلك عفو عام وهذا عفو خاص. ذلك عفو يراد به أن من سنة الله في فطرة البشر أن تكون بعض هفواتهم وذنوبهم غير مفضية إلى العقوبة بالمصائب في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا العفو خاص بالمؤمنين يراد به ان ذنبهم يوم أحد الذي كان من شأنه يعاقب عليه في الدنيا والآخرة قد كانت عقوبته الدنيوية تربية وتمحيصا، وعفا الله عن العقوبة عليه في الآخرة، ولذلك قال: {فإن الله غفور رحيم} لا يعجل بتحتيم العقاب. ومن آيات مغفرته وحلمه بهم توفيقهم للاستفادة مما وقع منهم وإثابتهم الغم الذي دفعهم إلى التوبة حتى تمحص ما في قلوبهم واستحقوا العفو عن ذنوبهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة. إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها؛ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ، واستزلهم فزلوا وسقطوا: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا. ولقد عفا الله عنهم، إن الله غفور حليم).. وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم. فكان هذا هو الذي كسبوه، وهو الذي استزلهم الشيطان به.. ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة، فتفقد ثقتها في قوتها، ويضعف بالله ارتباطها، ويختل توازنها وتماسكها، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس، فيقودها إلى الزلة بعد الزلة، وهي بعيدة عن الحمى الآمن، والركن الركين. ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء. الاستغفار الذي يردهم إلى الله، ويقوي صلتهم به، ويعفي قلوبهم من الأرجحة، ويطرد عنهم الوساوس، ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان، ثغرة الانقطاع عن الله، والبعد عن حماه. هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة، حتى ينقطع بهم في التيه، بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه! ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم، فلم يدع الشيطان ينقطع بهم، فعفا عنهم.. ويعرفهم بنفسه -سبحانه- فهو غفور حليم. لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم؛ متى علم من نفوسهم التطلع إليه، والاتصال به؛ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالزّلل: الانهزام، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى: {وثبت أقدامنا} [آل عمران: 147].
(والباء في {ببعض ما كسبوا} للسببية وأريد {ببعض ما كسبوا} مفارقة موقفهم، وعصيان أمر الرّسول، والتنازع، والتعجيل إلى الغنيمة، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد. وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية.
ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم} انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم، فلم يتفطّنوا إلى السبب، والتبس عليهم بالمقارن، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح، وتزكية النفوس، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين، وتعظيمه عندهم، وتنفيرهم من الشيطان، والأفعالِ الذميمة، ومعصية الرسول، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين. وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله: {ثم صرفكم عنهم...} [آل عمران: 152] الآيات. وضمير {منكم} راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا. وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة... وقوله: {ولقد عفا الله عنهم} أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله: {ولقد عفا عنكم}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
التولي يستعمل بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار، فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال، ومن ذلك قوله تعالى: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا...56} [المائدة]، و {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم.13} [الممتحنة] وإذا كانت متعدية ب"عن" أو غير متعدية أصلا كانت بمعنى الإعراض ومنه الإدبار عن الزحف والأمر في وقته، وهي هنا لذلك... والمعنى الجملي: إن أولئك الذين كانوا سبب تلك الجراح أو فروا من الموقعة، قد وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب أن نفوسهم لم تتجه إلى الله بكلتيها ولهذا استزلهم الشيطان، وأمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم، وقد أعلن سبحانه العفو عنهم فقال: {ولقد عفا الله عنهم عن الله غفور حليم}. وقد أكد سبحانه عفوه بأربعة تأكيدات؛ أولها: باللام، فهي تنبئ عن القسم، والثاني: قد، فإنها تفيد تأكيد تحقق القول، والثالث: وصف الله تعالى بالمغفرة فإنه يؤكد أن العفو شأن في شئونه سبحانه، والرابع: الوصف بالحلم فإنه سبحانه لا يسارع بالعقاب {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة...45} [فاطر]. وقد أكد سبحانه أمر العفو، لتذهب عن نفوسهم حيرتها، ولتنخلع من الماضي ولتستقبل الحاضر والمستقبل بقلب جرئ ثابت، ولتشعر بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده.
قوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} يعني طلب منهم أن يزلوا نتيجة، لأنه عرف أنهم فعلوا أشياء أَبْدَوا وأظهروا فيها ضعفهم، {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وكلمة {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}.. كأن قول الله {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} أنه لم يأخذهم بكل ما كسبوا؛ لأن ربنا يعفو عن كثير. {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. {عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} لماذا؟ عفا عنهم تكريما لمبدأ الإسلام الذي دخلوا فيه بإخلاص، ولكن نفوسهم ضعُفت في شيء، فيُعطيهم عقوبة في هذه ولكنه يعفو عنهم فهذا هو حق الإسلام، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد نستطيع الاستيحاء العملي من هذه الآية في حركة الإنسان المسلم في أجواء المسؤوليات الإسلامية المباشرة عندما تنحرف به الخطى عن الطريق بسبب بعض الضغوط الداخليّة، ثُمَّ يندم ويتراجع ليستقيم من جديد على الخطّ، ويتحرر من كلّ المؤثرات السلبيّة في داخله، فقد يكون من الضروري أن لا نتعقد أمامه، بل نفسح له المجال لتجربة المسيرة من جديد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية ناظرة أيضاً إلى وقائع معركة «أُحد»، وتقرر حقيقة أخرى للمسلمين، وهي أن الذنوب والانحرافات التي تصدر من الإنسان بسبب من وساوس الشيطان، تفرز آثاماً وذنوباً أخرى بسبب وجود القابلية الحاصلة في النفس الإنسانية نتيجة الذنوب السابقة، والتي تمهد لذنوب مماثلة وآثام أخرى، وإلاّ فإن القلوب والنفوس التي خلت وطهرت من آثار الذنوب السالفة لا تؤثر فيها الوساوس الشيطانية، ولا تتأثر بها، ولهذا قال سبحانه: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم).
وهكذا يعلمهم القرآن أن عليهم أن يضاعفوا الجهد في تربية نفوسهم وتطهير قلوبهم لتحقيق الانتصار في المستقبل.
ويمكن أن يكون المقصود من الذنب الذي كسبوا هو حب الدنيا وجمع الغنائم، ومخالفة الرسول، وتجاهل أوامره في بحبوحة المعركة، أو ذنوب أخرى كانوا قد اقترفوها قبل معركة «أُحد» أضعفت من طاقاتهم الإيمانية، وأضرت بالجانب المعنوي فيهم.