{ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي : وإذا جاءك المؤمنون ، فحَيِّهم ورحِّب بهم ولَقِّهم منك تحية وسلاما ، وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم ، من رحمة الله ، وسَعة جوده وإحسانه ، وحثهم على كل سبب وطريق ، يوصل لذلك .
ورَهِّبْهم من الإقامة على الذنوب ، وأْمُرْهم بالتوبة من المعاصي ، لينالوا مغفرة ربهم وجوده ، ولهذا قال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي : فلا بد مع ترك الذنوب والإقلاع ، والندم عليها ، من إصلاح العمل ، وأداء ما أوجب الله ، وإصلاح ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة .
فإذا وجد ذلك كله { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : صب عليهم من مغفرته ورحمته ، بحسب ما قاموا به ، مما أمرهم به .
السلام والسلامة مصدران من الثلاثى . يقال سلم فلان من المرض أو من البلاء سلاماً وسلامة ومعناهما البراءة والعافية . ويستعمل السلام فى التحية ، وهو بمعنى الدعاء بالسلامة من كل سوء ، فهو آية المودة والأمان والصفاء .
والمعنى : وإذا حضر إلى مجالسك يا محمد أولئك الذين يؤمنون بآياتنا ويعتقدون صحتها فقل لهم : تحية لكم من خالقكم وبشارة لكم بمغفرته ورضوانه ما دمتم متبعين لهديه ، ومحافظين على فرائضه .
{ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } أى أنه سبحانه أوجب على نفسه الرحمة لعباده تفضلا منه وكرما .
ثم بين سبحانه أصلا من أصول الدين فى هذه الرحمة المكتوبة فقال { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
أى أنه من عمل منكم عملا تسوء عاقبته متلبساً بجهالة دفعته إلى ذلك السوء كغضب شديد ثم تاب من بعد تكل الجهالة وأصلح خطأه وندم على ما بدر منه ، ورد المظالم إلى أهلها ، فالله سبحانه شأنه فى معاملته لهذا التائب النادم " أنه غفور رحيم " .
ويمضي السياق يأمر رسول الله [ ص ] وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالاسلام ؛ والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف ! . . أن يبدأهم بالسلام . . وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة ؛ متمثلا في معفرته لمن عمل منهم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح :
( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم ) . .
وهو التكريم - بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب ، والرحمة في الجزاء ، حتى ليجعل الله - سبحانه - الرحمة كتابا على نفسه للذين آمنوا بآياته ؛ ويأمر رسوله [ ص ] أن يبلغهم ما كتبه ربهم عل نفسه . وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله ، متى تابوا من بعده وأصلحوا - إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب ؛ فما يذنب الإنسان إلا من جهالة ؛ وعلى ذلك يكون النص شاملا لكل سوء يعمله صاحبه ؛ متى تاب من بعده وأصلح . ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب - أيا كان - والإصلاح بعده ، مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة . .
ونعود - قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة - إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات ؛ وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك ؛ والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جدا . .
قال أبو جعفر الطبري : حدثنا هناد بن السري ، حدثنا أبو زبيد ، عن أشعث ، عن كردوس الثعلبي ، عن ابن مسعود ، قال : مر الملأ من قريش بالنبي [ ص ] وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ، ونحوهم من ضعفاء المسلمين . فقالوا : يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! فنزلت هذه الآية : ( ولا تطردالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) إلى آخر الآية .
وقال : حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبى سعيد الأزدي - وكان قارى ء الأزد - عن أبى الكنود ، عن خباب في قول الله تعالى ذكره : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . إلى قوله : فتكون من الظالمين . . قال : جاء الأقرع ابن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجد النبي [ ص ] قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب ، في أناس من الضعفاء من المؤمنين . فلما رأوهم حقروهم . فأتوه فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ؛ فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ؛ فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ! قال : نعم ! قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتابا . قال : فدعا بالصحيفة ، ودعا عليا ليكتب . قال : ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بهذه الآية :
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم ، فتكون من الظالمين ) . . ثم قال( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ ) ثم قال : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة ) . . فألقى رسول الله [ ص ] الصحيفة من يده ؛ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : " سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة " . . فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا . فأنزل الله تعالى : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) . . [ سورة الكهف : 28 ] قال : فكان رسول الله [ ص ] يقعد معنا بعد ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم !
وكان [ ص ] بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأهم بالسلام " .
وفي صحيح مسلم : عن عائذ بن عمرو ، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ، ونفر . فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ! قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ فأتى النبي [ ص ] فأخبره . فقال : " يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم . لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك " . فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه ، أغضبتكم ؟ قالوا : لا يغفر الله لك يا أخي . .
نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص . . والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك . . إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادى ء وقيم ونظريات في " حقوق الإنسان ! " . . إنها أكبر من ذلك بكثير . . إنها تمثل شيئا هائلا تحقق في حياة البشرية فعلا . . تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها . . تمثل خطا وضيئا على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقة . . ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين ، فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة ؛ ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوما ؛ ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشرالواقعية . . إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم . أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه ؛ ما دام أنها قد بلغته ؛ فهو في طوقها إذن وفي وسعها . . والخط هناك على الأفق ، والبشرية هي البشرية ؛ وهذا الدين هو هذا الدين . . فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين . .
وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله . . من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب ، إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها ، وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها !
فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم - وكانت في البشرية كلها - فهو يتمثل واضحا في قوله : " الملأ " من قريش : " يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ! " . . أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، للسابقين من أصحاب رسول الله [ ص ] بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، وأمثالهم من الضعفاء ؛ وقولهما للنبي [ ص ] : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ؛ فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ! " . .
. . هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح ! وقيمها الهزيلة ، واعتباراتها الصغيرة . . عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة . . وما إلى ذلك من اعتبارات . هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب ! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف ! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء ! . . ذات القيم التي تروج في كل جاهلية ! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية !
هذا هو سفح الجاهلية . . وعلى القمة السامقة الإسلام ! الذي لا يقيم وزنا لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة ، ولهذه النعرات السخيفة ! . . الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض . فالأرض كانت هي هذا السفح . . هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة . . الإسلام الذي يأتمر به - أول من يأتمر - محمد [ ص ] محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء ؛ والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش . . والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله [ ص ] ؛ في شأن " هؤلاء الأعبد " . . نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد ؛ وصاروا أعبدا لله وحده ؛ فكان من أمرهم ما كان !
وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش ، وفي مشاعر الأقرع وعيينة . . فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير ، لرسوله [ ص ] - :
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة : أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم ) . .
ويتمثل في سلوك رسول الله [ ص ] مع " هؤلاء الأعبد " . . الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم - وهو بعد ذلك - رسول الله وخير خلق الله ، وأعظم من شرفت بهم الحياة !
ثم يتمثل في نظرة " هؤلاء الأعبد " لمكانهم عند الله ؛ ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها " سيوف الله " ونظرتهملأبي سفيان " شيخ قريش وسيدهم " بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله [ ص ] وقدمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام وهو في شدة الابتلاء . . فلما أن عاتبهم أبو بكر - رضي الله عنه - في أمر أبى سفيان ، حذره صاحبه رسول الله [ ص ] أن يكون قد أغضب " هؤلاء الأعبد " ! فيكون قد أغضب الله - يا الله ! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه ! ويذهب أبو بكر - رضي الله عنه - يترضى " الأعبد " ليرضى الله : " يا إخوتاه . أغضبتكم " ؟ فيقولون : " لا يا أخي . يغفر الله لك " !
أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية ؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس ؟ أي تبدل في القيم والأوضاع ، وفي المشاعر والتصورات ، في آن ؟ والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة ، والناس هم الناس ، والاقتصاد هو الاقتصاد . . وكل شيء على ما كان ، إلا أن وحيا نزل من السماء ، على رجل من البشر ، فيه من الله سلطان . . يخاطب فطرة البشر من وراء الركام ، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح ، فيستجيشهم الحداء - على طول الطريق - إلى القمة السامقة . . فوق . . فوق . . هنالك عند الإسلام !
ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة ؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح . وتقوم - مرة أخرى - في نيويورك ، وواشنطن ، وشيكاغو . . وفي جوهانسبرج . . وفي غيرها من أرض " الحضارة ! " تلك العصبيات النتنة . عصبيات الجنس واللون ، وتقوم هنا وهناك عصبيات " وطنية " و " قومية " و " طبقية " لا تقل نتنا عن تلك العصبيات . .
ويبقى الإسلام هناك على القمة . . حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية . . يبقى الإسلام هناك - رحمة من الله بالبشرية - لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل ، وترفع عينيها عن الحمأة . . وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء ؛ وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين ؛ وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام . .
ونحن لا نملك - في حدود منهجنا في هذه الظلال - أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة . . لا نملك أن نقف هنا تلك " الوقفة الطويلة " التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها . لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية ؛ وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط ، إلى تلك القمة السامقة البعيدة . . ثم تهبط مرة أخرى على عواء " الحضارة المادية " الخاوية من الروح والعقيدة ! . . ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى ؛ بعد أن فشلت جميع التجارب ، وجميع المذاهب ، وجميع الأوضاع ، وجميع الأنظمة ، وجميع الأفكار ؛ وجميع التصورات ، التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيدا عن منهج الله وهداه . . فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة ؛ وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة ؛ وأن تفيض على القلوب الطمأنينة - مع هذه النقلة الهائلة - وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح ؛ وبلا اضطهادات ؛ وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية ؛ وبلا رعب ، وبلا فزع ، وبلا تعذيب ، وبلا جوع ، وبلا فقر ، وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر ؛ ويتعبد فيها بعضهم بعضا من دون الله . .
فحسبنا هذا القدر هنا . . وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها ، وتسكبها في القلوب المستنيرة .
وقوله : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } أي : فأكرمهم برد السلام عليهم ، وبَشَّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم ؛ ولهذا قال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي : أوجبها على نفسه الكريمة ، تفضلا منه وإحسانًا وامتنانًا { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ } قال بعض السلف : كل من عصى الله ، فهو جاهل .
وقال معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن{[10712]} أبان ، عن عِكْرِمة في قوله : { مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ } قال : الدنيا كلها جهالة . رواه ابن أبي حاتم .
{ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي : رجع عما كان عليه من المعاصي ، وأقلع وعزم على ألا يعود وأصلح العمل في المستقبل ، { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر ، عن همَّام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قَضَى الله الخَلْقَ ، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت{[10713]} غضبي " . أخرجاه في الصحيحين{[10714]} وهكذا رواه الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة{[10715]} ورواه موسى بن عقبة عن الأعرج ، عن أبي هريرة . وكذا رواه الليث وغيره ، عن محمد بن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[10716]} بذلك{[10717]}
وقد روى ابن مَرْدُوَيه ، من طريق الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق ، أخرج كتابًا من تحت العرش : إن رحمتي سبقت غضبي ، وأنا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقًا لم يعملوا خيرًا ، مكتوب بين أعينهم . عُتَقَاء الله " .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن عاصم بن سليمان ، عن أبي عثمان النَّهْدِي ، عن سلمان في قوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } قال : إنا نجد في التوراة عطفتين : أن الله خلق السماوات والأرض ، وخلق مائة رحمة - أو : جعل مائة رحمة - قبل أن يخلق الخلق ، ثم خلق الخلق ، فوضع بينهم رحمة واحدة ، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة . قال فبها يتراحمون ، وبها يتعاطفون ، وبها يتباذلون وبها يتزاورون ، وبها تحِنّ الناقة ، وبها تَثِجُّ البقرة ، وبها تثغو الشاة ، وبها تَتَابعُ الطير ، وبها تَتَابع الحيتان في البحر . فإذا كان يوم القيامة ، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده ، ورحمته أفضل وأوسع .
وقد روي هذا مرفوعا من وجه آخر{[10718]} وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ]
ومما يناسب هذه الآية [ الكريمة ]{[10719]} من الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : " أتدري ما حق الله على العباد ؟ أن يعبدوه لا{[10720]} يشركوا به شيئا " ، ثم قال : " أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ؟ ألا يعذبهم " {[10721]} وقد رواه الإمام أحمد ، من طريق كميل بن زياد ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[10722]} {[10723]}
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة ، وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم ، إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد ، ويعز ولا يذل ، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة . وقيل إن قوم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا فنزلت . { أنه من عمل منكم سوءا } استئناف بتفسير الرحمة . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالفتح على البدل منها . { بجهالة } في موضع الحال أي ملتبسا بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل . { ثم تاب من بعده } بعد العمل أو السوء . { وأصلح } بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه { فأنه غفور رحيم } فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه .