تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي : تواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد .

{ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي : ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا ، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا .

وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق ، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

وقوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة . . } زيادة فى تبجيلهما والتلطف معهما فى القول والفعل والمعاملة على اختلاف ألوانها .

أى : وبجانب القول الكريم الذى يجب أن تقوله لهما ، عليك أن تكون متواضعا معهما ، متلطفا فى معاشرتهما ، لا ترفع فيهما عينا ، ولا ترفض لهما قولا ، مع الرحمة التامة بهما ، والشفقة التى لا نهاية لها عليهما .

قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وقوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } المقصود منه المبالغة فى التواضع .

وذكر القفال فى تقريره وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية . فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك فى حال صغرك .

والثانى : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه . فصار خفض الجناح كناية عن التواضع .

وإضافة الجناح إلى الذل إضافة بيانية ، أى : اخفض لهما جناحك الذليل و { من } فى قوله { من الرحمة } ابتدائية . أى تواضع لهما تواضعا ناشئا من فرط رحمتك عليهما .

قال الآلوسى : وإنما احتاجا إلى ذلك ، لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما ، واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه أدعى إلى الرحمة ، كما قال الشاعر :

يامن أتى يسألنى عن فاقتى . . . ما حال من يسأل من سائله ؟

ماذلة السلطان إلا إذا . . . أصبح محتاجا إلى عامله

وقوله : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } تذكير للإنسان بحال ضعفه وطفولته ، وحاجته إلى الرعاية والحنان .

أى : وقل فى الدعاء لهما : يارب ارحمهما برحمتك الواسعة ، واشملهما بمغفرتك الغامرة ، جزاء ما بذلا من رعاية لى فى صغرى ، فأنت القادر على مثوبتهما ومكافأتهما .

قال الجمل : والكاف فى قوله { كما ربيانى . . } فيها قولان : أحدهما أنها نعت لمصدر محذوف .

أى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما لى ، والثانى أنها للتعليل . أى : ارحمهما لأجل تربيتهما لى ، كما فى قوله { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

22

ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال ؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان :

( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) . . والكبر له جلاله ، وضعف الكبر له إيحاؤه ؛ وكلمة( عندك ) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق ، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . ( وقل لهما قولا كريما ) وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام . . ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) وهنا يشف التعبير ويلطف ، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا ، ولا يرفض أمرا . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام والاسستسلام . ( وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) فهي الذكرى الحانية . ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان ، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان . وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ، ورعاية الله أشمل ، وجناب الله أرحب . وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء .

قال الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن بريدة عن أبيه : أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي [ ص ] هل أديت حقها ? قال : لا . ولا بزفرة واحدة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي : تواضع لهما بفعلك { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي : في كبرهما وعند وفاتهما { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }

قال ابن عباس : ثم أنزل الله [ تعالى ]{[17387]} : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ] .

وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال : " آمين آمين آمين " : فقالوا : يا رسول الله ، علام أمنت ؟ قال : " أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقل : آمين . فقلت : آمين . ثم قال : رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل : آمين . فقلت آمين . ثم قال : رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قل : آمين . فقلت : آمين " {[17388]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا علي بن زيد ، أخبرنا زُرَارَة بن أَوْفَى ، عن مالك بن الحارث - رجل منهم - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من ضَمَّ يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه ، وجبت له الجنة البتة ، ومن أعتق امرأ{[17389]} مسلمًا كان فَكَاكه من النار ، يجزى بكل عضو منه عضوًا منه " .

ثم قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت علي بن زيد - فذكر معناه ، إلا أنه قال : عن رجل من قومه يقال له : مالك أو ابن مالك ، وزاد : " ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار ، فأبعده الله " {[17390]} .

حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن زيد ، عن زرارة بن أوفى{[17391]} عن مالك بن عمرو القشيري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار ، مكان كل عَظْم من عظامه مُحَرّره بعظم من عظامه ، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل ، ومن ضم يتيمًا بين{[17392]} أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله ، وجبت له الجنة " {[17393]} .

حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا حدثنا شعبة ، عن قتادة سمعت زرارة بن أوفى{[17394]} يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك ، فأبعده الله وأسحقه " .

ورواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة به{[17395]} وفيه زيادات أخر .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل{[17396]} بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة " .

صحيح من هذا الوجه ، ولم يخرجه سوى مسلم ، من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال ، عن سهيل ، به{[17397]} .

حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا رِبعيّ بن إبراهيم - قال أحمد : وهو أخو إسماعيل بن عُلَيَّة ، وكان يفضل على أخيه - عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ ! ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ، فانسلخ قبل يغفر له ! ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه{[17398]} الكبر فلم يدخلاه الجنة " قال ربعي : لا أعلمه{[17399]} إلا قال : " أحدهما " .

ورواه الترمذي ، عن أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي ، عن ربعي بن إبراهيم ، ثم قال : غريب من هذا الوجه{[17400]} .

حديث آخر : وقال{[17401]} الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل ، حدثنا أسيد بن علي ، عن أبيه ، علي بن عبيد ، عن أبي أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدي ، قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، هل بقي عليّ من برّ أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال : " نعم ، خصال أربع : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ، فهو الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما " {[17402]} .

ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن سليمان - وهو ابن الغسيل - به{[17403]} .

حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله{[17404]} بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن معاوية بن جاهمة السلمي ؛ أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أردت الغزو ، وجئتك أستشيرك ؟ فقال : " فهل لك من أم ؟ " قال{[17405]} .

نعم . فقال : " الزمها . فإن الجنة عند رجليها{[17406]} ثم الثانية ، ثم الثالثة في مقاعد شتى ، كمثل هذا القول .

ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن جريج ، به{[17407]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن بَحِير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معد يكرب{[17408]} الكندي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يوصيكم بآبائكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب " .

وقد أخرجه ابن ماجه ، من حديث [ عبد الله ]{[17409]} بن عياش ، به{[17410]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأشعث بن سليم ، عن أبيه ، عن رجل من بني يربوع قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول : " يد المعطي [ العليا ]{[17411]} أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك " {[17412]} .

حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم ابن المستمر العُرُوقي ، حدثنا عمرو بن سفيان ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن ليث بن أبي سليم ، عن علقمة بن مرثد{[17413]} عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ؛ أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل{[17414]} أديت حقها ؟ قال : " لا ولا بزفرة واحدة " أو كما قال . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه{[17415]} .

قلت : والحسن بن أبي جعفر ضعيف ، والله أعلم .


[17387]:زيادة من ف، أ.
[17388]:رواه البزار في مسنده برقم (3168) "كشف الأستار" من طريق جعفر بن عون، عن سلمة بن وردان، عن أنس، رضي الله عنه، وقال: وسلمة صالح وله أحاديث يستوحش منها ولا نعلم روى أحاديث بهذه الألفاظ غيره. وجاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2551) وسيأتي. ومن حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، رواه الحاكم في المستدرك (4/153). ومن حديث عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وابن مسعود وعبد الله بن الحارث رواها البزار في مسنده برقم (3164 - 3167).
[17389]:في ت: "رجلا".
[17390]:المسند (4/344).
[17391]:في ت: "زراة بن أبي أوفى".
[17392]:في ف، أ: "من".
[17393]:المسند (4/344).
[17394]:في ت: "زرارة بن أبي أوفى".
[17395]:المسند (4/344).
[17396]:في ت: "إسماعيل".
[17397]:المسند (2/364) وصحيحح مسلم برقم (2551)
[17398]:في ت: "أدرك أبواه عنده".
[17399]:في ف: "ولا علم".
[17400]:المسند (2/254) وسنن الترمذي برقم (3545).
[17401]:في ت: "قال".
[17402]:في ف: "من برهما بعد موتهما".
[17403]:المسند (3/497) وسنن أبي داود برقم (5142) وسنن ابن ماجة برقم (3664).
[17404]:في أ: "عبيد الله".
[17405]:في ت، ف: "فقال".
[17406]:في ف: "عند رجلها".
[17407]:المسند (3/429) وسنن النسائي (6/11) وسنن ابن ماجة برقم (2781).
[17408]:في ت، ف: "معدى كرب".
[17409]:زيادة من ف، أ.
[17410]:المسند (4/132) وسنن ابن ماجة برقم (3661).
[17411]:زيادة من ف، أ، والمسند.
[17412]:المسند (4/64).
[17413]:في ف، أ: "يزيد".
[17414]:في ت: "فسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل".
[17415]:مسند البزار برقم (1872)"كشف الأستار" ووقع فيه: "ولا بركزة" وفي مجمع الزوائد: "ولا بركة".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً } .

يقول تعالى ذكره : وكن لهما ذليلاً رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن لله معصية ، ولا تخلفهما فيما أحبّا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : لا تمتنع من شيء يُحبانه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعي ، قال : سمعت هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَاخْفِض لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحبّاه .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : لا تمتنع من شيء أحباه .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : هو أن لا تمتنع من شيء يريدانه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المقرىء أبو عبد الرحمن ، عن حرملة بن عمران ، عن أبي الهداج ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : ما قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : ألم تر إلى قول العبد المذنب للسيد الفظّ الغليظ .

والذّلّ بضم الذال والذّلّة مصدران من الذليل ، وذلك أن يتذلل ، وليس بذليل في الخلقة من قول القائل : قد ذَلَلت لك أذلّ ذلة وذلاً ، وذلك نظير القلّ والقلة ، إذا أسقطت الهاء ضمت الذال من الذّلّ ، والقاف من القُلّ ، وإذا أثبتت الهاء كُسِرت الذال من الذّلة ، والقاف من القِلّة ، لما قال الأعشى :

*** وَمَا كُنْتُ قُلاّ قبلَ ذلكَ أزْيَبَا ***

يريد : القلة . وأما الذّل بكسر الذال وإسقاط الهاء فإنه مصدر من الذّلول من قولهم : دابة ذَلول : بينة الذلّ ، وذلك إذا كانت لينة غير صعبة . ومنه قول الله جلّ ثناؤه : هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً يُجمع ذلك ذُلُلاً ، كما قال جلّ ثناؤه : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكَ ذُلُلاً . وكان مجاهد يتأوّل ذلك أنه لا يتوعّر عليها مكان سلكته .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق والشام وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ بضمّ الذال على أنه مصدر من الذليل . وقرأ ذلك سعيد بن جبير وعاصم الجَحْدَرِيّ : «جنَاحَ الذّلّ » بكسر الذال .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا بهز بن أسد ، قال : حدثنا أبو عَوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ : «وَاخْفِضْ لَهُما جُناحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال : كن لهما ذليلاً ، ولا تكن لهما ذلولاً .

حدثنا نصر بن عليّ ، قال : أخبرني عمر بن شقيق ، قال : سمعت عاصما الجحدري يقرأ : «وَاخْفِضْ لَهُما جنَاجَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ » قال : كن لهما ذليلاً ، ولا تكن لهما ذَلولاً .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عمر بن شقيق ، عن عاصم ، مثله .

قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل الذي تأوّله عاصم كان ينبغي أن تكون قراءته بضم الذال لا بكسرها .

حدثنا نصر وابن بشار وحُدثت عن الفراء ، قال : ثني هشيم ، عن أبي بشر جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، أنه قرأ : «وَاخفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ » . قال الفرّاء : وأخبرني الحكيم بن ظهير ، عن عاصم بن أبي النّجود ، أنه قرأها الذّلّ أيضا ، فسألت أبا بكر فقال : الذّلّ قرأها عاصم .

وأما قوله : وَقُلْ رَبّ ارْحمْهُما كمَا رَبّيَانِي صَغِيرا فإنه يقول : ادع الله لوالديك بالرحمة ، وقل ربّ ارحمهما ، وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك ، كما تعطّفا عليّ في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا ، حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُلْ رَبّ ارْحَمْهُما كمَا رَبّيانِي صَغِيرا هكذا عُلّمتم ، وبهذا أمرتم ، خذوا تعليم الله وأدبه .

ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو مادّ يديه رافع صوته يقول : «مَنْ أدْرَكَ وَالِدَيهِ أوْ أحَدَهُما ثُمّ دَخَلَ النّارَ بَعْدَ ذلكَ فَأبْعَدَهُ اللّهُ وأسْحَقَهُ » . ولكن كانوا يرون أنه من بَرّ والديه ، وكان فيه أدنى تُقي ، فإن ذلك مُبْلِغه جسيم الخير . وقال جماعة من أهل العلم : إن قول الله جلّ ثناؤه : وَقُل رَبّ ارحَمْهُما كمَا رَبّيانِي صَغِيرا منسوخ بقوله : ما كانَ للنّبِيّ والّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَو كانُوا أُولي قُربَى من بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُم أنّهُم أصْحابُ الجَحِيمِ . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقُل رَبّ ارحَمْهُما كمَا رَبّيانِي صَغِيرا ثم أنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا : ما كانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَو كانُوا أُولي قُربَى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، قال في سورة بني إسرائيل إمّا يَبْلُغانّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أو كِلاهُما . . . إلى قوله وَقُل رَبّ ارْحَمْهُما كمَا رَبّيانِي صَغِيرا فنسختها الاَية التي في براءة ما كانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولي قُرْبَى . . . الاَية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس وَقُلْ رَبّ ارْحَمْهُما . . . الاَية ، قال : نسختها الاَية التي في براءة ما كانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكينَ . . . الاَية .

وقد تحتمل هذه الاَية أن تكون وإن كان ظاهرها عامّا في كلّ الاَباء بغير معنى النسخ ، بأن يكون تأويلها على الخصوص ، فيكون معنى الكلام : وقل ربّ ارحمهما إذا كانا مؤمنين ، كما رَبياني صغيرا ، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء . وعَنَى بقول ربياني : نَمّيَاني .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

قد انتُقل إليه انتقالاً بديعاً من قوله : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله ، وتنبيهاً على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما . وفي الحديث " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير "

وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه . والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملاً لأبويه .

وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] الآية .

والكاف في قوله : { كما ربياني صغيراً } للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف ، ومثاله قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] ، أي ارحمهما رحمة تكافىء ما ربياني صغيرا .

و{ صغيراً } حال من ياء المتكلم .

والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد ، وصغرالولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولداً فصار قوله : { كما ربياني صغيراً } قائماً مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما . فالتربية تكملة للوجود ، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها . والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر ، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة .

والأمر يقتضي الوجوب . وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله . وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل .

ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين :

أحدهما : نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه ، وهو الشكر ، تخلقاً بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور ، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة .

وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها .

والمقصد الثاني عمراني ، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العُرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة ، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم ، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساسسٍ بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن . ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم ، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس .

جاء في الحديث : « أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذ بكَ من القطيعة . فقال الله : أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك » وفي الحديث : « إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم » .

وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضاً ، وفي اتحاد بعضهم مع بعض ، قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] .

وزاده الإسلام توثيقاً بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف . وقد بينا ذلك في بابه من « كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية » .