{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }
في هذه السورة الكريمة ، بشارة وأمر لرسوله عند حصولها ، وإشارة وتنبيه على ما يترتب على ذلك .
1- سورة " النصر " تسمى –أيضاً- سورة : [ إذا جاء نصر الله والفتح ] ، وتسمى سورة " التوديع " ، وهي من السور المدنية ، قيل : نزلت عند منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر ، وقيل : نزلت بمنى في أيام التشريق ، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وقيل : نزلت عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين .
وكان نزولها بعد سورة " الحشر " ، وقبل سورة " النور " ، وهي ثلاث آيات .
2- وقد تضافرت الأخبار رواية وتأويلا على أن هذه السورة تومئ إلى قرب نهاية أجل النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الآثار في هذا المعنى ، منها ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة [ إذا جاء نصر الله والفتح ] ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال : " قد نُعِيتْ إليَّ نفْسِي " ، فبكت ثم ضحكت ، وقالت : أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : " اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي " فضحكت .
وأخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : كان عمر –رضي الله عنه- يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم قد وَجَد في نفسه – أي : تغير وغضب- وقال : لماذا يَدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه ممن علمتم . فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم . . فقال : ما تقولون في قوله –تعالى- ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ، فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره ، إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فقال . . عمر : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له . . . فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول .
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة نزلت من القرآن هذه السورة( {[1]} ) .
والسورة الكريمة وعد منه –تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر والفتح ، وبشارة بدخول أفواج الناس في دين الله ، وأمر منه –سبحانه- بالمواظبة على حمده واستغفاره .
النصر : التغلب على العدو ، والإِعانة على بلوغ الغاية ، ومنه قولهم : قد نصر الغيث الأرض ، أي : أعان على إظهار نباتها .
والمراد به هنا : إعانة الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه ، حتى حقق له النصر عليهم .
والفتح : يطلق على فتح البلاد عَنْوَةً والتغلب على أهلها ، ويطلق على الفصل والحكم بين الناس ، ومنه قوله - تعالى - : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } والمراد به : هنا فتح مكة . وما ترتب عليه من إعزاز الدين ، وإظهار كلمة الحق .
قال الإِمام ابن كثير : والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولا واحدا ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم - أي : تنتظر - بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة ، دخلوا فى دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت - أي : اجتمعت - جزيرة العرب على الإِيمان ، ولم يبق فى سائر قبائل العرب إلا مظهر للإِسلام ، ولله الحمد والمنة .
هذه السورة الصغيرة . . كما تحمل البشرى لرسول الله [ ص ] بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ؛ وكما توجهه [ ص ] حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار . .
كما تحمل إلى الرسول [ ص ] البشرى والتوجيه . . تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج ، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص ، والانطلاق والتحرر . . هذه القمة السامقة الوضيئة ، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام . ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم .
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية إلامام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله [ ص ] يكثر في آخر أمره من قوله : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه " وقال : " إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا ؛ فقد رأيتها " . . ( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) . .
[ ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص ] . .
وقال ابن كثير في التفسير : والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة . قولا واحدا . فإن أحياء العرب كانت تتلوم [ أي تنتظر ] بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله [ ص ] وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي . . . " الحديث " . .
فهذه الرواية هي التي تتفق مع ظاهر النص في السورة : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . . الخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك ، مع توجيه النبي [ ص ] إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة .
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس ؛ لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها .
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ? فقال عمر : إنه ممن قد علمتم . فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم . فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل : ( إذا جاء نصر الله والفتح )? فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئا . فقال لي : أكذلك تقول يا بن عباس ? " فقلت لا . فقال : ما تقول ? فقلت : هو أجل رسول الله [ ص ] أعلمه له . قال : ( إذا جاء نصر الله والفتح )فذلك علامة أجلك( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) . فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول [ تفرد به البخاري ] .
فلا يمتنع أن يكون الرسول [ ص ] حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل ، وأنه سيلقى ربه قريبا . فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول الله [ ص ] أعلمه له . . الخ . .
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي - بإسناده - عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . . دعا رسول الله [ ص ] فاطمة وقال : " إنه قد نعيت إلي نفسي " فبكت . ثم ضحكت . وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : " اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي " فضحكت .
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة . فكأنها نزلت والعلامة حاضرة . أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق . فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول الله [ ص ] أنه أجله . . إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقا مع ظاهر النص القرآني . وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه . . عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : " دعا رسول الله [ ص ] فاطمة عام الفتح فناجاها ، فبكت ، ثم ناجاها فضحكت . قالت : فلما توفي رسول الله [ ص ] سألتها عن بكائها وضحكها . قالت : أخبرني رسول الله [ ص ] أنه يموت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران . فضحكت . . " [ أخرجه الترمذي ] .
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني ، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه . من أنه كانت هناك علامة بين الرسول [ ص ] وربه هي : ( إذا جاء نصر الله والفتح . . )فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها .
ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة . . فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير :
( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره ، إنه كان توابا ) . . .
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص ، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول [ ص ] ودور المؤمنين في هذه الدعوة ، وحدهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر . . هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله . . . ) . . فهو نصر الله يجيء به الله : في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء ، وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لإشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم . وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراسا ، ويجعلهم عليه أمناء . .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إذا جاءك نصر الله يا محمد على قومك من قريش ، والفتح -فتح مكة- ، ورأَيْتَ النّاسَ من صنوف العرب وقبائلها -أهل اليمن منهم ، وقبائل نزار- يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا ، يقول : في دين الله الذي ابتعثك به ، وطاعتك التي دعاهم إليها أفواجا ، يعني : زُمَرا ، فوجا فوجا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ما قلنا في قوله : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } : فتح مكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : }إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } النصر حين فتح الله عليه ونصره .
حدثني إسماعيل بن موسى ، قال : أخبرنا الحسين بن عيسى الحنفيّ ، عن مَعْمر ، عن الزهريّ ، عن أبي حازم ، عن ابن عباس ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، إذ قال : «اللّهُ أكْبَرُ ، اللّهُ أكْبَرُ ، جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ، جاءَ أهْلُ اليَمَنِ » ، قيل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : «قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبِهُمْ ، لَيّنَةٌ طِباعُهُم ، الإيمَانُ يُمَانٍ ، والْفِقْهُ يَمانٍ ، والْحكْمَةُ يَمانِيَةٌ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله وأتوب إليه . قالت : فقلت : يا رسول الله ، أراك تُكثر قول : سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقال : «خَبّرَنِي رَبّي أنّي سأَرَى عَلامَةً فِي أُمّتِي ، فإذَا رأيْتُها أكْثرْتُ مِنْ قَوْلِ سُبْحانَ اللّهِ وبِحَمْدِهِ ، وأسْتَغْفِرُهُ وأتُوبُ إلَيْهِ ، فَقَدْ رأيْتُها { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } فتْحُ مَكّة ، { ورأَيْت النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا } » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن عائشة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة ، قالت : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يُكثر قبل موته من قول سبحان الله وبحمده ، ثم ذكر نحوه .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد ، عن داود ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عكرِمة قال : لما نزلت : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ، وَجَاءَ أهْلُ اليَمَنِ » ، قالوا : يا نبيّ الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : «رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ ، لَيّنَةٌ طِباعُهُمْ ، الإيمَانُ يمانِ ، والْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ » .
وأمّا قوله { أفْوَاجا } فقد تقدّم ذكره في معنى أقوال أهل التأويل . وقد :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فِي دِينِ اللّهِ أفْواجا } قال : زُمرا زُمرا .
بسم الله الرحمن الرحيم { إذا جاء نصر الله } إظهاره إياك على أعدائك { والفتح } فتح مكة ، وقيل : المراد جنس نصر الله المؤمنين ، وفتح مكة وسائر البلاد عليهم ، وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزا للإشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها ، فتقرب منها شيئا فشيئا ، وقد قرب النصر من وقته فكن مترقبا لوروده ، مستعدا لشكره .
قرأ ابن عباس : { إذا جاء نصر الله والفتح } ، وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمعاً من الصحابة الأشياخ وبالحضرة لابن عباس عن معنى هذه السورة وسببها ، فقالوا كلهم بمقتضى ظاهر ألفاظها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عند الفتوح التي فتحت عليه مكة وغيرها بأن يسبح ربه ويحمده ويستغفره ، فقال لابن عباس : ما تقول أنت يا عبد الله ؟ فقال : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعلمه الله بقربه إذا رأى هذه الأشياء ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما ذكرت{[12011]} ، وهذا المنزع الذي ذكره ابن عباس ذكره ابن مسعود وأصحابه ومجاهد وقتادة والضحاك ، وروت معناه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه عليه السلام لما فتحت مكة وأسلمت العرب جعل يكثر أن يقول «سبحان الله وبحمده ، اللهم إني أستغفرك » ، يتأول القرآن في هذه السورة{[12012]} ، وقال لها مرة : «ما أراه إلا حضور أجلي » ، وتأوله عمر والعباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصدقهما{[12013]} . والنصر الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو غلبته لقريش ولهوازن وغير ذلك ، { والفتح } : هو فتح مكة والطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن .
سميت هذه السورة في كلام السلف { سورة إذا جاء نصر الله والفتح } . روى البخاري إن عائشة قالت : لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح الحديث .
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير { سورة النصر } لذكر نصر الله فيها ، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا .
وهي معنونة في جامع الترمذي { سورة الفتح } لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } .
وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في الإتقان لما فيها من الإيماء إلى وداعه صلى الله عليه وسلم اه . يعني من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة .
واختلف في وقت نزولها فقيل نزلت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر أي في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء نصر أهل اليمن فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن? قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية اه ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر .
ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة وعليه فالفتح مستقبل دخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال { إذا } ويحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم جاء نصر الله والفتح على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع لتحقق وقوعه أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة .
وعن قتادة : نزلت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين .
وقال الواحدي عن ابن عباس نزلت منصرفه من حنين ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا ، وهو في سنة الوفود سنة تسع ، وعليه تكون { إذا } مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين .
وروى البزاز والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها أنزلت أواسط أيام التشريق أي عام حجة الوداع . وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى ابن عبيدة وهو ضعيف . وقال أحمد بن حنبل : لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون { إذا } مستعملة للزمن الماضي لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا .
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف .
وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري ، هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال { إذا جاء نصر الله والفتح } وذلك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره } .
وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثل ما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال : أنه قد نعيت إلى نفسي فبكت الخ ، فإن قوله لما نزلت مدرج من الراوي ، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن .
وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور ، وقال نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور . وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر .
وعن ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى .
وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات ، وأقصر من سورة العصر . وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات . وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث طعن عمر بن الخطاب { رض } فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن { إنا أعطيناك الكوثر } و{ إذا جاء نصر الله والفتح } .
والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة ، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر كما قال ابن أحد قوليه .
والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآخرة .
ووعدوه بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحد الذي لا يفي بما تطلبه همته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } .
{ إذا } اسم زمان مبهم يتعين مقدارهُ بمضمون جملةٍ يضاف إليها هو . ف { إذا } اسمُ زمان مطلق ، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالباً . ولذلك يضمَّن معنى الشرط غالباً ، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالباً لإفادة التحقق ، وقد يكون مضارعاً كقوله تعالى : { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } [ الشورى : 29 ] .
ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي ، ولا تضمن { إذا } معنى الشرط حينئذ وإنما هي لمجرد الإِخبار دون قصد تعليق نحو : { وإذَا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] .
و { إذا } هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء في قوله : { فسبح بحمد ربك } وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت .
والنصر : الإِعانة على العدوّ . ونصر الله يعقبه التغلب على العدو . و{ الفتح } : امتلاك بلد العدوّ وأرضِه لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى : { ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } [ المائدة : 23 ] ، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأَرضين التي لها شعاب وثغور قال لبيد :
وأَجَنَّ عوراتِ الثغور ظَلاَمُها
وقد فتح المسلمون خيْبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد ، وهو المعهود في قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك اللَّه نصراً عزيزاً } [ الفتح : 1 3 ] .
فإضافة { نصر } إلى { اللَّه } تشعر بتعظيم هذا النصر وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها .
و { جاء } مستعمل في معنى : حصَل وتحقق مجازاً .
والتعريف في « الفتح » للعهد وقد وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم به غير مرة من ذلك قوله تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } [ القصص : 85 ] وقوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللَّه آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } [ الفتح : 27 ] . وهذه الآية نزلت عام الحديبية وذلك قبل نزول سورة { إذا جاء نصر الله } على جميع الأقوال .
وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمَن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور ، يعنون الحصون . وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد به وأهل مَكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبي صلى الله عليه وسلم ويتلومون بدخولهم في الإِسلام فتحَ مكة يقولون : إنْ ظهر محمد على قومه فهو نبيء .
وتكرر أنْ صَدَّ بعضُهم بعضاً ممن يريد اتباع الاسلام عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإِسلام أو غلب الشرك .
أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال : « لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دَعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبيء » .
وعن الحسن : لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس لنا به يَدانِ فكانوا يدخلون في الإِسلام أفواجاً . فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها .
ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإِسلام وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإِسلام سنة الوفود .
وعلى ما روي عن ابن عمر : « أنها نزلت في حجة الوداع » يكون تعليق جملة : { فسبح بحمد ربك } على الشرط الماضي مراداً به التذكير بأنه حصل ، أي إذا تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإِسلام بلادَ العرب فسبح بحمد ربك ، وهو مراد مَن قال من المفسرين { إذا } بمعنى ( قد ) ، فهو تفسير حاصل المعنى ، وليست { إذا } مما يأتي بمعنى ( قد ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وتسمى سورة " التوديع " .. وهي آخر سورة نزلت جميعا ، قاله ابن عباس في صحيح مسلم . ... . قاله ابن عباس في صحيح مسلم ....
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قد تقدم أنها تعدل ربع القرآن ، و " إِذَا زُلْزِلَتِ " تعدل ربع القرآن .
وقال النسائي : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، أخبرنا جعفر ، عن أبي العُمَيس( ح ) وأخبرنا محمد بن سليمان ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو العُمَيس ، عن عبد المجيد بن سهيل عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قال لي ابن عباس : يا ابن عتبة ، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت ؟ قلت : نعم ، " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " قال : صدقت
وروى الحافظ أبو بكر البزار والبيهقي ، من حديث موسى بن عبيدة الرّبذي عن صدقة بن يَسَار ، عن ابن عمر قال : أنزلت هذه السورة : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق ، فعرف أنه الوداع ، فأمر براحلته القصواء فَرحَلت ، ثم قام فخطب الناس ، فذكر خطبته المشهورة
وقال الحافظ البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا الأسفاطي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال : " إنه قد نُعِيت إليّ نفسي " ، فبكت ثم ضحكت ، وقالت : أخبرني أنه نُعيت إليه نفسُه فبكيت ، ثم قال : " اصبري فإنك أول أهلي لحاقًا بي " فضحكت
وقد رواه النسائي - كما سيأتي - بدون ذكر فاطمة .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة الصغيرة . . كما تحمل البشرى لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ؛ وكما توجهه [صلى الله عليه وسلم] حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار . .
كما تحمل إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم] البشرى والتوجيه . . تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج ، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص ، والانطلاق والتحرر . . هذه القمة السامقة الوضيئة ، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام . ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم .
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يكثر في آخر أمره من قوله : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه " وقال : " إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا ؛ فقد رأيتها " . . ( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) . .
[ ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص ] . .
وقال ابن كثير في التفسير : والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة . قولا واحدا . فإن أحياء العرب كانت تتلوم [ أي تنتظر ] بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي . . . " الحديث " . .
فهذه الرواية هي التي تتفق مع ظاهر النص في السورة : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . . الخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيئ بعد ذلك ، مع توجيه النبي [ ص ] إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة .
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس ؛ لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها .
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ? فقال عمر : إنه ممن قد علمتم . فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم . فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل : ( إذا جاء نصر الله والفتح )? فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئا . فقال لي : أكذلك تقول يا بن عباس ? " فقلت لا . فقال : ما تقول ? فقلت : هو أجل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أعلمه له . قال : ( إذا جاء نصر الله والفتح )فذلك علامة أجلك( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) . فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول [ تفرد به البخاري ] .
فلا يمتنع أن يكون الرسول [صلى الله عليه وسلم] حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل ، وأنه سيلقى ربه قريبا . فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أعلمه له . . الخ . .
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي - بإسناده - عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . . دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاطمة وقال : " إنه قد نعيت إلي نفسي " فبكت . ثم ضحكت . وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : " اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي " فضحكت .
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة . فكأنها نزلت والعلامة حاضرة . أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق . فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه أجله . . إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقا مع ظاهر النص القرآني . وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه . . عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : " دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاطمة عام الفتح فناجاها ، فبكت ، ثم ناجاها فضحكت . قالت : فلما توفي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سألتها عن بكائها وضحكها . قالت : أخبرني رسول الله [ ص ] أنه يموت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران . فضحكت . . " [ أخرجه الترمذي ] .
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني ، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه . من أنه كانت هناك علامة بين الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وربه هي : ( إذا جاء نصر الله والفتح . . )فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها .
ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة . . فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير ؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في كلام السلف سورة إذا جاء نصر الله والفتح . روى البخاري إن عائشة قالت : لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح الحديث .
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير سورة النصر، لذكر نصر الله فيها ، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا .
وهي معنونة في جامع الترمذي سورة الفتح، لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } .
وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في الإتقان لما فيها من الإيماء إلى وداعه صلى الله عليه وسلم اه . يعني من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة .
واختلف في وقت نزولها فقيل: نزلت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر أي في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء نصر أهل اليمن فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن? قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية اه ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر .
ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة وعليه فالفتح مستقبل دخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال { إذا } ويحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم جاء نصر الله والفتح على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع لتحقق وقوعه أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة .
وعن قتادة : نزلت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين .
وقال الواحدي عن ابن عباس نزلت منصرفه من حنين ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا ، وهو في سنة الوفود سنة تسع ، وعليه تكون { إذا } مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين .
وروى البزاز والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها أنزلت أواسط أيام التشريق أي عام حجة الوداع . وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى ابن عبيدة وهو ضعيف . وقال أحمد بن حنبل : لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون { إذا } مستعملة للزمن الماضي لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا .
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف .
وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري ، هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال { إذا جاء نصر الله والفتح } وذلك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره } .
وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثل ما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال : أنه قد نعيت إلى نفسي فبكت الخ ، فإن قوله لما نزلت مدرج من الراوي ، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن .
وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور ، وقال نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور . وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر .
وعن ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى .
وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات ، وأقصر من سورة العصر . وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات . وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن { إنا أعطيناك الكوثر } و{ إذا جاء نصر الله والفتح } .
والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة ، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر كما قال ابن أحد قوليه .
والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآخرة .
ووعدوه بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحد الذي لا يفي بما تطلبه همته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن النبيّ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين معه والناس كافة ، كانوا ينتظرون نهاية الصراع بين الإسلام والشرك . وكان النبي( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون معه ، يترقبون المستقبل بانفتاحٍ على النصر من الله لدينه على أساس الوعد الإلهي ، وكان العرب يترقبون فتح مكة من حيث طبيعة التقدّم البارز للقوّة الإسلامية في ما تحققه من انتصارات متعددةٍ على قريش ، ما يوحي بأن النتيجة ستكون لمصلحتها في نهاية المطاف . وكان النبي( صلى الله عليه وسلم ) يتابع التخطيط للفتح الكبير بكثيرٍ من الوسائل الخفية والظاهرة التي يحرّكها في هذا الاتجاه ، بانتظار الموعد الأخير واللحظة المناسبة ، وكان المسلمون يتلهّفون للوصول إلى هذه النهاية .
وكان العرب الذين يرغبون في الدخول في دين الله ، ينتظرون ميزان القوّة كيف يتحرك ؛ لأن القوّة كانت هي الأساس في ما يأخذون به ، وفي ما يدعونه من مواقف . وجاءت هذه السورة ، لتقرّب الوعد ، ولتوحي بأنه قريبٌ ، من خلال التعبير بكلمة «نصر الله » التي لا تتخلّف ، ومن خلال الحديث عن الناس الذين يدخلون في دين الله أفواجاً ، ومن خلال التوجيه الإلهي للنبي( صلى الله عليه وسلم ) بما ينبغي له أن يفعله من التسبيح والاستغفار ، ليعيش النبي والمسلمون الروحية المنفتحة على المستقبل من أوسع الآفاق وأصفاها .
وقد يستطيع العاملون في سبيل الله استيحاء مضمونها في مسيرتهم الطويلة نحو الهدف الكبير ، وهو دخول الناس في الإسلام ، وحركتهم في خطّه ، والتفافهم حول شعاراته وفتح الأبواب المغلقة عنه ، ليبقى الأمل حيّاً في قلوبهم ، ولتستمر القوّة في مواقفهم ، والثبات في مواقعهم ، حتى تأتي ساعة نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، وانطلاق حركتهم في ساحة المسؤولية في أجواء الصراع.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآيات الثلاث القصار في ألفاظها العميقة في محتواها تتضمّن مسائل دقيقة كثيرة نسلط عليها الضوء كي تساعدنا في فهم معنى السّورة .
«النصر » : في الآية أضيف إلى اللّه «نصر اللّه » ، وفي كثير من المواضع القرآنية نجد نسبة النصر إلى اللّه . يقول سبحانه { ألا إنّ نصر اللّه قريب } ، ويقول : { وما النصر إلاّ من عند اللّه } . وهذا يعني أن النصر في أي حال لا يكون إلاّ بإرادة اللّه ، نعم ، لابدّ من إعداد القوّة للغلبة على العدو ، لكن الإنسان الموحّد يؤمن أنّ النصر من عند اللّه وحده ، ولذلك لا يغتّر بالنصر ، بل يتجه إلى شكر اللّه وحمده . 2 في هذه السّورة دار الحديث عن نصرة الله ، ثمّ عن «الفتح »والانتصار ، وبعدها عن اتساع رقعة الإسلام ، ودخول النّاس في دين الله زرافات ووحداناً . وبين هذه الثلاثة ارتباط علة ومعلول . فبنصر الله زرافات يتحقق الفتح ، وبالفتح تزال الموانع من الطريق ، ويدخل النّاس في دين الله أفواجاً . بعد هذه المراحل الثلاث التي يشكل كل منها نعمة كبرى تحّل المرحلة الرابعة وهي مرحلة الشكر والحمد . من جهة أُخرى نصر الله ، والفتح ، هدفهما النهائي دخول النّاس في دين الله ، وهداية البشرية .
«الفتح » هنا مذكور بشكل مطلق ، والقرائن تشير كما ذكرنا أنه فتح مكّة الذي كان له ذلك الصدى الواسع المذكور في الآية . «فتح مكّة » فتح في الواقع صفحة جديدة في تاريخ الإسلام ؛ لأن مركز الشرك قد تلاشى بهذا الفتح ، انهدمت الأصنام ، وتبددت آمال المشركين ، وأزيلت السدود والموانع من طريق إيمان النّاس بالإسلام . من هنا ، يجب أن نعتبر فتح مكّة بداية مرحلة تثبيت أسس الإسلام واستقراره في الجزيرة العربية ، ثمّ في العالم أجمع . لذلك لا نرى بعد فتح مكّة مقاومة من المشركين سوى مرّة واحدة قمعت بسرعة ، وكان النّاس بعده يفدون على النّبي من كل أنحاء الجزيرة ليعلنوا إسلامهم .
في نهاية السّورة يأمر الله سبحانه نبيّه - بل كل المؤمنين - بثلاثة أُمور ليجّسد آلاء الشكر وليتخذ الموقف الإيماني المناسب من النصر الإلهي وهي : «التسبيح » ، و«الحمد » ، و«الاستغفار » . «التسبيح » تنزيه الله من كل عيب ونقص . و «الحمد » لوصف الله بالصفات الكمالية . و «الاستغفار » إزاء تقصير العبد . هذا الانتصار الكبير أدى إلى تطهير الساحة من أفكار الشرك ، وإلى تجلي جمال الله وكماله أكثر من ذي قبل ، وإلى اهتداء من ضلّ الطريق إلى الله . هذا الفتح العظيم أدى إلى أن لا يظن فرد بأن الله يترك أنصاره وحدهم ، ولذلك جاء أمر التسبيح لتنزيهه من هذا النقص ، وإلى أن يعلم المؤمنون بأن وعده الحق موصوف بهذا الكمال ، وإلى أن يعترف العباد بنقصهم أمام عظمة الله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إذا جاءك نصر الله يا محمد على قومك من قريش ، والفتح -فتح مكة- ، ورأَيْتَ النّاسَ من صنوف العرب وقبائلها -أهل اليمن منهم ، وقبائل نزار- "يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا" ، يقول : في دين الله الذي ابتعثك به ، وطاعتك التي دعاهم إليها "أفواجا" ، يعني : زُمَرا ، فوجا فوجا . ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى { إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفتحُ } أما النصر فهو المعونة ...
وفي المعنيّ بهذا النصر قولان :
أحدهما : نصر الرسول على قريش ، قاله الطبري .
الثاني : نصره على كل من قاتله من أعدائه ، فإن عاقبة النصر كانت له .
وقيل : إذا جاء نصره بإظهاره إياك على أعدائك ، والفتح : فتحه مكة ، وقيل : المراد حين نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم .
وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإشعار بأن المقدرات متوجهة حين الأزل إلى أوقاتها المعينة لها ، فتعرف منها شيئاً فشيئاً ، وقد قرب النصر من قوته فكان مترقباً لوروده ، مستعداً لشكره .
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوّة . روي أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع . فإن قلت : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه ؟ قلت : النصر الإغاثة والإظهار على العدوّ . ومنه : نصر الله الأرض غاثها . والفتح : فتح البلاد ، والمعنى نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب أو على قريش وفتح مكة ، وقيل : جنس نصر الله للمؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم . ... { فِي دِينِ الله } في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إذا } . ولما كانت المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها ... كانت كأنها آتية إليها ، فلذلك حصل التجوز بالمجيء عن الحصول فقال : { جاء } أي استقر وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل ، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها اسم الذات فقال : { نصر الله } أي الملك الأعظم الذي لا مثل له ولا أمر لأحد معه على جميع الناس في كل أمر يريده .... { والفتح } أي المطلق الصالح لكل فتح الذي نزلت فيه سورته بالحديبية مبشرة له بغلبة حزبه الذين أنت قائدهم وهاديهم ومرشدهم ، لا سيما على مكة التي بها بيته ، ومنها ظهر دينه ، وبها كان أصله ....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص ، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول [صلى الله عليه وسلم ] ودور المؤمنين في هذه الدعوة ، وحدهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر . . هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله . . . ) . . فهو نصر الله يجيء به الله : في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء ، وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لأشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم . وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراسا ، ويجعلهم عليه أمناء . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وقد فتح المسلمون خيْبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد ، وهو المعهود في قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك اللَّه نصراً عزيزاً } [ الفتح : 1- 3 ] .
فإضافة { نصر } إلى { اللَّه } تشعر بتعظيم هذا النصر وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها .
و { جاء } مستعمل في معنى : حصَل وتحقق مجازاً .
والتعريف في « الفتح » للعهد وقد وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم به غير مرة من ذلك قوله تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } [ القصص : 85 ] وقوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللَّه آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } [ الفتح : 27 ] . وهذه الآية نزلت عام الحديبية وذلك قبل نزول سورة { إذا جاء نصر الله } على جميع الأقوال .
وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمَن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور ، يعنون الحصون . وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد به وأهل مَكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبي صلى الله عليه وسلم ويتلومون بدخولهم في الإِسلام فتحَ مكة يقولون : إنْ ظهر محمد على قومه فهو نبيء .
وتكرر أنْ صَدَّ بعضُهم بعضاً ممن يريد اتباع الاسلام عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإِسلام أو غلب الشرك .
أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال : « لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دَعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبيء » .
وعن الحسن : لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس لنا به يَدانِ فكانوا يدخلون في الإِسلام أفواجاً . فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها .
ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإِسلام وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإِسلام سنة الوفود .
وعلى ما روي عن ابن عمر : « أنها نزلت في حجة الوداع » يكون تعليق جملة : { فسبح بحمد ربك } على الشرط الماضي مراداً به التذكير بأنه حصل ، أي إذا تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإِسلام بلادَ العرب فسبح بحمد ربك ، وهو مراد مَن قال من المفسرين { إذا } بمعنى ( قد ) ، فهو تفسير حاصل المعنى ، وليست { إذا } مما يأتي بمعنى ( قد ) .