تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا} (86)

{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا }

التحية هي : اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء ، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها .

وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع ، من السلام ابتداء وردًّا . فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية كانت ، أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة ، أو مثلها في ذلك . ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها .

ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين أحدهما :

أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها ، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا .

الثاني : ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو " أحسن " الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن ، كما هو الأصل في ذلك .

ويستثنى من عموم الآية الكريمة من حيَّا بحال غير مأمور بها ، ك " على مشتغل بقراءة ، أو استماع خطبة ، أو مصلٍ ونحو ذلك " فإنه لا يطلب إجابة تحيته ، وكذلك يستثنى من ذلك من أمر الشارع بهجره وعدم تحيته ، وهو العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر ، فإنه يهجر ولا يُحيّا ، ولا تُرد تحيته ، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى .

ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا ، فإنه مأمور بردّها وبأحسن منها ، ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات والسيئات بقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } فيحفظ على العباد أعمالهم ، حسنها وسيئها ، صغيرها وكبيرها ، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا} (86)

وبعد أن أمر الله - تعالى - عباده بالشفاعة الحسنة ونهاهم عن الشفاعة السيئة ، أتبع ذلك بتعليمهم ادب اللقاء والمقابلة حتى تزيد المودة والمحبة بينهم فقال - تعالى - : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } .

والتحية : تفعلة من حييت ؛ والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية فأدغموا الياء فى الياء . قال الراغب : أصل التحية من الحياة ، بأن يقال حياك الله ، أى : جعل لك حياة ، وذلك إخبار ثم جعل دعاء تحية . يقال : حيا فلان فلانا تحية إذا قال له ذلك .

وكان من عادة العرب إذا لقى بعضهم بعضا أن يقولوا على سبيل المودة : حياك الله فلما جاء الإِسلام أبدل ذلك بالسلام والأمان بأن يقول المسلم لأخيه المسلم : السلام عليكم وأضيف إليها الدعاء برحمة الله وبركاته .

قال ابن كثير : قوله - تعالى - { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } أى : إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه بأفضل مما سلم ، أوردوا عليه بمثل ما سلم . فالزيادة مندوبة والمماثلة مفروضة . فعن سلمان الفارسى قال : " جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم يا رسول الله . فقال " وعليك السلام ورحمة الله " ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . ثم جاء ثالث فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له : ( وعليك ) فقال له الرجل : يا رسول الله ، بأبى أنت وأمى أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت على . فقال ( إنك لم تترك لنا شيئا ) قال الله - تعالى - : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } فرددناها عليك "

وفى الحديث دلالة على أنه لا زيادة فى السلام على هذه الصفة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فأنت ترى أن الآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى أن يردوا التحية على من يحيونهم وأن يفشوا هذه التحية بينهم ، لأن إفشاءها يؤدى إلى توثيق علاقات المحبة والمودة بين المسلمين .

وقد ورد فى الحض على إفشاء السلام أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا . ألا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " .

وقوله { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } تذييل قصد به بعث الناس على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه .

أى : إن الله - تعالى - كان وما زال مهيمنا على عباده ، بصيراً بكل أقوالهم وأعمالهم ، لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء ، وسيحاسب الناس يوم القيامة على أفعالهم ، وسيجازيهم عليها بما يستحقون { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وإذا كان الأمر كذلك فالعاقل هو الذى يفعل ما أمره الله - تعالى - بفعله ، ويجتنب ما أمره الله - تعالى - باجتنابه .

وهذا وقد تكلم العلماء هنا كلاما طويلا فى كيفية السلام وفى فضله ، وفى بعض أحكامه المأثورة ، فارجع إلى كلامهم إن شئت .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا} (86)

71

( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً )

ثم استطرد السياق بعد ذكر الشفاعة إلى الأمر برد التحية بخير منها أو بمثلها . والتحية في المجتمع علاقة من العلاقات التي تدور بها عجلة الحياة في يسر ، إذا اتبع الأدب الواجب فيها . . والمناسبة قريبة بينها - في جو المجتمع - وبين الشفاعة التي سبق التوجيه فيها :

وقد جاء الإسلام بتحيته الخاصة ، التي تميز المجتمع المسلم ؛ وتجعل كل سمة فيه - حتى السمات اليومية العادية - متفردة متميزة ؛ لا تندغم ولا تضيع في سمات المجتمعات الأخرى ومعالمها . .

جعل الإسلام تحيته : " السلام عليكم " أو " السلام عليكم ورحمة الله " أو " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " . . والرد عليها بأحسن منها بالزيادة على كل منها - ما عدا الثالثة فلم تبق زيادة لمستزيد - فالرد على الأولى [ وعليكم السلام ورحمة الله ] والرد على الثانية [ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ] . والرد على الثالثة [ وعليكم . . ] إذ أنها استوفت كل الزيادات ، فترد بمثلها . . . وهكذا روي عن النبي [ ص ] . .

ونقف أمام اللمسات الكامنة في آية التحية هذه :

إنها - أولا - تلك السمة المتفردة ، التي يحرص المنهج الإسلامي على أن يطبع بها المجتمع المسلم بحيث تكون له ملامحه الخاصة ، وتقاليده الخاصة - كما أن له شرائعه الخاصة ونظامه الخاص - وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الخاصية بالتفصيل عند الكلام عن تحويل القبلة ، وتميز الجماعة المسلمة بقبلتها ، كتميزها بعقيدتها . وذلك في سورة البقرة من قبل في الظلال .

وهي - ثانيا - المحاولة الدائمة لتوثيق علاقات المودة والقربى بين أفراد الجماعة المسلمة . . وإفشاء السلام ، والرد على التحية بأحسن منها ، من خير الوسائل لإنشاء هذه العلاقات وتوثيقها . وقد سئل رسول الله [ ص ] أي العمل خير ؟ قال : " تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " . . هذا في إفشاء السلام بين الجماعة المسلمة ابتداء . وهو سنة . أما الرد عليها فهو فريضة بهذه الآية . . والعناية بهذا الأمر تبدو قيمتها عند الملاحظة الواقعية لآثار هذا التقليد في إصفاء القلوب ، وتعارف غير المتعارفين ؛ وتوثيق الصلة بين المتصلين . . وهي ظاهرة يدركها كل من يلاحظ آثار مثل هذا التقليد في المجتمعات ، ويتدبر نتائجها العجيبة !

وهي - ثالثا - نسمة رخية في وسط آيات القتال قبلها وبعدها . . لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية . . السلام . . فالإسلام دين السلام . وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض ، بمعناه الواسع الشامل . السلام الناشى ء من استقامة الفطرة على منهج الله .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا} (86)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ } : إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة . { فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْرُدّوها } يقول : فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم ، { أوْرُدّوها } يقول : أوردّوا التحية .

ثم اختلف أهل التأويل في صفة التحية التي هي أحسن مما حيا به المحيى ، والتي هي مثلها ، فقال بعضهم : التي هي أحسن منها أن يقول المسلّم عليه إذا قيل : «السلام عليكم » : وعليكم السلام ورحمة الله ، ويزيد على دعاء الداعي له¹ والردّ أن يقول : السلام عليكم مثلها ، كما قيل له ، أو يقول : وعليكم السلام ، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } يقول : إذا سلم عليك أحد ، فقل أنت : «وعليك السلام ورحمة الله » ، أو تقطع إلى «السلام عليك » ، كما قال لك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } قال : في أهل الإسلام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج فيما قرىء عليه ، عن عطاء ، قال : في أهل الإسلام .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن شريح ، أنه كان يردّ : «السلام عليكم » ، كما يسلم عليه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم ، أنه كان يردّ : السلام عليكم ورحمة الله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطية ، عن ابن عمر أنه كان يردّ : وعليكم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فحيوا بأحسن منها أهل الإسلام ، أو ردّوها على أهل الكفر . ذكر من قال ذلك :

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : من سلم عليك من خلق الله ، فاردد عليه وإن كان مجوسيّا ، فإن الله يقول : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سالم بن نوح ، قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، في قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها } للمسلمين ، { أوْ رُدّوها } على أهل الكتاب .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها } للمسلمين ، { أوْ رُدّوها } على أهل الكتاب .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها } يقول : حيوا أحسن منها : أي على المسلمين { أوْ رُدّوها } أي على أهل الكتاب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } قال : قال أبي : حقّ على كل مسلم حُيّي بتحية أن يحيي بأحسن منها ، وإذا حياه غير أهل الإسلام أن يردّ عليه مثل ما قال .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الاَية قول من قال ذلك في أهل الإسلام ، ووجه معناه إلى أنه يردّ السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها . وذلك أن الصحاح من الاَثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردّ تحية كل كافر أحسن من تحيته ، وقد أمر الله بردّ الأحسن¹ والمثل في هذه الاَية من غير تمييز منه بين المستوجب ردّ الأحسن من تحيته عليه والمردود عليه مثلها بدلالة يعلم بها صحة قول من قال : عنى بردّ الأحسن المسلم ، وبردّ المثل : أهل الكفر .

والصواب إذْ لم يكن في الاَية دلالة على صحة ذلك ولا بصحته أثر لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلّم عليه بين ردّ الأحسن أو المثل إلا في الموضع الذي خصّ شيئا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون مسلما لها . وقد خصت السنة أهل الكفر بالنهي عن ردّ الأحسن من تحيتهم عليهم أو مثلها ، إلا بأن يقال : «وعليكم » ، فلا ينبغي لأحد أن يتعدّى ما حدّ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما أهل الإسلام ، فإن لمن سلم عليه منهم في الردّ من الخيار ما جعل الله له من ذلك . وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا خبر¹ وذلك ما :

حدثني موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن السريّ الأنطاكي ، قال : حدثنا هشام بن لاحق ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهديّ ، عن سلمان الفارسي ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ! فقال : «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ ! » . ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ! فقال له رسول الله : «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ ! » . ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ! فقال له : «وَعَلَيْكَ ! » فقال له الرجل : يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت عليّ ؟ فقال : «أنّكَ لَمْ تَدَعْ لَنا شَيْئا ، قال الله { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } فرددناها عَلَيْكَ » .

فإت قال قائل : أفواجب ردّ التحية على ما أمر الله به في كتابه ؟ قيل : نعم ، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : ما رأيته إلا يوجبه قوله : { وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، قال : السلام : تطوّع ، والردّ فريضة .

القول في تأويل قوله تعالى : { أنّ اللّهَ كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيبا } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله كان على كل شيء مما تعملون أيها الناس من الأعمال من طاعة ومعصية حفيظا عليكم ، حتى يجازيكم بها جزاءه . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : حسيبا ، قال : حفيظا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وأصل الحسيب في هذا الموضع عندي فَعِيل من الحساب الذي هو في معنى الإحصاء ، يقال منه : حاسبت فلانا على كذا وكذا ، وفلان حاسبه على كذا وهو حسيبه ، وذلك إذا كان صاحب حسابه . وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة أن معنى الحسيب في هذا الموضع : الكافي ، يقال منه : أحسبني الشيء يُحسبني أحسابا ، بمعنى : كفاني ، من قولهم : حسبي كذا وكذا . وهذا غلط من القول وخطأ ، وذلك أنه لا يقال في أحسبت الشيء : أحسبت على الشيء فهو حسيب عليه ، وإنما يقال : هو حسبه وحسيبه ، والله يقول : { إنّ اللّهَ كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيبا } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا} (86)

{ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } الجمهور على أنه في السلام ، ويدل على وجوب الجواب إما بأحسن منه وهو أن يزيد عليه ورحمة الله ، فإن قاله المسلم زاد وبركاته وهي النهاية وإما برد مثله لما روي ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السلام عليك . فقال : وعليك السلام ورحمة الله . وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته . فقال : وعليك فقال الرجل : نقصتني فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية . فقال صلى الله عليه وسلم : إنك لم تترك لي فضلا فردت عليك مثله . وذلك لاستجماعه أقسام المطالب السالمة عن المضار وحصول المنافع وثباتها ومنه قيل ، أو للترديد بين أن يحيى المسلم ببعض التحية وبين أن يحيى بتمامها ، وهذا الوجوب على الكفاية وحيث السلام مشروع فلا يرد في الخطبة ، وقراءة القرآن ، وفي الحمام ، وعند قضاء الحاجة ونحوها . والتحية في الأصل مصدر حياك الله على الإخبار من الحياة ، ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك ، ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام . وقيل المراد بالتحية العطية وواجب الثواب أو الرد على المتهب . وهو قول قديم للشافعي رضي الله تعالى عنه . { إن الله كان على كل شيء حسيبا } يحاسبكم على التحية وغيرها .