تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

175-178 وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا أي : علمناه كتاب اللّه ، فصار العالم الكبير والحبر النحرير .

فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي : انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه ، فإن العلم بذلك ، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات ، فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره ، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب ، وخلعها كما يخلع اللباس .

فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان ، أي : تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين ، وصار إلى أسفل سافلين ، فأزه إلى المعاصي أزا .

فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ بعد أن كان من الراشدين المرشدين .

وهذا لأن اللّه تعالى خذله ووكله إلى نفسه ، فلهذا قال تعالى : وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

ثم ضرب - سبحانه - مثلا لمن لا يعمل بعلمه فقال - تعالى- : { واتل عَلَيْهِمْ . . . } .

قال صاحب المنار : هذا مثل ضربه الله - تعالى - للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها قادرا على بيانها والجدل بها ، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم ، بل كان عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه فسلب هذه الآيات ، لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض ، أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له ، كالثواب الخلق يلقيه صاحبه ، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة على حد قول الشاعر :

خلقوا ، وما خلقوا لمكرمة . . . فكأنهم خلقوا وما خلقوا

رزقوا ، وما رزقوا سماح يد . . . فكأنهم رزقوا وما رزقوا

فحاصل معنى المثل : أن المكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله مع إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه ، لأن كلا منهما لم ينظر في الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص " .

وقوله - تعالى - { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا } أى : أقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك الإنسان الذي آتيناه بأن علمناه إياها ، وفهمناه مراميها ، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ، أو الحية من جلدها .

والمراد أنه خرج منه بالكلية بأن كفر بها ، ونبذها وراء ظهره ، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات .

وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شىء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه . وفى التعبير به مالا يخفى من المبالغة وقوله : { فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين } أى : فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإنسان بسبب ذلك من زمرة الضالين الراسخين في الغواية ، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين :

وفى التعبير بقوله { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } مبالغة في ذم هذا الإنسان وتحقيره ، جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه ، فهو على حد قول الشاعر :

وكان فتى من جند إبليس فارتقى . . . به الحال حتى صار إبليس من جنده

قال الجمل : أتبعه فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعد لواحد بمعنى أدركه ولحقه ، وهو مبالغة في حقه حيث جعل إماما للشيطان .

وثانيهما : أن يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع ، والمفعول الثانى محذوف تقديره : فأتبعه الشيطان خطواته ، أى جعله تابعا لها :

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

172

وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة ، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها ، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها . . ذلك الذي آتاه الله آياته ، فكانت في متناول نظره وفكره ؛ ولكنه انسلخ منها ، وتعرى عنها ولصق بالأرض ، واتبع الهوى ؛ فلم يستمسك بالميثاق الأول ، ولا بالآيات الهادية ؛ فاستولى عليه الشيطان ؛ وأمسى مطروداً من حمى الله ، لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار .

ولكن البيان القرآني المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة ! إنما يصوره في مشهد حي متحرك ، عنيف الحركة ، شاخص السمات ، بارز الملامح ، واضح الانفعالات ؛ يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة ، إلى جانب إيقاعات العبارة الموحية :

( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان ، فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب . . إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث . . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ! ) . .

إنه مشهد من المشاهد العجيبة ، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات . . إنسان يؤتيه الله آياته ، ويخلع عليه من فضله ، ويكسوه من علمه ، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً . ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه ؛ فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة ، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه . . أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان ؟ . . ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ؛ ويتجرد من الغطاء الواقي ، والدرع الحامي ؛ وينحرف عن الهدي ليتبع الهوى ؛ ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم ؛ فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق ، ولا يحميه منه حام ؛ فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه . .