وأعمالهم{[733]} كل ما شاء سليمان ، عملوه .
{ مِنْ مَحَارِيبَ } وهو كل بناء يعقد ، وتحكم به الأبنية ، فهذا فيه ذكر الأبنية الفخمة ، { وَتَمَاثِيلَ } أي : صور الحيوانات والجمادات ، من إتقان صنعتهم ، وقدرتهم على ذلك وعملهم لسليمان { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } أي : كالبرك الكبار ، يعملونها لسليمان للطعام ، لأنه يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره ، " و " يعملون له قدورا راسيات لا تزول عن أماكنها ، من عظمها .
فلما ذكر منته عليهم ، أمرهم بشكرها فقال : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ } وهم داود ، وأولاده ، وأهله ، لأن المنة على الجميع ، وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم . { شُكْرًا } للّه على ما أعطاهم ، ومقابلة لما أولاهم . { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } فأكثرهم ، لم يشكروا اللّه تعالى على ما أولاهم من نعمه ، ودفع عنهم من النقم .
والشكر : اعتراف القلب بمنة اللّه تعالى ، وتلقيها افتقارا إليها ، وصرفها في طاعة اللّه تعالى ، وصونها عن صرفها في المعصية .
ثم بين - سبحانه - بعض الأشياء التى كان الجن يعملونها لسليمان - عليه السلام - فقال : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } .
المحاريب : جمع محراب . وهو كل مكان مرتفع ، ويطلق على المكان الذى يقف فيه الإِمام فى المسجد ، كما يطلق على الغرفة التى يصعد إليها ، وعلى أشرف أماكن البيوت .
قالوا والمراد بها : اماكن العبادة ، والقصور المرتفعة .
والتماثيل : جمع تمثال وقد يكون من حجر أو خشب أو نحاس أو غير ذلك .
قال القرطبى ما ملخصه : والتماثيل جمع تمثال . وهو كل ما صور على مثل صورة حيوان أو غير حيوان . وقيل : كانت من زجاج ونحاس ورخام ، تماثيل أشياء ليست بحيوان .
وذكر أنها صورة الأنبياء والعلماء ، وكانت تصور فى المساجد ليراها الناس . فيزدادوا عبادة واجتهادا .
وهذا يدل على أن ذلك كان مباحا فى زمانهم ، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم .
والجِفان : جمع جَفْنَة . وهى الآنية الكبيرة . والجَوَاب : جمع جابية ، وهى لاحوض الكبير الذى يحبى فيه الماء ويجمع لتشرب منه الدواب .
والقدور : جمع قدر . وهو الآنية التى يطبخ فيها الطعام من نحاس أو فخار أو غيرهما .
وراسيات : جمع راسية بمعنى ثابتة لاتتحرك .
أى : أن الجن يعملون لسليمان - عليه السلام - ما يشاء من مساجد وقصور ، ومن صور متنوعة ، ومن قصاع كبار تشبه الأحواض الضخمة ، ومن قدور ثابتات على قواعدها ، بحيث لا تحرك لضخامتها وعظمها .
وقوله - سبحانه - : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } مقول لقول محذوف .
أى : أعطينا سليمان كل هذه النعم ، وقلنا له ولأهله : اعملوا يا آل دواد عملا صالحا ، شكرا لله - تعالى - على فضله وعطائه ، وقليل من عبادى هو الذى يشكرنى شكراخ الصا على نعمى وفضلى وإحسانى .
وقوله { شُكْراً } يجوز أن يكون مفعولا لأجله . أى : اعملوا من أجل الشكر ، أو مصدرا واقعا موقع الحال . أى : اعملوا شاكرين .
و { مِّنْ عِبَادِيَ } صفة له . و { الشكور } مبتدأ مؤخر . وهكذا يختم القرآن هذه النعم بهذا التغيب الذى يكشف عن طبيعة الناس فى كل زمان ومكان ، حتى يحملهم على أن يخالفوا أهواءهم ونفوسهم ، ويكثروا من ذلك الله - تعالى - وشكره .
وحقيقة الشكر : الاعتراف بالنعمة للمنعم ، والثناء عليه لإِنعامه ، واستعمال نعمه - سبحانه - فيما خلقت له .
والانسان الشكور : هو المتوفر على أداء الشكر ، الباذل قصارى جهده فى ذلك ، عن طريق قلبه ولسانه وجوارحه .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ اعْمَلُوَاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ } .
يعني تعالى ذكره : يعمل الجنّ لسليمان ما يشاء من محاريب ، وهي جمع محراب ، والمحراب : مقدّم كل مسجد وبيت ومصلّى ومنه قول عديّ بن زيد :
كَدُمَى العاجِ فِي المَحارِيبِ أوْ كالْ *** بَيضِ في الرّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : بنيان دون القصور .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وقصور ومساجد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : المحاريب : المساكن . وقرأ قول الله : فَنادَتْهُ المَلائكَةُ وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المحْرابِ .
حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : المحاريب : المساجد .
وقوله : وتَماثِيلَ يعني أنهم يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وتَماثِيلَ قال : من نحاس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وتَماثِيلَ قال : من زجاج وشَبَه .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قول الله وتَماثِيلَ قال : الصور .
وقوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ يقول : وينحتون له ما يشاء من جفان كالجواب وهي جمع جابية ، والجابية : الحوض الذي يُجْبَي فيه الماء ، كما قال الأعشى ميمون بن قَيس :
تَرُوحُ على نادِي المُحَلّقِ جَفْنَةٌ *** كَجابِيَةِ الشّيْخِ العِرَاقِيّ تَفْهَقُ
فَصَبّحْتُ جابِيَةً صُهارِجا *** كأنّها جِلْدُ السّماءِ خارِجا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ يقول : كالجوبة من الأرض .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَجِفانٍ كالجَوَابِ يعني بالجواب : الحياض .
وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : كالحياض .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : حياض الإبل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : جفان كجوبة الأرض من العظم ، والجوبة من الأرض : يستنقع فيها الماء .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ كالحياض .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك : وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : كحياض الإبل من العظم .
وقوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ يقول : وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهنّ ، ولا تحوّل لعظمهنّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : عظام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : عِظام ثابتات الأرض لا يزُلن عن أمكنتهن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : مثال الجبال من عِظمها ، يعمل فيها الطعام من الكبر والعظم ، لا تحرّك ، ولا تنقل ، كما قال للجبال : راسيات .
وقوله : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا يقول تعالى ذكره : وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له على ما أنعم عليكم من النعم التي خَصّكم بها عن سائر خلقه مع الشكر له على سائر نعمه التي عمكم بها مع سائر خلقه وتُرِك ذكر : وقلنا لهم ، اكتفاء بدلالة الكلام على ما ترك منه ، وأخرج قوله شُكْرا مصدرا من قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ لأن معنى قوله اعْمَلُوا اشكروا ربكم بطاعتكم إياه ، وأن العمل بالذي رضي الله ، لله شكر . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا موسى بن عبادة ، عن محمد بن كعب ، قوله : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال : الشكر : تقوى الله ، والعمل بطاعته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني حَيْوَة ، عن زُهْرة بن معبد ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وأفضل الشكر : الحمد .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال : أعطاكم وعلمكم وسخر لكم ما لم يسخر لغيركم ، وعلّمكم منطق الطير ، اشكروا له يا آل داود ، قال : الحمد طرف من الشكر .
وقوله : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشّكُورُ يقول تعالى ذكره : وقليل من عبادي المخلصو توحيدي ، والمفردو طاعتي وشكري على نعمتي عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشّكُورُ يقول : قليل من عبادي الموحّدون توحيدهم .
«المحاريب » الأبنية العالية الشريفة ، قال قتادة القصور والمساجد ، وقال ابن زيد المساكن ، والمحراب أشرف موضع في البيت ، والمحراب موضع العبادة أشرف ما يكون منه ، وغلب عرف الاستعمال في موضع وقوف الإمام لشرفه ومن هذه اللفظة قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]
كدمى العاج في المحاريب أو كال . . . بيض في الروض زهره مستنير{[9614]}
«والتماثيل » قيل كانت من زجاج ونحاس ، تماثيل أشياء ليست بحيوان ، وقال الضحاك كانت تماثيل حيوان ، وكان هذا من الجائز في ذلك الشرع .
قال القاضي أبو محمد : ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قوم : حرم التصوير لأن الصور كانت تعبد ، وحكى مكي في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية وذلك خطأ ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه ، و «الجوابي » جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء الذي يجمع قال الراجز : [ الرجز ]
فصحبت جابية صهارجا . . . كأنه جلد السماء خارجا{[9615]}
وقال مجاهد : «الجوابي » جمع جوبة{[9616]} وهي الحفرة العظيمة في الأرض .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]
نفى الذم عن آل المحلق جفنة . . . كجابية الشيخ العراقيّ تفهق{[9617]}
وأنشده الطبري : تروح على آل المحلق ، ويروى السيح بالسين غير نقط ، وبالحاء غير نقط أيضاً ، وهو الماء الجاري على وجه الأرض ، ويروى الشين والخاء منقوطين ، فيقال أراد كسرى ويقال أراد شيخاً من فلاحي سواد العراق غير معين وذلك أنه لضعفه يدخر الماء في جابيته ، فهي تفهق أبداً فشبهت الجفنة بها لعظمها ، قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد «الجوابي » الحياض ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «كالجواب » بغير ياء في الوصل والوقف ، وقرأ أبو عمرو وعيسى بغير ياء في الوقف وياء في الوصل ، وقرأ ابن كثير بياء فيهما ، ووجه حذف الياء التخفيف والإيجاز ، وهذا كحذفهم ذلك من القاض والغاز والهاد ، وأيضاً فلما كانت الألف واللام تعاقب التنوين وكانت الياء تحذف مع التنوين وجب أن تحذف مع ما عاقبه كما يعملون للشيء أبداً عمل نقيضه ، و { راسيات } معناه ثابتات لكبرها ليست مما ينقل ولا يحمل . ولا يستطيع على عمله إلا الجن وبالثبوت فسرها الناس ، ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا بالطاعات ، وقوله تعالى : { شكراً } يحتمل أن يكون نصبه على الحال ، أي اعملوا بالطاعات في حال شكر منكم لله على هذه النعم ، ويحتمل أن يكون نصبه على جهة المفعول ، أي اعملوا عملاً هو الشكر كأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي نفسها الشكر إذ سدت مسده ، وفي الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال :
«ثلاث من أوتيهن فقد أوتي العمل شكراً العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية »{[9618]} ، وروي أن داود عليه السلام قال يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك ، فقال : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي ، وقال ثابت{[9619]} : روي أن مصلى داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلاً ونهاراً كانوا يتناوبونه دائماً ، وكان سليمان عليه السلام فيما روي يأكل خبز الشعير وطعم أهله الخشكار{[9620]} ويطعم المساكين الدرمك{[9621]} ، وروي أنه ما شبع قط فقيل له في ذلك فقال : أخاف أن أنسى الجياع ، وقوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } يحتمل أن تكون مخاطبة لآل داود ، ويحتمل أن تكون مخاطبة لآل محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى كل وجه ففيها تنبيه وتحريض ، وسع عمر بن الخطاب رجلاً يقول : اللهم اجعلني من القليل ، فقال له عمر : ما هذا الدعاء ؟ فقال الرجل : أردت قوله عز وجل : { وقليل من عبادي الشكور } ، فقال عمر رحمه الله : كل الناس أعلم من عمر .
قال الفقيه الإمام القاضي : وقد قال تعالى { وقليل ما هم }{[9622]} [ ص : 24 ] ، والقلة أيضاً بمعنى الخمور منحة من الله تبارك وتعالى{[9623]} ، فلهذا الدعاء محاسن .
{ يعملون له ما يشاء } جملة مبينة لجملة { يعمل بين يديه } [ سبأ : 12 ] .
و { من محاريب } بيان ل { ما يشاء } .
والمحاريب : جمع محراب ، وهو الحصن الذي يحارب منه العدوُّ والمهاجِم للمدينة ، أو لأنه يرمى من شرفاته بالحِراب ، ثم أطلق على القصر الحصين . وقد سمَّوْا قصور غُمدان في اليمن محاريبَ غُمدانَ . وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية . ثم أطلق المحراب على الذي يُخْتَلَى فيه للعبادة فهو بمنزلة المسجد الخاص ، قال تعالى : { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } وتقدم في سورة آل عمران ( 39 ) . وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة قال تعالى : { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } في سورة ص ( 21 ) .
وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإِمامُ الذي يؤمّ الناس ، يُجعل مثل كوة غير نافذة واصلة إلى أرض المسجد في حائط القبلة يقف الإِمام تحته ، فتسمية ذلك محراباً تسمية حديثة ولم أقف على تعيين الزمن الذي ابتدىء فيه إطلاق اسم المحراب على هذا الموقف . واتخاذ المحاريب في المساجد حدث في المائة الثانية ، والمظنون أنه حدث في أولها في حياة أنس بن مالك لأنه روي عنه أنه تنزه عن الجلوس في المحاريب وكانوا يسمونه الطاقَ أو الطاقَة ، وربما سموه المذبح ، ولم أر أنهم سموه أيامئذ محراباً ، وإنما كانوا يسمون بالمحراب موضع ذبح القربان في الكنيسة ، قال عُمر بن أبي ربيعة :
دُمية عند راهب قسيس *** صوَروها في مذابح المحراب
والمذبح والمحراب مقتبسة من اليهود لما لا يخفى من تفرع النصرانية عن دين اليهودية .
وما حكي عن أنس بن مالك إن صحّ فإنما يُعنى به بيت للصلاة خاص . ورأيت إطلاق المحراب على الطاقة التي في المسجد في كلام الفَراء ، أي في منتصف القرن الثاني ، نقل الجوهري عنه أنه قال : المحاريب صدور المجالس ومنه سمي محرابُ المسجد ، لأن المحراب لم يبق حينئذٍ مطلقاً على مكان العبادة .
ومن الغلط أن جعلوا في المسجد النبوي في الموضع الذي يقرَّب أن يكون النبي يصلي فيه صورَة محراب منفصل يسمونه محراب النبي وإنما هو علامة على تحري موقفه .
والذي يظهر أن المسلمين ابتدأوا فجعلوا طاقات صغيرة علامة على القبلة لئلا يضل الداخل إلى المسجد يريد الصلاة فإن ذلك يقع كثيراً ، ثم وسعوها شيئاً فشيئاً حتى صيروها في صورة نصف دهليز صغير في جدار القبلة يسع موقف الإِمام ، وأحسب أن أول وضعه كان عند بناء المسجد الأموي في دمشق ، ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بجعله في المسجد النبوي حين وسّعه وأعاد بناءه ، وذلك في مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة حسبما ذكر السمهودي في كتاب « خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى » .
والتماثيل : جمع تِمثال بكسر التاء ، ووزنه تِفعال لأن التاء مزيدة وهو أحد أسماء معدودة جاءت على وزن تِفعال بكسر التاء ، وأما قياس هذا الباب وأكثرُه فهو بفتح التاء . والأسماء التي جاءت على هذا الوزن منها مصادر ومنها أسماء ، فأما المصادر فأكثرها بفتح التاء إلا مصدرين : تبيان ، وتلقاء بمعنى اللقاء . وأما الأسماء فورد منها على الكسر نحو من أربعة عشر اسماً منها : تِمثال ، أحصاها ابن دريد ، وزاد ابن العربي في « أحكام القرآن » عن شيخه الخطيب التبريزي تسعة فصارت خمسة وعشرين . والتمثال هو الصورة الممثلة ، أي المجسمة مثل شيء من الأجسام فكان النحاتون يعملون لسليمان صوراً مختلفة كصور موهومة للملائكة وللحيوان مثل الأسود ، فقد كان كرسي سليمان محفوفاً بتماثيل أُسود أربعة عشر كما وصف في الإِصحاح العاشر من سفر الملوك الأول . وكان قد جَعل في الهيكل جابية عظيمة من نحاس مصقول مرفوعة على اثنتي عشرة صورة ثور من نحاس .
ولم تكن التماثيل المجسمة محرَّمَة الاستعمال في الشرائع السابقة ، وقد حرمها الإِسلام لأن الإِسلام أمعن في قطع دَابر الإِشراك لشدة تمكن الإِشراك من نفوس العرب وغيرهم . وكان معظم الأصنام تماثيل فحرّم الإِسلام اتخاذها لذلك ، ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها ولكن لكونها كانت ذريعة للإِشراك . واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظلّ من تماثيل ذوات الروح إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصفة ومثل الصور التي على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يجلس عليه ويداس . وحكم صنعها يتبع اتخاذها . ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات لفائدة اعتيادهن العمل بأمور البيت .
والجفان : جمع جفنة ، وهي القصعة العظيمة التي يجفن فيها الماء . وقدرت الجفنة في التوراة بأنها تسع أربعين بَثَّا ( بالمثلثة ) ولم نعرف مقدار البث عندهم ولا شك أنه مكيال . وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي . وهي جمع : جابية وهي الحوض العظيم الواسع العميق الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع ، قال الأعشى :
نفي الذم عن رهط المحلَّق جفنة *** كجابية الشيخ العراقي تَفْهَق
أي الجفنة في سعتها كجابية الرجل العراقي ، وأهل العراق أهل كروم وغروس فكانوا يجمعون الماء للسقي .
وكانت الجفان المذكورة في الهيكل المعروف عندنا بيت المقدس لأجل وضع الماء ليغلسوا فيها ما يقربونه من المحرَقات كما في الإِصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني .
وكتب في المصحف { كالجواب } بدون ياء بعد الموحدة . وقرأه الجمهور بدون ياء في حالي الوصل والوقف . وقرأه ابن كثير بإثبات الياء في الحالين . وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في حال الوصل وبحذفها في حال الوقف .
والقدور : جمع قِدر وهي إناء يوضع فيه الطعام ليطبخ من لحم وزيت وأدهان وتوابل .
قال النابغة في النعمان بن الحارث الجُلاحي :
له بِفناء البيت سوداء فخمة *** تلقَّم أوصال الجَزور العُراعر
بقية قِدر من قُدور تُورثـت *** لآل الجـلاح كابراً بعد كابر
أي تَسَع قوائم البعير إذا وضعت فيه لتطبخ مَرقاً ونحوه .
وهذه القدور هي التي يطبخ فيها لجند سليمان ولسدنة الهيكل ولخدمه وأتباعه وقد ورد ذكر القدور إجمالاً في الفقرة السادسة عشرة من الإصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني .
والراسيات : الثابتات في الأرض التي لا تُنزل من فوق أثافيها لتداول الطبخ فيها صباحَ مساءَ .
وجملة { اعملوا آل داود شكراً } مقول قول محذوف ، أي قلنا : اعملوا يا آل داود ، ومفعول { اعملوا } محذوف دل عليه قوله : { شكراً } . وتقديره : اعملوا صالحاً ، كما تقدم آنفاً ، عملاً لشكر الله تعالى ، فانتصب { شكراً } على المفعول لأجله . والخطاب لسليمان وآله .
وذُيل بقوله : { وقليل من عبادي الشكور } فهو من تمام المقول ، وفيه حثّ على الاهتمام بالعمل الصالح . ويجوز أن يكون هذا التذييل كلاماً جديداً جاء في القرآن ، أي قلنا ذلك لآل داود فعَمل منهم قليل ولم يعمل كثير وكان سليمان من أول الفئة القليلة .
و { الشكور } : الكثيرُ الشكر . وإذْ كان العمل شكراً أفاد أن العاملين قليل .