ثم ذكر تعالى ، نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم ، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ، ركنا من أركان الإسلام ، حاطا للذنوب والآثام .
وفيه من آثار الخليل وذريته ، ما عرف به إمامته ، وتذكرت به حالته فقال : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي : مرجعا يثوبون إليه ، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية ، يترددون إليه ، ولا يقضون منه وطرا ، { و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد ، حتى الوحش ، وحتى الجمادات كالأشجار .
ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام ، ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم ، فلا يهيجه ، فلما جاء الإسلام ، زاده حرمة وتعظيما ، وتشريفا وتكريما .
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك ، المقام المعروف الذي قد جعل الآن ، مقابل باب الكعبة ، وأن المراد بهذا ، ركعتا الطواف ، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم ، وعليه جمهور المفسرين ، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا ، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج ، وهي المشاعر كلها : من الطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفة ، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر ، وغير ذلك من أفعال الحج .
فيكون معنى قوله : { مُصَلًّى } أي : معبدا ، أي : اقتدوا به في شعائر الحج ، ولعل هذا المعنى أولى ، لدخول المعنى الأول فيه ، واحتمال اللفظ له .
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي : أوحينا إليهما ، وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك ، والكفر والمعاصي ، ومن الرجس والنجاسات والأقذار ، ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : المصلين ، قدم الطواف ، لاختصاصه بالمسجد [ الحرام ] ، ثم الاعتكاف ، لأن من شرطه المسجد مطلقا ، ثم الصلاة ، مع أنها أفضل ، لهذا المعنى .
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد ، منها : أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره ، لكونه بيت الله ، فيبذلان جهدهما ، ويستفرغان وسعهما في ذلك .
ومنها : أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام ، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه .
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن مكانة البيت الحرام ، وعن قصة بنائه ، وعن الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم يتضرع بها إلى الله عند رفعه البيت فقال : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ . . . }
قوله - تعالى - : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنا } معطوف على قوله - تعالى - { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } وجعلنا : بمعنى صرنا . والبيت : المقصود به الكعبة ، إذ غلب استعمال البيت فيها حتى صار اسما لها .
ومثابة للناس : مرجعاً للناس يرجعون إليه من كل جانب ، وهو مصدر ميمي من ثاب القوم إلى المكان رجعوا إليه . فهم يثوبون إليه ثواباً وثوبانا . أو معاذا لهم يلجأون إليه أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره .
والأمن : السلامة من الخوف ، وأمن المكان : اطئمنان أهله به ، وعدم خوفهم من أن ينالهم فيه مكروه فالبيت مأمن ، أي موضع أمن . وأخبر - سبحانه - بأنه جعله أمنا ليدل على كثرة ما يقع به من الأمن حتى صار كأنه نفس الأمن .
وكذلك صار البيت الحرام محفوظاً بالأمن من كل ناحية ، فقد كان الناس في الجاهلية يقتتلون ويعتدي بعضهم على بعض من حوله ، أما أهله فكانوا في أمان واطمئنان . قال تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وقال - تعالى - : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وقد أقرت تعاليم الإِسلام هذه لحرمة للبيت الحرام على وجه لا يضيع حقاً ولا يعطل حداً ، وزادت في تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل قادر عليها .
قال الإِمام ابن كثير : " ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس . أي : جعهل محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه في كل عام استجابة من الله - تعالى - لدعاء خليله إبراهيم في قوله تعالى : { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } ويصفه - تعالى - بأنه جعله أمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له :
{ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } الاتخاذ : الجعل ، تقوم اتخذت فلاناً صديقاً أي : جعلته صديقاً . والمقام في اللغة : موضع القدمين من قام يقوم ، ومقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار ، وهو - على المشهور - تحت المصلى المعروف الآن بهذا الاسم .
ومعنى اتخاذ مصلى منه : القصد إلى الصلاة عنده . فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإِمام مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين " .
ومن العلماء من فسر مقام إبراهيم بالمسجد الحرام ، ومنهم من أطلقه على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها لعبادة الله تعالى .
قال الإِمام ابن كثير : " وقد كان هذا المقام - أي الحجر الذي يسمى مقام إبراهيم - ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر على يمين الداخل من الباب في البقة المستقلة هناك ، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة . . ثم قال : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر - رضي الله عنه - ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة :
ثم قال - تعالى - : { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود } .
عهدنا : أمرنا وأوحينا ، و { أَن } مفسرة المأمور به أو الموصى به المشار إليه بقوله : { عَهِدْنَآ } أي : أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي .
وأضاف - سبحانه - البيت إليه والتكريم ومعنى تطهيره : صيانته من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار والأرجاس والأوثان وكل ما كان مظنة للشرك ، فالمقصود تطهيره من كل رجس حسى ومعنوى .
والطائفين : جمع طائف من طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا دار حول الشيء والمراد بهم : المتقربون إلى الله بالطواف حول الكعبة .
والعاكفين : جمع عاكف ، من عكف على الشيء عكوفاً إذا أقام عليه ملازماً له ، والمراد بهم : المقيمون في الحرم بقصد العبادة ، ويدخل في العبادة ، ويدخل في العبادة مدارسة العلوم الدينية وما يساعد على فهمها .
والركع السجود : الركع جمع راكع ، والسجود : جمع ساجد .
والركوع والسجود من هيئات الصلاة وأركانها ، فمعنى " والركع السجود " الصملون .
فالآية الكريمة جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام : وهم الطائفون وإن لم يكونوا مقيمين ، كمنن يأتون لحج أو عمرة ثم ينصرفون .
والعاكفون الذين يقيمون في الحرم بقصد الإِكثار من العبادة في المسجد الحرام . والمصلون يتقربون إلى الله بالصلوات سواء أكانت فرائص أم نوافل .
ولم يعطف السجود على الركع ، لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان .
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُواْ مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ، وَعَهِدْنَا إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ }
أما قوله : وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً فإنه عطف ب«إذْ » على قوله : وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ . وقوله : { وَإذِا ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ }معطوف على قوله : { يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي } ، { واذكروا إذ ابتلى إبراهيمَ ربّه } ، { وإذ جعلنا البيت مثابة } . والبيت الذي جعله الله مثابة للناس هو البيت الحرام .
وأما المثابة فإن أهل العربية مختلفون في معناها ، والسبب الذي من أجله أنثت فقال بعض نحويي البصرة : ألحقت الهاء في المثابة لما كثر من يثوب إليه ، كما يقال سيارة لمن يكثر ذلك ، ونَسّابة .
وقال بعض نحويي الكوفة : بل المَثَابُ والمثابة بمعنى واحد ، نظيرة المقام والمقامة والمقام ، ذُكّر على قوله لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه ، وأنثت المقامة لأنه أريد بها البقعة . وأنكر هؤلاء أن تكون المثابة كالسّيارة والنّسابة ، وقالوا : إنما أدخلت الهاء في السيارة والنسابة تشبيها لها بالداعية والمثابة مفعلة من ثاب القوم إلى الموضع : إذا رجعوا إليهم فهم يثوبون إليه مَثَابا وَمَثَابةً وَثَوَابا .
فمعنى قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ } وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا يأتونه كل عام ويرجعون إليه ، فلا يقضون منه وطرا . ومن المثاب قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم :
مَثابٌ لأفْنَاء القَبَائِلِ كُلّها تَخُبّ إلَيْهِ اليَعْمَلاتُ الصّلاَئِحُ
ومنه قيل : ثاب إليه عقله ، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : لا يقضون منه وَطَرا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه ، لا يقضون منه وَطَرا .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : أما المثابةُ فهو الذي يثوبون إليه كل سنة لاَ يَدَعُهُ الإنسان إذا أتاه مرّة أن يعود إليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : لا يقضون منه وطرا ، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه .
وحدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثني الوليد بن مسلم ، قال : قال أبو عمرو ، حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ } قال : لا يَنْصرِف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك عن عطاء في قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه من كل مكان ، ولا يقضون منه وطرا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .
حدثني محمد بن عمار الأسدي ، قال : حدثنا سهل بن عامر ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن عطية في قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ } قال : لا يقضون منه وَطَرا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهذيل ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ } قال : يحجّون ويثوبون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي الهذيل ، عن سعيد بن جبير في قوله : { مَثَابَةً للنّاسِ } قال : يحجون ، ثم يحجون ، ولا يقضون منه وطرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن بكير ، قال : حدثنا مسعر ، عن غالب ، عن سعيد بن جبير : { مَثابَةً للنّاسِ } قال : يثوبون إليه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وأمْنا }قال : مجمعا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :
{ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ }قال : يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأمْنا } .
والأمن : مصدر من قول القائل أمِنَ يَأْمَنُ أَمْنا . وإنما سماه الله أمنا لأنه كان في الجاهلية مَعَاذا لمن استعاذ به ، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه ، وكان كما قال الله جل ثناؤه : { أَوَ لَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنَا حَرَما آمِنا وَيُتَخَطّف النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وأمْنا }قال : من أَمّ إليه فهو آمن كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما أمْنا فمن دخله كان آمنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله : { وأمْنا }قال : تحريمه لا يخاف فيه من دخله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَأمْنا }يقول : أمنا من العدوّ أن يحمل فيه السلاح ، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَوْنَ .
حدثت عن المنجاب ، قال : أخبرنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وأمْنا } قال : أمنا للناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : { وَأمْنا }قال : تحريمه لا يخاف فيه من دخله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } .
اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } بكسر الخاء على وجه الأمر باتخاذه مصلّى وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة ، وقراءة عامة قرّاء أهل مكة وبعض قرّاء أهل المدينة . وذهب إليه الذين قرءوه كذلك من الخبر الذي :
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت المقام مصلّى ؟ فأنزل الله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن حميد ، عن أنس ، عن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، فذكر مثله .
قالوا : فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيّهُ صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى فغير جائز قراءتها وهي أمرٌ على وجه الخبر .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } معطوف على قوله : { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي } ، { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } ، فكان الأمر بهذه الآية وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم على قول هذا القائل لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثنا الربيع بن أنس بما حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : من الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم قوله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى ، فهم يصلون خلف المقام .
فتأويل قائل هذا القول : وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأتَمّهُنّ قالَ إنّي جَاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقال : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } . والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ، يدلّ على خلاف الذي قاله هؤلاء ، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين .
وقرأه بعض قرّاء أهل المدينة والشام : «واتّخَذُوا » بفتح الخاء على وجه الخبر .
ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله : «وَاتّخَذُوا » إذا قرىء كذلك على وجه الخبر ، فقال بعض نحويي البصرة : تأويله إذا قرىء كذلك : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا وإذِ اتخذوا من مقام إبْرَاهِيمَ مصلّى .
وقال بعض نحويي الكوفة : بل ذلك معطوف على قوله : جَعَلْنَا فكان معنى الكلام على قوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس واتّخَذُوه مصلى .
والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا : وَاتّخِذُوا بكسر الخاء ، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا ، وأن عمرو بن عليّ :
حدثنا قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، قال : حدثني أبي ، عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَاتّخِذُوا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } وفي مقام إبراهيم .
فقال بعضهم : مقام إبراهيم : هو الحجّ كله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { مَقامِ إبْرَاهِيمَ } قال : الحجّ كله مقام إبراهيم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : الحجّ كله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان . عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الحجّ كله مقام إبراهيم . وقال آخرون : مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء بن أبي رياح : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : لأني قد جعلْتُه إماما فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله :
{ وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : مقامه جمع وعرفة ومِنًى لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله :
{ وَاتخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : مقامه عرفة .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي قال : نزلت عليه وهو واقف بعرفة مقام إبراهيم :
{ اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية .
حدثنا عمرو قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي ، مثله .
وقال آخرون : مقام إبراهيم : الحرم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : الحرم كله مقام إبراهيم .
وقال آخرون : مقام إبراهيم : الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه ، وضعف عن رفع الحجارة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سنان القزاز ، قال : حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، قال : حدثنا إبراهيم بن نافع ، قال : سمعت كثير بن كثير يحدّث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جعل إبراهيم يبنيه ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : { رَبنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر ، فهو مقام إبراهيم .
وقال آخرون : بل مقام إبراهيم ، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى } إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا مما تكلفته الأمم قبلها ، ولقد ذكرَ لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه فيها ، فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخْلَوْلق وانمحى .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } فهم يصلون خلف المقام .
حدثني يونس ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى }وهو الصلاة عند مقامه في الحجّ . والمقام : هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب ، فغسلت شقه ثم دفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر ، فوضعته تحت الشقّ الاَخر فغسلته ، فغابت رجله أيضا فيه ، فجعلها الله من شعائره ، فقال : { وَاتّخِذوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى } .
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون إن مقام إبراهيم : هو المقام المعروف بهذا الاسم ، الذي هو في المسجد الحرام لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب ، ولما :
حدثنا يوسف بن سليمان ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ، فرمل ثلاثا ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين . فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى بمقام إبراهيم الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى هو الذي وصفنا . ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف دون باطنه المجهول ، حتى يأتي ما يدلّ على خلاف ذلك مما يجب التسليم له .
ولا شكّ أن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى } فإن أهل التأويل مختلفون في معناه ، فقال بعضهم : هو المُدّعَى . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى } قال : مصلى إبراهيم مُدّعًى .
وقال آخرون : معنى ذلك : اتخذوا مصلى تصلون عنده . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : أمروا أن يصلوا عنده .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هو الصلاة عنده . فكأن الذين قالوا تأويل المصلى ههنا المدعَى ، وجهوا المصلى إلى أنه مفعّل من قول القائل : صليت بمعنى دعوت . وقائلو هذه المقالة هم الذين قالوا : إن مقام إبراهيم هو الحجّ كله .
فكان معناه في تأويل هذه الآية : واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار وسائر أماكن الحجّ التي كان إبراهيم يقوم بها مداعي تدعونني عندها ، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها ، فإني قد جعلته لمن بعده من أوليائي وأهل طاعتي إماما يقتدون به وبآثاره ، فاقتدوا به .
وأما تأويل القائلين القول الاَخر ، فإنه : اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده ، عبادة منكم ، وتكرمة مني لإبراهيم . وهذا القول هو أولى بالصواب لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِي } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَعَهِدْنَا وأمرنا . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } قال : أمرناه .
فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين . والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت ، هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك بالله .
فإن قال قائل : وما معنى قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطائِفِينَ } وهل كان أيام إبراهيم قبل بنائه البيت بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم ، فيجوز أن يكونا أُمِرا بتطهيره ؟ قيل : لذلك وجهان من التأويل ، قد كان لكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل ، أحدهما : أن يكون معناه : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطهّرا من الشرك والريب ، كما قال تعالى ذكره : أفَمنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ ، فكذلك قوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ } أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ } يقول : ابنيا بيتي .
فهذا أحد وجهيه ، والوجه الاَخر منهما أن يكونا أُمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه والبيت بعد بنيانه مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه على عهد نوح ومن قبله من الأوثان ، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما ، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به مَنْ بعده . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أنْ طَهّرَا }قال : من الأصنام التي يعبدون التي كان المشركون يعظمونها .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير : { أنْ طَهّرَا بَيتِيَ للطّائِفِينَ }قال : من الأوثان والريب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، مثله .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : من الشرك .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن مجاهد : { طَهّرَا بَيْتِيَ للطّائَفِينَ }قال : من الأوثان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { طَهّرَا بَيْتِيَ للطّائِفِينَ }قال : من الشرك وعبادة الأوثان .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بمثله ، وزاد فيه : وقول الزور .
القول في تأويل قوله تعالى : للطّائِفِينَ .
اختلف أهل التأويل في معنى الطائفين في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غربة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو حصين ، عن سعيد بن جبير في قوله : { للطّائِفِينَ } قال : من أتاه من غربة .
وقال آخرون : بل الطائفون هم الذين يطوفون به غرباء كانوا أو من أهله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء : { للطّائِفِينَ } قال : إذا كان طائفا بالبيت ، فهو من الطائفين .
وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء لأن الطائف هو الذي يطوف بالشيء دون غيره ، والطارىء من غربة لا يستحقّ اسم طائف بالبيت إن لم يطف به .
القول في تأويل قوله تعالى : { والعاكِفِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَالعاكِفِينَ } والمقيمين به ، والعاكف على الشيء : هو المقيم عليه ، كما قال نابغة بني ذبيان :
عُكُوفا لَدَى أبْياتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْ *** رمى اللّهُ فِي تِلْكَ الأكُفّ الكوَانِعِ
وإنما قيل للمعتكف معتكف من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : وَالعاكِفِينَ فقال بعضهم : عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء ، قال : إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين .
وقال بعضهم : العاكفون هم المعتكفون المجاورون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة : { طَهّرَا بَيْتِيَ للطائِفِينَ وَالعاكِفِينَ } قال : المجاورون .
وقال بعضهم : العاكفون هم أهل البلد الحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو حصين ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَالعاكِفِينَ } قال : أهل البلد .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالعاكِفِينَ } قال : العاكفون : أهله .
وقال آخرون : العاكفون : هم المصلون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : { طَهّرَا بَيْتِي للطّائِفِينَ وَالعاكِفِينَ } قال : العاكفون : المصلون .
وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء ، وهو أن العاكف في هذا الموضع : المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة ، لأن صفة العكوف ما وصفنا من الإقامة بالمكان . والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصلَ وطائف وقائم ، وعلى غير ذلك من الأحوال فلما كان تعالى ذكره قد ذكر في قوله : { أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ للطّائِفِينَ والعاكِفِينَ والركّعِ السّجُودِ } المصلين والطائفين ، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من العاكف غير حال المصلي والطائف ، وأن التي عنى من أحواله هو العكوف بالبيت على سبيل الجوار فيه ، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالرّكّعِ السّجودِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَالرّكّعِ جماعة القوم الراكعين فيه له ، واحدهم راكع . وكذلك السجود هم جماعة القوم الساجدين فيه له واحدهم ساجد ، كما يقال رجل قاعد ورجال قعود ورجل جالس ورجال جلوس فكذلك رجل ساجد ورجال سجود . وقيل : بل عنى بالركّع السجود : المصلين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء : { وَالرّكّعِ السّجُودِ } قال : إذا كان يصلي فهو من الركّع السجود .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالرّكّعِ السجّودِ }أهل الصلاة . وقد بينا فيما مضى بيان معنى الركوع والسجود ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا .
{ وإذ جعلنا البيت } أي الكعبة ، غلب عليها كالنجم على الثريا . { مثابة للناس } مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم ، أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره . وقرئ : " مثابات " أي لأنه مثابة كل أحد . { وأمنا } وموضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى : { حرما آمنا } . ويتخطف الناس من حولهم ، أو يأمن حاجه من عذاب الآخرة من حيث أن الحج يجب ما قبله ، أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج ، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه . { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } على إرادة القول ، أو عطف على المقدر عاملا لإذ ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه واتخذوا ، على أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أمر استحباب ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه ، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ، أو رفع بناء البيت وهو موضعه اليوم . روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه وقال : " هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ، فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت " وقيل المراد به الأمر بركعتي الطواف ، لما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام : لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وللشافعي رحمه الله تعالى في وجوبهما قولان . وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله . وقيل مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ، ويتقرب إلى الله تعالى . وقرأ نافع وابن عامر { واتخذوا } بلفظ الماضي عطفا على { جعلنا } أي : واتخذوا الناس مقامه الموسوم به ، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها . { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أمرناهما . { أن طهرا بيتي } ويجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول ، يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به ، أو أخلصاه . { للطائفين } حوله . { والعاكفين } المقيمين عنده ، أو المعتكفين فيه { والركع السجود } . أي المصلين ، جمع راكع وساجد .
تدرجُ في ذكر منقبة إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة . و ( إذ ) أضافها إلى جلالته فقال : ( بيتي ) ، واستهلالٌ لفضيلة القبلة الإسلامية ، فالواو عاطفة على { ابتلى } [ البقرة : 124 ] وأعيدت ( إذ ) للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى ، ولا التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر الفضائل ، ولأن الواو لا تفيد ترتيباً .
والبيت اسم جنس للمكان المتخذ مسكناً لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض ، وهو مكان من الأرض يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلاً به لنفسه ولمن يتبعه فيكون مستقَراً له وكناً يكنه من البرد والحر وساتراً يستتر فيه عن الناس ومحطاً لأثاثه وشؤونه ، وقد يكون خاصاً وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة الاجتماع في بني إسرائيل ، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة ، وقد يكون من أديم مثل القباب ، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها } [ النحل : 80 ] ، ولا يكون بيتاً إلا إذا كان مستوراً أعلاه عن الحر والقُر وذلك بالسقف لبيوت الحجر وبيوت الأديم والخيام .
والبيت علم بالغلبة على الكعبة كما غلب النجم على الثريا . وأصل أل التي في الأعلام بالغلبة هي أل العهدية وذلك إذا كثر عهد فرد من أفراد جنس بين طائفة أو قوم صار اسم جنسه مع أل العهدية كالعلم له ثم قد يتعهدون مع ذلك المعنى الأصلي كما في النجم للثريا والكتاب للقرآن والبيت للكعبة ، وقد ينسى المعنى الأصلي إما بقلة الحاجة إليه كالصعِق علم على خويلد بن نفيل وإما بانحصار الجنس فيه كالشمس .
والكعبة بيت بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده دون شريك فيأوي إليه من يدين بالتوحيد ويطوف به من يقصد تعظيم الله تعالى ولذلك أضافه إلى الله تعالى باعتبار هذا المعنى كما قال : { أن طهرا بيتي للطائفين } وفي قوله : { عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] وقد عرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية قال زهير :
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله *** رجالٌ بنوه من قريش وجُرهم
والمثابة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع ويقال مثابة ومثاب مثل مقامة ومقام ، والمراد بالمثابة أنه يقصده الناس بالتعظيم ويلوذون به .
والمراد من الناس سكان مكة من ذرية إسماعيل وكل من يجاورهم ويدخل في حلفهم ، فتعريف الناس للجنس المعهود ، وتعليق للناس بمثابة على التوزيع أي يزوره ناس ويذهبون فيخلفهم ناس .
ولما كان المقصود من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون ، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه ، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه الناس الذين ألفوه وهم كُمَّل الزائرين فهم يعودون إليه مراراً ، وكذلك كان الشأن عند العرب .
والأمن مصدر أخبر به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة . والأمن حفظ الناس من الأضرار فتشريد الدعَّار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن ، والانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن ، فالأمن يفسر في كل حال بما يناسبه ، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف ، فجعل الله لهم البيت أمناً للناس يومئذ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف قال تعالى : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] فهذه منة على أهل الجاهلية ، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حكامه فكان ذلك أمناً كافياً . قال السهيلي فقوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام .
وقد اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية وأضرابها على حكم إقامة الحدود والعقوبات في الحرم وسيأتي تفصيلها عند قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] الآية وليس من غرض هذه الآية .
والمراد من الجعل في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه ، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة ، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى ، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي ( نسبة إلى بلدة يقال لها جنابة بتشديد النون ) كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافاً من الناس وكان يقول لهم يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي { ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] أيّ أمن هنا ؟ وهو جاهل غبي لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمناً في مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم ، أو هو خبر مراد به الأمر مثل { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] .
وقوله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفاً على { جعلنا } فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا واتخذوه ، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك فاتخذوا ، وقرأه باقي العشرة بكسر الخاء بصيغة الأمر على تقدير القول أي قلنا اتخِذوا بقرينة الخطاب فيكون العامل المعطوف محذوفاً بالقرينة وبقي معموله كقول لبيد :
فَعَلاَ فروعُ الأَيهقان وأطفلتْ *** بالجَلْهَتَيْن ظِبَاؤُها ونَعَامُها
أراد وباضت نعامها فإنه لا يقال لأفراخ الطير أطفال ، فمآل القراءتين إلى مفاد واحد .
ومقام إبراهيم يطلق على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها يعبد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ، قال زيد بن عمرو بن نفيل :
عذت بما عاذ به إبراهِمْ *** مُستقبِلَ الكعبةِ وهو قائمْ
وبهذا الإطلاق جاء في قوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] إذ الدخول من علائق البيت ، ويطلق مقام إبراهيم على الحَجَر الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار كما أخرجه البخاري ، وقد ثبتت آثار قدميه في الحَجَر . قال أنس بن مالك رأيتُ في المقام أَثَر أصابعه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، وهذا الحجر يعرف إلى اليوم بالمقام ، وقد ركع النبيء صلى الله عليه وسلم في موضعه ركعتين بعد طواف القدوم فكان الركوع عنده من سنة الفراغ من الطواف .
والمصلَّى موضع الصلاة وصلاتهم يومئذ الدعاء والخضوع إلى الله تعالى ، وكان إبراهيم قد وضع المسجد الحرام حول الكعبة ووضع الحَجَر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها فكان المصلَّى على الحجر المسمى بالمقام فذلك يكون المصلى متخَذاً من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين .
والقراءتان تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلَّى كان من عهد إبراهيم عليه السلام ولم يكن الحَجَر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصاً بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجدَ الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم . روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : « وافقت ربي في ثلاث : قلتُ يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، وهذه الرواية تثير معنى آخر للآية وهي أن يكون الخطاب موجهاً للمسلمين فتكون جملة { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } معترضة بين جملة { جعلنا البيت مثابة للناس } وجملة { وعهدنا إلى إبراهيم } اعتراضاً استطرادياً ، وللجمع بين الاحتمالات الثلاثة في الآية يكون تأويل قول عمر « فنزلت » أنه نزل على النبيء صلى الله عليه وسلم شَرْع الصلاة عند حَجَر المقام بعد أن لم يكن مشروعاً لهم ليستقيم الجمع بين معنى القراءتين واتخَذوا بصيغة الماضي وبصيغة الأمر فإن صيغة الماضي لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم وصيغة الأمر تحتمل ذلك وتحتمل أن يراد بها معنى التشريع للمسلمين ، إعمالاً للقرآن بكل ما تحتمله ألفاظه حسبما بيناه في المقدمة التاسعة .
وقوله : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } ، العهد أصله الوعد المؤكد وقوعُه وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { قال لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] ، فإذا عدي بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على المُوصَى العمل بها فعهد هنا بمعنى أرسل عهداً إليه أي أرسل إليه يأخذ منهم عهداً ، فالمعنى وأوصينا إلى إبراهيم وإسماعيل .
وقوله : { أن طَهرا } أن تفسيرية لأن الوصية فيها معنى القول دون حروفه فالتفسير للقول الضمني والمفسِّر هو ما بعد ( أن ) فلا تقدير في الكلام ولولا قصد حكاية القول لما جاء بعد ( أن ) بلفظ الأمر ، ولقال بتطهير بيتي إلخ .
والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبِّد فيه مقبلاً على العبادة دون تكدير ، ومِن تطهير معنوي وهو أن يُبْعَد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق ، والمنافية للمروءة كالطواف عرياً دون ثياب الرجال والنساء .
وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] وقال : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } [ لبتبة : 28 ] .
والطائفون والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طوافٍ واعتكاف وصلاة ، وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف ، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام ، وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكلّ من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم .
وقد جمع الطائف والعاكف جمع سلامة ، وجمع الراكع والساجد جمع تكسير ، تفنناً في الكلام وبعداً عن تكرير الصيغة أكثر من مرة بخلاف نحو قوله : { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات } [ التحريم : 5 ] الآية ، وقوله : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } [ الأحزاب : 35 ] الآية ، وقال ابن عرفة « جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون أي يجددون الطواف للإشعار بعلة تطهير البيت وهو قرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود فإنه لا يلزم أن يكونا في البيت ولا عنده فلذلك لم يجمع جمع سلامة » ، وهذا الكلام يؤذن بالفرق بين جمع السلامة وجمع التكسير من حيث الإشعار بالحدوث والتجدد ، ويشهد له كلام أبي الفتح ابن جني في « شرح الحماسة » عند قول الأحوص الأنصارى :
فإذا تزول تزول عن متخمِّط *** تُخشى بوادرُه على الأقران
قال أبو الفتح : « جاز أن يتعلق على ببوادر ، وإن كان جمعاً مكسراً والمصدر إذا كسر بَعُد بتكسيره عن شبه الفعل ، وإذا جاز تعلق المفعول به بالمصدر مكسراً نحو « مواعيد عرقوب أخاه » كان تعلق حرف الجر به أجوز » . فصريح كلامه أن التكسير يبعد ما هو بمعنى الفعل عن شبه الفعل .
وخولف بين الركوع والسجود زيادة في التفنن وإلا فإن الساجد يجمع على سجّد إلا أن الأكثر فيهما إذا اقترنا أن يخالف بين صيغتيهما قال كثير :
لو يسمعون كما سمعت كلامها *** خروا لعزة ركعاً وسجودا
وقد علمتم من النحو والصرف أن جمع فاعل على فعول سماعي فمنه شهود وهجوع وهجود وسجود .
ولم يعطف السجود على ( الركع ) لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان .